يتم التحميل...

من بركات إقامة العزاء الحسينيّ

محطات من محرم الحرام

لم يكن الهدف الذي أصرّ لأجله أئمّة أهل البيت  عليهم السلام كلّ هذا الإصرار على إحياء المراسم التي يُذكر فيها صمود وتضحيات الإمام الحسين عليه السلام، المحامي عن الحقّ،

عدد الزوار: 656

لم يكن الهدف الذي أصرّ لأجله أئمّة أهل البيت  عليهم السلام كلّ هذا الإصرار على إحياء المراسم التي يُذكر فيها صمود وتضحيات الإمام الحسين عليه السلام، المحامي عن الحقّ، سوى إحياء أهدافه السامية، وإيصال صوت مظلوميّة آل عليٍّ عليه السلام إلى مسامع البشريّة جمعاء، وفي هذا السياق، فإنّ الأمّة التي لا تقف وقفة تبجيلٍ وإجلال عند تضحيات العظماء من رجالاتها فهي - لا محالة - أمّة محكومة بالزوال والفناء.
 
وتعدّ إقامة المآتم ومجالس العزاء الحسينيّ من أفضل الوسائل التي يمكن الاعتماد عليها في تبليغ المعارف الإسلاميّة وأحكام الله تعالى، وفي صيانة الدّين من الانحراف، وحفظه من هجمات الأعداء وغدرهم، نظراً لما تتمتّع به هذه المآتم والمجالس من جاذبيّة شكليّة ومضمونيّة. كما تشكّل هذه المراسم أيضاً حركةً تبليغيّة نافعةً ومفيدة في العديد من المجالات، ولا سيّما في مواجهة الأفكار الباطلة التي تحاول التيّارات العلمانيّة أن تضخّها أو التي يعدّها الاستكبار العالميّ وأدواته لتقف في مقابل الإسلام.
 
وهذا - في الحقيقة - هو معنى قوله  صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الحسين مصباح هدى وسفينة نجاة"[1]، وإنّ ثورة الإمام الحسين عليه السلام العظيمة هي التي حفظت الإسلام، ولولاها لأفل فجر الإسلام منذ القرن الأوّل، ولم يبقَ من الشريعة النبويّة عين ولا أثر. وقد أنبأنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قبل عن الدور الكبير والاستثنائيّ الذي ستقوم به الثورة الحسينيّة في حفظ الإسلام وبقائه بقوله الشهير: "حسين منّي وأنا من حسين"[2]. وإلى هذا المعنى أيضاً تنظر العبارة المعروفة: "الإسلام محمّديّ الحدوث، حسينيّ البقاء". فإذا كان الإسلام مديناً في أصل وجوده وحدوثه للنبيّ محمّد  صلى الله عليه وآله وسلم، فهو في استمراره وبقائه مدين للإمام الحسين عليه السلام، الذي هو - بحقّ - سيّد المدافعين عن الحقّ والحقيقة.
 
وهنا تتكشّف لنا الحقيقة الآتية، وهي أنّ كلّ ما لدينا فهو من بركات وجود الإمام الحسين عليه السلام، لأنّ تضحيته وإيثاره وشهادته المباركة هي التي حفظت لنا أحكام الإسلام حيّةً باقية إلى يوم القيامة. كما أنّ تلك المجالس التي تقام على سيّد الشهداء عليه السلام قد أسهمت في نشر روحيّة الإيثار والتضحية في المجتمع، وفي تعميق وتعميم الشعور بضرورة السعي نحو تحقيق العدالة، والانتقام من الظالمين، وهكذا بقيت هذه المشاعر حيّةً ومتوقّدة، وازداد معها الميل نحو الصبر والتجلّد في مواجهة المشكلات والملمّات.
 
إنّ تذكّر مفردات ومكوّنات النهضة الحسينيّة يشكّل واحداً من أقوى الدوافع التي تبعث على توسيع وتفعيل دائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى إشعال فتيل الثورات الدامية على الظلم والظالمين.
 
وفي الواقع، إنّ إقامة هذا النحو من المجالس هو تجديد للبيعة مع الأئمّة  عليهم السلام، وشكل من أشكال الإيفاء والتأدية لأجر الرسالة النبويّة، وذلك أنّ الحضور في مثل هذه المجالس يمثّل تأييداً ضمنيّاً للأفكار والأهداف السامية التي جسّدها الإمام أبو عبد الله الحسين عليه السلام، والتي - بدورها - دعا إليها وحثّ عليها رسول الله الأعظم  صلى الله عليه وآله وسلم.
 
واليوم، فإنّ المجالس التي تُعقد لذكر الأئمّة من أهل البيت  عليهم السلام شبيهة إلى حدٍّ كبير بالحجّ الإبراهيميّ، حيث إنّها - مثله - تُعدّ من أهمّ العوامل والأسباب القادرة على أن تحقّق الوحدة العاطفيّة والسياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة بين المسلمين[3]، علماً بأنّنا لو أردنا أن نحقّق هذه الوحدة بالمال والإمكانيّات المادّيّة، لوجدنا ذلك أمراً صعباً وعسيراً للغاية، بل يكاد يكون محالاً. فهذه المجالس هي بمثابة استعراضٍ تُعرض فيه روائع صور الكرامة الإنسانيّة التي رُسمت بيد الولاية، وفي هذه المجالس تهتزّ أرواح أحرار العالم، وتحلّق في الفضاء الرحب، وتطرب لذكر الشهداء الأحرار وسماع تضحياتهم.
 
ولو أنّ كلّ محبّ لأبي عبد الله الحسين عليه السلام امتلك المعرفة اللّازمة به عليه السلام، لسعى بكلّ ما أُوتي من قوّة إلى أن يجعل صفاته وسجاياه شبيهةً بصفات محبوبه وسجاياه، بل إلى أن يحوّل نفسه إلى مرآةٍ يتجلّى فيها جمال ذلك المحبوب، بل إلى أن تزداد هذه المرآة شفافيّةً ووضوحاً يوماً بعد يوم، ليبرز فيها ذلك الجمال بأروع صورةٍ ممكنة.
 
وفي ذلك يقول الإمام القائد دام ظله:
"إنّ هذه المواكب الحسينيّة التي تتحرّك وتنشط في الأيّام العشرة الأُولى من شهر محرّم في كلّ عام هي كماء المطر الذي يجري على الأرض فيطهّرها وينظّفها ويزيل كافّة الأوساخ والأقذار منها، وهكذا تلك المواكب، فهي تطهّر بيئتنا الاجتماعيّة من كلّ الوساوس والشبهات والتلقينات الفاسدة التي يبثّها الأعداء، وتضفي عليها روحاً جديدة عابقةً بالعشق والإيمان الإلهيّ.
 
"وإنّ تلك الدموع التي تُذرف في مجالس العزاء على سيّد الشهداء عليه السلام لها دور كبير في هداية الآلاف وسوقهم خلال هذه القرون الأخيرة نحو أحضان الإسلام المحمّديّ الأصيل"[4].
 
"فهذه المجالس هي - في حدّ نفسها - من شعائر الإسلام، وفي ظلالها، ومن خلالها، وبوساطتها، يتمّ إحياء الكثير من شعائر هذا الدّين. ولقد عاين الشعب الإيرانيّ آثار هذه المجالس وبركاتها، ورأى بأمّ عينيه كيف انبثقت الثورة الإسلاميّة من تلك المجالس التي كانوا يقيمونها أيّام عاشوراء وتاسوعاء. ومن ثورة الإمام الحسين عليه السلام، ومن واقعة كربلاء الدامية، استلهم الثوّار دروس الصمود والثبات في مواجهة الكفر والظلم"[5].
 
ومن هنا نعرف السرّ فيما صنعه المرحوم آية الله العظمى السيّد حسين الطباطبائيّ البروجرديّ (أعلى الله مقامه)، وهو أحد كبار مراجع التقليد عند الشيعة في عصره وزمانه، حيث أوصى بثلث أمواله وقفاً لتُنفق في إقامة مجالس عزاء الإمام الحسين عليه السلاموإحيائها في كلّ عام[6].
 
وإذا كان لمجالس العزاء على أبي عبد الله الحسين عليه السلام هذه الدرجة من البركة والأهمّيّة، فهي - إذاً - فرصة لا يجوز تفويتها، بل يجب اغتنامها، واستغلالها، وهي جوهرة ثمينة تجدر المحافظة عليها، ويجب التمسّك بها، والعمل على تحسينها، وتطويرها.
 
وما ورد في هذا المجال من دعواتٍ صادقة ومخلصة من قبل عددٍ من علماء الإسلام، كالمحدّث الكبير الميرزا حسين النوريّ رحمه الله في كتابه (اللّؤلؤ والمرجان)، والعلّامة السيّد محسن الأمين رحمه الله في رسالة (التنزيه لأعمال التشبيه)، والأستاذ الشهيد آية الله مرتضى مطهّريّ رحمه الله في كتاب (الملحمة الحسينيّة)، فإنّما هو ناظر إلى هذا الأمر المهمّ الذي ذكرناه.
 
إنّ بإمكاننا أن نحافظ على هذه الجوهرة القيّمة، وأن نستفيد من قدرتها الهائلة على إحياء النفوس، وذلك لا يتمّ إلّا بتخليصها من الشوائب التي التصقت بها، وتنقيتها وتهذيبها من كلّ الخرافات والأخبار الزائفة، وعندئذٍ فقط، يمكن لنا أن نشهد تحوّلاً كبيراً في مواجهة الكفر والاستكبار.
  
* نهضة عاشوراء (3)، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


[1] عيون أخبار الرضا عليه السلام، ج1، ص60, بحار الأنوار، ج36، ص205، ج94، ص 184.
[2] بحار الأنوار، ج43، ص261, صحيح الترمذيّ، ج2، ص307, صحيح ابن ماجه، باب فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, مستدرك الصحيحين، ج3، ص177, فضائل الخمسة، ج3، ص262.
[3] راجع : صحيفة النور، ج21، ص173.
[4] دور المنبر الحسينيّ في التوعية الإسلاميّة، ص112 113, المنهج في الانتماء المذهبيّ، ص31 32, لقد شيعني الحسين عليه السلام، ص63 65 و 313 315, ثمّ اهتديت، ص96 98 نقلاً عن كتاب وقعة عاشوراء.. شبهات وردود.
[5] راجع : صحيفة النور، ج2، ص11، وج 16، ص219 وج 17، ص255.
[6] حياة آية الله البروجرديّ، ص146.

2024-07-05