لقد كان نبي الله إبراهيم عليه السلام من الأنبياء العظام الذين اصطفاهم الله
وقربهم إليه حتى أنه استحق لقب خليل الله لشدة قربه وعبوديته ومراعاته لرضا محبوبه
وخالقه. ومن الصفات التي جعلت لإبراهيم عليه السلام صفة الوفاء، وهي ميزة وصفة
ذكرها القرآن، حيث وصفه الله عزوجل في سورة النجم قائلاً: "ﻭﺇﺑﺮﺍﻫﻴﻢ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻭﻓﻰ"[1].
فلماذا وصفه الله عز وجل بهذه الصفة؟ وما هي الأمور التي وفى بها إبراهيم عليه
السلام حتى استحق الاصطفاء الإلهي؟
يقول أحد المفسرين تعقيباً على هذه الآية: "وإبراهيم الذي وفى"، "إبراهيم": هو ذلك
النبي العظيم الذي أدى حق رسالة الله، وبلغ ما أمره به ووفى بجميع عهوده ومواثيقه،
ولم يخش تهديد قومه وطاغوت زمانه، ذلك الإنسان الذي امتحن بمختلف الامتحانات حتى
بلغ به أن يقدم ولده ليذبحه بأمر الله، وخرج منتصرا مرفوع الرأس من جميع هذه
الامتحانات ونال المقام السامي لقيادة الأمة.. كما نقرأ هذا المعنى في الآية (124)
من سورة البقرة إذ تقول: "وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك
للناس إماما". وقال بعض المفسرين في توضيح معنى الآية: أنه بذل نفسه للنيران وقلبه
للرحمن وولده للقربان وماله للاخوان"[2]. فكان الوفاء الإبراهيمي في جميع هذه
الأبعاد التي ذكرت آنفاً.
ويمكن التفصيل أكثر فيما وفى به نبي الله إبراهيم (عليه السلام):
1- ﻭﻓﻰ ﺑﺄﻭﺍﻣﺮ ﺭﺑﻪ ﻓﻔﻌﻞﻣﺎ ﺃﻣﺮ ﺍﻟﻠﻪ ﺑﻪ، ﻭﺍﺟﺘﻨﺐ ﻣﺎ ﻧﻬﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻭﺻﺪَّﻕ ﺧﺒﺮ ﺍﻟﻠﻪ،
ﻭﺃﺧﻠﺺ ﺩﻳﻨﻪ ﻟﻠﻪ ﻭﻟﻬﺬﺍﺍﺳﺘﺤﻖ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺜﻨﺎﺀ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﻠﻪ.
2- ﻭﻓﻰ ﺑﺎﻟﺘﻮﺣﻴﺪ ﻓﺤﻘﻘﻪﺃﺗﻢ ﺗﺤﻘﻴﻖ، ﺇﺫ ﺩﻋﺎ ﺃﺑﺎﻩ ﻭﻗﻮﻣﻪ ﻭﺃﺣﺴﻦ ﻓﻲ ﺩﻋﻮﺗﻪ ﻟﻬﻢ ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻝ
ﺗﻌﺎﻟﻰ {ﻭﺇﺫ ﻗﺎﻝ ﺇﺑﺮﺍﻫﻴﻢﻷﺑﻴﻪ ﺁﺯﺭ ﺃﺗﺘﺨﺬ ﺃﺻﻨﺎﻣﺎ ﺁﻟﻬﺔ ﺇﻧﻲ
ﺃﺭﺍﻙ ﻭﻗﻮﻣﻚ ﻓﻲ ﺿﻼﻝ ﻣﺒﻴﻦ}[3]، ﻭﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ:
{ﻭﻟﻘﺪ ﺁﺗﻴﻨﺎﺇﺑﺮﺍﻫﻴﻢ ﺭﺷﺪﻩ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﻭﻛﻨﺎ ﺑﻪ ﻋﺎﻟﻤﻴﻦ * ﺇﺫ ﻗﺎﻝ ﻷﺑﻴﻪ ﻭﻗﻮﻣﻪ ﻣﺎ ﻫﺬﻩ
ﺍﻟﺘﻤﺎﺛﻴﻞ ﺍﻟﺘﻲﺃﻧﺘﻢ ﻟﻬﺎ ﻋﺎﻛﻔﻮﻥ ﻗﺎﻟﻮﺍ ﻭﺟﺪﻧﺎ ﺁﺑﺎﺀﻧﺎ ﻟﻬﺎ ﻋﺎﺑﺪﻳﻦ ﻗﺎﻝ ﻟﻘﺪ ﻛﻨﺘﻢ ﺃﻧﺘﻢ
ﻭﺁﺑﺎﺅﻛﻢ ﻓﻲ ﺿﻼﻝﻣﺒﻴﻦ ﻗﺎﻟﻮﺍ ﺃﺟﺌﺘﻨﺎ ﺑﺎﻟﺤﻖ ﺃﻡ ﺃﻧﺖ ﻣﻦ ﺍﻟﻼﻋﺒﻴﻦ ﻗﺎﻝ ﺑﻞ ﺭﺑﻜﻢ ﺭﺏ
ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕ ﻭﺍﻷﺭﺽ ﺍﻟﺬﻱﻓﻄﺮﻫﻦ ﻭﺃﻧﺎ ﻋﻠﻰ ﺫﻟﻜﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﺸﺎﻫﺪﻳﻦ}[4].
3- ﻭﻓﻰ ﺑﻬﺠﺮ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺸﺮﻙﻭﺍﻟﺘﻨﺪﻳﺪ بهم ﺇﺫ اﻧﻬﻢ ﻟﻤﺎ ﺃﺑﻮﺍ ﺇﻻ ﺍﻟﺒﻘﺎﺀ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺸﺮﻙ ﺑﺎﻟﻠﻪ
ﻭﺍﻟﻜﻔﺮ ﺑﻪ ﻫﺠﺮﻫﻢ ﻭﺗﺮﻛﻬﻢﻭﻣﺎ ﻳﻌﺒﺪﻭﻥ ﻣﻦ ﺩﻭﻥ ﺍﻟﻠﻪ، ﻫﺠﺮﺓ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻝ ﺗﻌﺎﻟﻰ:
{ﻭﺃﻋﺘﺰﻟﻜﻢ ﻭﻣﺎ ﺗﺪﻋﻮﻥﻣﻦ ﺩﻭﻥ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﺃﺩﻋﻮ ﺭﺑﻲ ﻋﺴﻰ ﺃﻥ ﻻ ﺃﻛﻮﻥ ﺑﺪﻋﺎﺀ ﺭﺑﻲ ﺷﻘﻴﺎً}[5].
4- ﻭﻓﻰ ﺑﺘﻮﻛﻠﻪ ﻋﻠﻰ ﺭﺑﻪﻟﻤﺎ ﺍﺑﺘﻼﻩ ﺍﻟﻠﻪ ﺑﺄﺫﻳﺔ ﺍﻟﻤﺸﺮﻛﻴﻦ ﻭﻋﺰﻣﻮﺍ ﻋﻠﻰ ﺇﺣﺮﺍﻗﻪ ﺑﺎﻟﻨﺎﺭ
ﻓﺘﻌﻠﻖ ﺑﺎﻟﻠﻪ ﻭﻓﻮﺽ ﺃﻣﺮﻩﺇﻟﻴﻪ ﻓﺄﻣﺮ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﻨﺎﺭ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﺑﺮﺩﺍ ﻭﺳﻼﻣﺎً ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻝ ﺗﻌﺎﻟﻰ:
{ﻗﺎﻟﻮﺍ ﺣﺮﻗﻮﻩ ﻭﺍﻧﺼﺮﻭﺍﺁﻟﻬﺘﻜﻢ ﺇﻥ ﻛﻨﺘﻢ ﻓﺎﻋﻠﻴﻦ * ﻗﻠﻨﺎ ﻳﺎ ﻧﺎﺭ
ﻛﻮﻧﻲ ﺑﺮﺩﺍ ﻭﺳﻼﻣﺎ ﻋﻠﻰ ﺇﺑﺮﺍﻫﻴﻢ * ﻓﺄﺭﺍﺩﻭﺍ ﺑﻪﻛﻴﺪﺍ ﻓﺠﻌﻠﻨﺎﻫﻢ ﺍﻷﺧﺴﺮﻳﻦ}[6].
5- ﻭﻓﻰ ﺑﺎﺳﺘﺴﻼﻣﻪ ﻷﻣﺮ أمر ﺑﻪ ﺑﻤﺒﺎﺷﺮﺗﻪ ﺫﺑﺢَ ﺍﺑﻨﻪ ﻭﻗﺪ ﺗﻌﻠﻖ ﻗﻠﺒﻪ ﺑﻪ ﻟﻤﺎ ﺑﻠﻎ ﻣﻌﻪ
ﺍﻟﺴﻌﻲ ﻓﻲ ﺳﻦ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﺃﻥ ﻳﺴﻌﻰﻣﻌﻪ ﻟﻤﺎ ﺫﻫﺐ ﻋﻨﻪ ﺗﻜﻠﻔﺔ ﺭﻋﺎﻳﺘﻪ ﻭﻫﻮ ﺳﻦ ﺭﺟﺎﺀ ﺍﻟﻤﻨﻔﻌﺔ ﻣﻨﻪ،
ﻓﺒﺎﺷﺮ ﺫﺑﺤﻪ ﺍﺳﺘﺴﻼﻣﺎ ﻷﻣﺮﺍﻟﻠﻪ ﻟﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﺮﺅﻳﺎ، ﻭﺭﺅﻳﺎ ﺍﻷﻧﺒﻴﺎﺀ (عليهم السلام) ﺣﻖ،
ﻓﻔﺪﻯ ﺍﻟﻠﻪ ﺇﺳﻤﺎﻋﻴﻞ ﺑﺬﺑﺢﻋﻈﻴﻢ، ﻓﻤﻦ ﻛﺈﺑﺮﺍﻫﻴﻢ ﻓﻲ ﺍﺳﺘﺴﻼﻣﻪ ﻷﻣﺮ ﺑﻪ ﻭﺇﺧﻼﺻﻪ ﻟﻪ ﻓﻲ
ﺍﻟﺘﻌﻠﻖ ﻭﺍﻟﺤﺐ ﻭﺍﻟﺮﺟﺎﺀﻭﺍﻟﺨﻮﻑ ﻗﺎﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻣﺨﺒﺮﺍ ﻋﻨﻪ:
{ﻓﻠﻤﺎ ﺑﻠﻎ ﻣﻌﻪ ﺍﻟﺴﻌﻲ ﻗﺎﻝ ﻳﺎ ﺑﻨﻲ ﺇﻧﻲ ﺃﺭﻯ ﻓﻲﺍﻟﻤﻨﺎﻡ ﺃﻧﻲ ﺃﺫﺑﺤﻚ ﻓﺎﻧﻈﺮ ﻣﺎﺫﺍ ﺗﺮﻯ ﻗﺎﻝ ﻳﺎ
ﺃﺑﺖ ﺍﻓﻌﻞ ﻣﺎ ﺗﺆﻣﺮ ﺳﺘﺠﺪﻧﻲ ﺇﻥ ﺷﺎﺀ ﺍﻟﻠﻪ ﻣﻦ ﺍﻟﺼﺎﺑﺮﻳﻦ * ﻓﻠﻤﺎ ﺃﺳﻠﻤﺎ ﻭﺗﻠﻪ ﻟﻠﺠﺒﻴﻦ * ﻭ
ﻧﺎﺩﻳﻨﺎﻩ ﺃﻥ ﻳﺎ ﺇﺑﺮﺍﻫﻴﻢ * ﻗﺪ ﺻﺪﻗﺖ ﺍﻟﺮﺅﻳﺎ ﺇﻧﺎ ﻛﺬﻟﻚﻧﺠﺰﻱ ﺍﻟﻤﺤﺴﻨﻴﻦ * ﺇﻥ ﻫﺬﺍ ﻟﻬﻮ ﺍﻟﺒﻼﺀ
ﺍﻟﻤﺒﻴﻦ * ﻭﻓﺪﻳﻨﺎﻩ ﺑﺬﺑﺢ ﻋﻈﻴﻢ}[7].
وهذا الذي ذكرناه غيض من فيض الوفاء الإبراهيمي.
* إعداد قسم الانتاج الثقافي في شبكة المعارف الإسلامية
[1] ﺍﻟﻨﺠﻢ:37
[2] الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - ج 17 - ص 260
[3] ﺍﻷﻧﻌﺎﻡ: 74
[4] ﺍﻷﻧﺒﻴﺎﺀ: 51-56
[5] ﻣﺮﻳﻢ: 48
[6] ﺍﻷﻧﺒﻴﺎﺀ: 68-70
[7] ﺍﻟﺼﺎﻓﺎﺕ: 102-107