يتم التحميل...

هجرة الحضارات في المنظور القرآني

مفاهيم قرآنية

اتضح أنّ القرآن الكريم يتبنّى عقيدة هجرة الحضارات. فيما يلي يجب أن نبحث حول دوافع وأسباب هجرة الحضارات من مكان إلى آخر. لماذا تفقد الحضارة القدرة على التطوّر في أرض بينما تمتلكها في أرض أخرى؟

عدد الزوار: 209

اتضح أنّ القرآن الكريم يتبنّى عقيدة هجرة الحضارات. فيما يلي يجب أن نبحث حول دوافع وأسباب هجرة الحضارات من مكان إلى آخر. لماذا تفقد الحضارة القدرة على التطوّر في أرض بينما تمتلكها في أرض أخرى؟
 
إنّ دراسة الحضارات القديمة، تبين أنّ الشعوب والأرض تكون في مرحلة وبرهة من الزمن تحمل لياقة ونموّ وتطوّر الحضارة وتفقدها في مرحلة وبرهة أخرى.
 
فالروم على سبيل المثال كانوا ولمدّة ألف سنة[1]، يحملون قدرة واستعداداً عاليين، فتمكّنوا من إيجاد حضارة كبيرة وحافظوا عليها لسنوات طويلة، وبعد ذلك فقد الروم هذه القدرة والاستعداد وفقدوا ذاك الدفء الذي تحيا الحضارة تحت ظلاله، لذلك هاجرت الحضارة الرومانية إلى أماكن عديدة، أي أنها تفرّقت إلى أجزاء، هاجر كلّ منها إلى مكان.
 
يشير القرآن الكريم إلى أنّ تقدّم وانتشار وانحطاط الحضارة إنما هو في ظلّ عمل الناس وضعفهم فيه. إذا كانت الأرض تمتلك خصائص وأرضية الإنتاج والعطاء الحضاري، وكان شعب تلك الأرض مُجدّاً وصاحب قدرات فكرية وجسمية، عند ذلك لا تتّجه تلك الحضارة نحو الانحطاط، والعكس صحيح، أي إذا وجد الضعف وطلب الراحة وإذا فقدت القدرات الفكرية الضرورية، عند ذلك تكون الأرض عقيمة من الحضارة ولا تلد تلك الأرض حضارة على الإطلاق ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾[2].
 
الله تعالى لا يطفئ مصباح أمة مُضاءً، إلّا أنّ الأمة هي التي تضع هذا المصباح في مهبّ الريح حيث سينطفئ هذا المصباح بالتأكيد طبق السنّة الإلهية. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾[3].
 
البشر قادرون على الوقوف في وجه الرياح، وقادرون على حفظ هذا المصباح مضاءً دائماً، وقادرون بما يمتلكون من بُعْد نظر وجامعية في الفكر، من منع كلّ الآفات والأخطاء التي تدفع الحضارة نحو الظلام والتي تجعل من أسسها ضعيفة. وكلّ أمة تتمكّن من إدراك سرّ بقاء حضاراتها، يمكنها الحفاظ عليها لسنوات طويلة، وبالتالي بإمكانهم الحفاظ عليها بعيداً عن الأخطار التي تهدّدها. أمّا أبرز وأهمّ أسرار الحضارة التي ذكرها المتخصّصون في الحضارات وأصحاب المطالعة في تاريخ الأمم، فهو القدرة على التكيّف مع تحوّلات الزمان. إذا لم تصرّ الأمة التي وُلدت الحضارة فيها على الأمور غير الضرورية لبقائها، وإذا لم تنظر إلى المستقبل بعين الماضي، فستبقى هذه الحضارة.

  يعتبر الشهيد مطهّري أنّ النظر إلى المستقبل بعين الماضي، سبب خراب وأفول الحضارة، ويوضح سرّ أفول الحضارات نقلاً عن إدوارد هالتكار، المتخصّص بالتاريخ والمنظّر في باب التاريخ وحضارة البشر: "يتمكّن الإنسان من التغلّب على أساس انحطاط الحضارة بما يمتلك من نموّ معرّفي. والسرّ في ذلك أنّ أمة ترتقي لأسباب خاصّة، إلّا أنّ ظروف المكان تتغيّر بعد ذلك، وأنّ هؤلاء قد ارتووا من الماضي بحيث يميلون إلى النظر للمستقبل بعين الماضي دائماً، أي أنهم يغفلون عن التغييرات، فيضعف زمانهم وأمّا إذا ظهرت حضارة مع روح وخصائص خاصّة وأعطت شعبها القدرة على المرونة، أي عدم الإصرار على الأمور غير الضرورية، فهذه الحضارة يمكنها أن تبقى للأبد"[4].
 
بناءً على هذا التحليل، فإنّ كافّة العوامل والدوافع والأسباب التي تؤدّي إلى وجود الحضارة، لا يمكنها أن تكون كذلك على مستوى بقائها.

ينبغي على الشعوب صاحبة الحضارات عدم التعلّق بماضيها والغفلة عن الأحداث المحيطة بها. الزمان يغير الكثير من الأمور، وإذا لم يتغير قالب المجتمع والحضارة وإذا لم يتغير الباطن تارة ولم يحصل التأقلم مع الزمان، يفقد حيويته وضياءه ويصبح في الحاشية.
 
قد تكون الأمة صانعة للحضارة في مرحلة ما، وقد تكون في مرحلة تعيش حالة تطوّر وتقدّم حيث تحمل لواء الحضارة، إلّا أنها تصبح منزوية وخارجة عن الزمان إذا كانت تعود إلى الماضي باستمرار وإذا كانت تعتبر أنها مكتفية بالماضي وإذا كانت تجد أنها في غنى عن الموجات الجديدة والمستقبلية، حيث تعتبر كلّ حركة وابتكار وكلّ كلام جديد، أمراً صغيراً حقيراً غير ذي قيمة.
 
يؤكّد القرآن الكريم على أنّ البشر يجب أن يكونوا مبدعين في كلّ حركة، وإذا وصل المجتمع إلى أوج الكمال أو تدنى إلى مستويات الذلّ، فكلّ ذلك يتعلّق بأهل ذاك المجتمع. إذا أتجه هؤلاء الناس لإيجاد تغيير إيجابي، يتجه المجتمع نحو الإيجاب ويبلغ الأوج، وأمّا إذا كان التغيير سلبياً وابتعد عن الأمور الحسنة والخصال الحسنة والسلوك الحسن، فسيغرق في الوحول العفنة، وسيسقط المجتمع في وحول الذلّ. نعم يجب عليهم عدم تقليد الآباء والأجداد بشكل أعمى، ويجب رفع كلّ ما يمنع التقدّم والتطوّر.
 
حذّر الله تعالى البشر في القرآن الكريم وأراد لهم الخروج من حصار التقليد ومعرفة طريق الصواب من الضلال بوساطة فكرهم.
 
إذاً يؤكّد القرآن الكريم أنّ الناس هم الذين يقومون بالدور الأساس حيث يمكنهم إيجاد حضارة بجهودهم وعملهم وحركتهم السليمة والعاقلة، وكل ذلك طبقاً للسنّة الإلهيّة وأمّا الاستسلام للضعف والخضوع والكسل والحركات المريضة وعدم التلاؤم مع السنن الإلهية، فكل ذلك يؤدّي إلى موت الحضارة. ومن المناسب التوقّف مليّاً عند رؤية القرآن الكريم لظاهرة الحضارة والشعب المبدع للحضارة ومن المناسب الاطّلاع على زوايا حياة الشعوب والأقوام أصحاب الحضارة الذين أخبر القرآن الكريم عن زوالهم وذلك للعبرة والتعلّم.
 
طبعاً في هذا المجال لا يمكن الإشارة إلى كافّة الموارد التي ذكرها القرآن الكريم، إلا أنه من الممكن الالتفات إليها ولو بشكل إجمالي، والإشارة إلى بعض السلوكيات القبيحة التي ابتلي بها موجدو الحضارة حيث كانت عاقبتهم الزوال، وبالتالي أفول الحضارة في تلك الأرض وطلوعها في أرض أخرى.
 
هذه الرؤية، تبين جزءاً من رؤية القرآن والتي هي رؤية دقيقة وجامعة وعميقة.
  
* روضة المبلغين (4) 2015م - جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


[1] جولة في تاريخ العالم، جواهر لعل نهرو، ترجمة محمود تفضلي،ج1، 200، أمير كبير.
[2] سورة الرعد، 11.
[3] سورة الأنفال، 53.
[4] مجموعة الآثار،ج13، 818.

2024-08-13