الوفاء بين الحسين (عليه السلام) وأصحابه
الثورة الحسينية المباركة بكل ما فيها من أحداث وشخصيات ومواقف مليئة بالعبر
والدروس، ومليئة بالقيم التي صارت مرجعاً لكل من يريد أن يزرع بذور الأخلاق والصلاح
في نفسه وعائلته ومجتمعه. ومن مظاهر القيم الشامخة في كربلاء قيمة الوفاء التي كان
يمكن استشرافها في العلاقة المميزة التي كانت قائمة بين الإمام عليه السلام وأتباعه
المخلصين.
لابد لكل قضية عادلة من قيادة حقة، والايمان بالقضية العادلة يستدعي أيضا الايمان
بالقيادة المخلصة القادرة على الوصول إلى الهدف بأفضل الطرق وأحسن الأساليب
المشروعة، وتحريك ماهمد من الطاقات وجمعها وتوظيفها لصالح القضية المنشودة.
وقيادة الحسين (عليه السلام) الحقة، بما اكتسبته من قدسية وشرعية، وبما اتصفت به من
عصمة وحكمة وبُعد نظر، وبما اتخذته من مواقف مبدئية حاسمة، ليس فيها مساومة ولا
انصاف حلول، وقد استقطبت أنظار الناس فوجدوا فيها المنقذ والمخلِّص، ونتيجة لذلك
التحقت بها ثلّة مؤمنة، ولم يكن ذلك أمرا سهلاً لجميع الناس؛ نظرا لدقّة الظروف
وخطورة الاحتمالات، في وقت كمّم فيه يزيد من خلال ولاته القساة أفواه الناس، وزرعوا
الخوف في النفوس، وفي وقت آثرت فيه الأغلبية الصمت والعافية، انضمت هذا الفئة
القليلة العدد والصلبة الايمان بمعسكر الحسين، وآمنت بقيادته، وأخذت تدين له بالسمع
والطاعة، ووطنت نفسها على الوفاء والتضحية والفداء.
والقائد بدوره نسج علاقة قوية مع أتباعه ووفى لهم بكل ما يمكن لمركز القائد أن يفي
لأتباعه، فعبأهم روحيا وفكريا ليكونوا في مستوى الأحداث، واتبع معهم سياسة المكاشفة
والمصارحة التي يُعبر عنها حاليا في العلوم السياسية بـ (الغلاسنوست)، كان يطلعهم
على الموقف أولاً بأول، ويرصد ويحلل كل شاردة وواردة فيما يتعلق بقضيتهم، ويبين لهم
ماذا يحمل رحم الأيام القادمة من أحداث جسام حبلى بها، وأبقى أمامهم كل أبواب
النجاة مفتوحة على مصراعيها، ولكن مع ذلك نجد أن الأصحاب يوصدون جميع تلك الأبواب،
ويتمسكون بقيادة إمامهم الحسين (عليه السلام)، ويوطنون أنفسهم على الموت دونه.
واكتفي ـ في هذه الفقرة ـ بهذا الموقف، وذلك حينما طلب الحسين القائد من أصحابه
التفرق عنه، لأن القوم لا يريدون غيره، قام سعيد بن عبد اللّه الحنفي، فقال: «لا
واللّه يا ابن رسول اللّه، لا نخذلك أبدا حتى يعلم اللّه أنا قد حفظنا فيك وفيه
رسول اللّه محمد (صلى الله عليه وآله). ثم قال: واللّه، لو علمت أني أُقتل فيك ثم
أُحرق ثم أذرى، يفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتى ألقي حِمامي دونك»[1].
وقال زهير بن القين: «واللّه يا ابن رسول اللّه لوددت أني قتلت ثم نشرت ألف
مرّة، وان اللّه يدفع بذلك القتل عن نفسك»[2].
ونفس الموقف أفصح عنه مسلم بن عوسجة، قال: « أنخلِّي عنك ولمّا نُعذِرْ إلى
اللّه سبحانه في أداء حَقِّك؟! أما واللّه حتى أطعن في صدروهم برمحي، وأضربهم بسيفي
ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن معي سلاح أُقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة، واللّه لا
نُخليك حتى يعلم اللّه أنْ قد حفظنا غيبة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فيك،
واللّه لو علمت أنِّي أُقتل ثمّ أُحيا ثمّ أُحرق ثم أحيا ثمّ أُذرَّى، يُفعل ذلك بي
سبعين مرّة ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلةٌ
واحدةٌ، ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا »[3].
وظاهرة حبّ الأصحاب لقائدهم الحسين (عليه السلام) بهذا العمق لفتت نظر العديد من
الكتاب والباحثين، المسلمين منهم وغير المسلمين، ومنهم جورج جرداق، العالم والأديب
المسيحي، فقال: «حينما جنّد يزيد الناس لقتل الحسين وإراقة الدماء، كانوا
يقولون: كم تدفع لنا من المال؟ أما أنصار الحسين فكانوا يقولون: لو أننا نقتل سبعين
مرّة، فاننا على استعداد لأن نقاتل بين يديك ونقتل مرّة اُخرى أيضا»[4].
ومن خلال هذه المواقف المشرفة، ضرب الأصحاب المثل الأعلى في الالتفاف حول القيادة
التي آمنوا بها، وجادوا بأنفسهم، فوفوا لها وباعوها صفقة رابحة من أجل قضيتهم
العادلة.
* أبعاد النهضة الحسينية - بتصرّف
[1] روضة الواعظين:
184.
[2] روضة الواعظين: 184.
[3] انظر: الإرشاد 2: 92.
[4] موسوعة عاشوراء: 293.