مسار الخلافة الربّانيّة على الأرض
الإسلام ومتطلبات العصر
لقد قُدِّر لآدم عليه السلام أن يكون هو المثل الأوّل للإنسانيّة الّتي استخلفها الله تعالى على الأرض.
عدد الزوار: 333
لقد قُدِّر لآدم عليه السلام أن يكون هو المثل الأوّل للإنسانيّة الّتي استخلفها
الله تعالى على الأرض.
وبدأ آدم حياته كما يبدأ أيّ إنسان آخر حياته في هذه الدنيا، مع فارق جوهري، وهو أنّ
كلّ إنسان يمرّ في مرحلة الطفولة بدور احتضان إلى أن يبلغ رشده؛ لأنّ هذه المرحلة
لا تسمح للإنسان بالاستقلال ومواجهة مشاكل الحياة وتحقيق أهداف الخلافة. فلا بدّ من
حضانة ينمو الطفل من خلالها ويربى في إطارها إلى أن يستكمل رشده. وكلّ طفل يجد عادة
في أبويه وجوّهما العائلي الحضانة اللازمة له، غير أنّ الإنسان الأوّل - آدم عليه
السلام - الّذي لم ينشأ في جوّ عائلي من هذا القبيل، كان بحاجة إلى دار حضانة
استثنائية يجد فيها التنمية والتوعية الّتي تؤهّله لممارسة دور الخلافة على الأرض،
من ناحية فهم الحياة ومشاكلها المادية، ومن ناحية مسؤوليّاتها الخلقية والروحية.
وقد عبّر القرآن الكريم عن دار الحضانة الاستثنائية الّتي وفّرت للإنسان الأوّل
بالجنّة؛ إذ حقّق الله تعالى في هذه الجُنَيْنَة الأرضية لآدم وحواء كلّ وسائل
الاستقرار، وكَفِل لهما كلّ الحاجات،
﴿ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا
تَعۡرَىٰ ١١٨ وَأَنَّكَ لَا تَظۡمَؤُاْ فِيهَا وَلَا تَضۡحَىٰ﴾1.
وكان لا بُدّ من مرور فترة تنمو فيها تجربة هذين الإنسانين، وتصل إلى الدرجة الّتي
تتيح لهما أن يبدآ مسيرتهما في الأرض وكدحهما نحو الله من خلال ممارسة أعباء
الخلافة، وكذلك كان لا بُدّ في هذه الفترة من تربية الإحساس الخلقي، وزرع الشعور
بالمسؤولية وتعميقه في نفس الإنسان، وذلك عن طريق امتحانه بما يوجّه إليه من تكاليف
وأوامر.
وكان أوّل تكليف وُجِّه إليه، أن يُمْسِك عن شجرة معيّنة في تلك الجُنَيْنَة
ترويضًا للإنسان الخليفة على أن يتحكّم في نزواته، ويكتفي من الاستمتاع بطيّبات
الدنيا بالحدود المعقولة من الإشباع الكريم، ولا ينساق مع الحرص المحموم على المزيد
من زينة الحياة الدنيا ومتعها وطيباتها؛ لأنّ هذا الحرص هو الأساس لكلّ ما شهده
المسرح بعد ذلك من ألوان استغلال الإنسان للإنسان.
وقد استطاعت المعصية الّتي ارتكبها آدم عليه السلام، بتناوله من الشجرة المحرّمة،
أن تحدث هزّة روحية كبيرة في نفسه، وتفجّر في أعماقه الإحساس بالمسؤولية من خلال
مشاعر الندم، وطفق في اللّحظة يخصف على جسده من ورق الجنّة، ليواري سوءته ويستغفر
الله تعالى لذنبه.
وبهذا، تكامل وعيه في الوقت الّذي كانت قد نضجت لديه خبراته الحياة المتنوّعة،
وتعلّم الأسماء كلّها، فحان الوقت لخروجه من الجنّة إلى الأرض الّتي استخلف عليها
ليمارس مسيرته نحو الله من خلال دوره في الخلافة.
مرحلة الفطرة في الخلافة
قال الله سبحانه وتعالى:
﴿ وَمَا كَانَ ٱلنَّاسُ إِلَّآ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَٱخۡتَلَفُواْۚ﴾2.
﴿ كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّۧنَ مُبَشِّرِينَ
وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ
فِيمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِۚ وَمَا ٱخۡتَلَفَ فِيهِ..
﴾3.
وقد جاء في التفسير، عن الإمام محمّد بن علي الباقر عليه السلام أنّ الناس كانوا
أمّةً واحدة على فطرة الله، فبعث الله النبيين4.
يعرف في ضوء هذه النصوص أنّ الجماعة البشرية بدأت خلافتها على الأرض بوصفها أُمّةً
واحدة، وأنشأت المجتمع الموحّد مجتمع التوحيد بركائزه المتقدّمة، وكان الأساس
الأولي لتلك الوحدة ولهذه الركائز الفطرة؛ لأنّ الركائز الّتي يقوم عليها مجتمع
التوحيد، والّتي تمثل أساس الخلافة على الأرض، كلّها ذات جذور في فطرة الإنسان.
﴿ فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفٗاۚ فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ
عَلَيۡهَاۚ لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ
أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ ٣٠ مُنِيبِينَ إِلَيۡهِ وَٱتَّقُوهُ وَأَقِيمُواْ
ٱلصَّلَوٰةَ وَلَا تَكُونُواْ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ٣١ مِنَ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ
دِينَهُمۡ وَكَانُواْ شِيَعٗاۖ كُلُّ حِزۡبِۢ بِمَا لَدَيۡهِمۡ فَرِحُونَ
﴾5.
فالإيمان بالله الواحد، ورفض كلّ ألوان الشرك والطاغوت، ووحدة الهدف والمصلحة
والمسير، كلّها معالم الفطرة الإنسانية، وأيّ شرك وجبروت، وأيّ تناقض وتفرّق، هو
انحراف عن الفطرة.
وهكذا شكّلت الفطرة في البداية أساسًا لإقامة مجتمع التوحيد، وكان - الإنسان ممثلًا
في الجماعة الإنسانية كلّها - يمارس خلافة الله على الأرض وفقًا لذلك، وكان خطّ
الشهادة قائمًا إلى جانب خطّ الخلافة ممثَّلًا في الأنبياء، وكان دور الأنبياء في
تلك المرحلة ممارسة مهمّة الشهيد الربّاني، مهمّة الهادي والموجّه والرقيب، كما
يفهم من النصّ القرآني الثاني، إذ اعتبر بعثه الأنبياء الّذين يحكمون بين الناس في
فترة تالية للمرحلة الّتي كان الناس فيها أُمّةً واحدة. ففي هذه المرحلة إذًا، كانت
الخلافة والحكم للجماعة البشرية نفسها، وكان خطّ الشهادة للإشراف والتوجّه والتدخّل
إذا تطلّب الأمر.
وبعد أن مرّت على البشرية فترة من الزمن، وهي تمارس خلافتها من خلال مجتمع موحّد،
تحقّقت نبوءة الملائكة، وبدأ الاستقلال والتناقض في المصالح والتنافس على السيطرة
والتملّك، وظهر الفساد وسفك الدماء؛ وذلك لأنّ التجربة الاجتماعية نفسها وممارسة
العمل على الأرض نمّت خبرات الأفراد، ووسّعت إمكاناتهم فبرزت ألوان التفاوت بين
مواهبهم وقابليّاتهم، ونجم عن هذا التفاوت اختلاف مواقعهم على الساحة الاجتماعية،
وأتاح ذلك فرص الاستغلال لمن حظي بالموقع الأقوى، وانقسم المجتمع بسبب ذلك إلى
أقوياء وضعفاء ومتوسّطين، وبالتالي إلى مستغلّين ومستضعفين، وفقدت الجماعة البشرية
بذلك وحدتها الفطرية، وصدق قوله الله تعالى في آية تحمّل الإنسان للأمانة الّتي
أشفقت منها السماوات والأرض.
إذ قال :
﴿ وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا
﴾6.
وعلى هذا الأساس، لم يعد - في المنطق الربّاني - للأقوياء المستغلّين موقع في
الخلافة العامّة للجماعة البشرية؛ لأنّ هذه الخلافة أمانة كما تقدّم، ومن خان
الأمانة لم يعد أمينًا. وأمّا المستضعفون، فمن يواكب منهم الظلم ويسير في اتّجاهه
ويخضع للاستغلال يعتبر في المفهوم القرآني ظالمًا لنفسه، وبالتالي خائنًا لأمانته،
فلا يكون جديرًا بالخلافة، ويظلّ في موقعه من الخلافة. أولئك المستضعفون الّذين لم
يظلموا أنفسهم، ولم يستسلموا للظلم، فهؤلاء هم الورثة الشرعيّون للجماعة البشريّة
في خلافتها، كما قال الله سبحانه وتعالى:
﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ
ٱسۡتُضۡعِفُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَنَجۡعَلَهُمۡ أَئِمَّةٗ وَنَجۡعَلَهُمُ
ٱلۡوَٰرِثِينَ
﴾7.
ولكنّ المجتمع قد غرق في هذه اللحظة في ألوان الاستغلال، وسيطرت عليه علاقات
اجتماعية تُجسّد هذه الألوان، ومشاعر نفسية تبرّر الانحراف عن الفطرة، وأساطير
فكرية ووثنية تمزّق المجتمع شيعًا وأحزابًا، ولم يبقَ مستضعف غير ظالم لنفسه، إلّا
عدد قليل مغلوب على أمره.
ثورة الأنبياء لإعادة مجتمع التوحيد
كان لا بدّ في ظلّ هذه الظروف من ثورة تعيد المسيرة إلى طريقها الصالح، وتبني
المجتمع الموحّد من جديد على أساس أعمق وأوعى، على أساس الفطرة، وتهيّئ الجماعة
لاستئناف دورها الربّاني في خلافة الله على الأرض.
١. الأسس والمرتكزات:
كانت الثورة بحاجة إلى أساس ترتكز عليه، وتنطلق منه، وتستمدّ دوافعها وحيويتها منه.
وقد شهد التاريخ البشري - منذ أقدم العصور - استغلال أساسين مختلفين للثورة:
الأساس الأوّل: ما تزخر به قلوب المستضعفين والمضطّهدين من المشاعر الشخصية
المتّقدة بسبب ظلم الآخرين واستهتارهم بحقوق الجماعة ومصالحها. وهذا الشعور يمتدّ
في المستضعفين تدريجيّا كلّما ازدادت حالتهم سوءًا وازداد المستغلّون لهم عتوًّا
واستهتارًا بهم. ولكي يتحوّل هذا الشعور إلى ثورة لا بدّ له من بؤرة تستقطبه،
وتنبثق عن هذه البؤرة الّتي تستقطب هذا الشعور؛ القيادة الّتي تتزعّم المستضعفين في
كفاحهم ضدّ المستغلّين والثورة عليهم.
وإذا لاحظنا هذا الأساس بعمق، نجد أنّه يتعامل مع المشاعر الشخصية والمادّية نفسها
الّتي خلقتها ظروف الاستغلال، فالاستغلال يكرّس في جميع أفراد المجتمع الشعور
الشخصي بالمصلحة وينمّي فيهم الاهتمام الذاتي بالتملّك والسيطرة، غير أنّ هذا
الشعور وهذا الاهتمام ينعكس إيجابيًّا في المستغلّين على صورة الاستيلاء المحموم
على كلّ ما تمتدّ إليه أيديهم، وتسخير كلّ الإمكانات من أجل إشباع هذه المطامع،
وينعكس الشعور والاهتمام نفسه سلبيًّا في المستضعفين، على صورة المقاومة الصامتة
أوّلًا، والمتحرّكة ثانيًا، والثائرة ثالثًا، على المستغلين، وهي مقاومة تحمل
الخلفية النفسية نفسها الّتي يحملها المستغلّون، وتنطلق من المشاعر والأحاسيس عينها
الّتي خلقتها ظروف الاستغلال. وهذا يؤدّي في الحقيقة إلى أنّ الثورة لن تكون ثورة
على الاستغلال وعلى جذوره، ولن تعيد الجماعة إلى مسيرتها الرشيدة ودورها الخلافي
الصالح، وإنّما هي ثورة على تجسيد معيّن للاستغلال من قبل المتضرّرين من ذلك
التجسيد. ومن هنا كانت تغييرًا لمواقع الاستغلال أكثر من كونها استئصالًا للاستغلال
نفسه.
الأساس الثاني: استئصال المشاعر الّتي خلقتها ظروف الاستغلال، واعتماد مشاعر أخرى
أساسًا للثورة. وبكلمة أخرى، تطوير تلك المشاعر على نحو تمثّل الإحساس بالقيم
الموضوعية للعدل والحقّ والقسط والإيمان بعبودية الإنسان لله، الّتي تحرّره من كلّ
عبودية، وبالكرامة الإنسانية، وهذه المشاعر تخلق القاعدة الّتي تتبنّى تصفية
الاستغلال؛ لا لأنّه يمسّ مصالحها الشخصية فحسب، بل لأنّه أيضًا يمسّ المصالح
الحقيقية للظالمين والمظلومين على السواء، وتنتزع وسائل السيطرة من المستغلّين، لا
طمعًا فيها وحرصًا على احتكارها، بل إيمانًا بأنّها من حقّ الجماعة كلّها، وتلغي
العلاقات الاجتماعية الّتي نشأت على أساس الاستغلال، لا لتنشئ علاقات مماثلة لفئة
أُخرى من المجتمع، بل لتعيد إلى الجماعة البشرية الشروط الضرورية لممارسة الخلافة
العامّة على الأرض، وتحقيق أهدافها الرشيدة.
٢. الأهداف:
يتّضح من خلال المقارنة أنّ الأساس الثاني وحده هو الّذي يشكّل الخلفية الحقيقية
للثورة، والرصيد الروحي القادر على جعلها ثورة بدلًا عن تجميدها في منتصف الطريق،
بينما الأساس الأوّل لا يمكن أن ينجز سوى ثورة نسبية تتغيّر فيها مواقع الاستغلال.
غير أنّ مجرّد ذلك لا يكفي وحده لاختيار الأساس الثاني، واعتماد المستضعفين له في
كفاحهم ذلك؛ لأنّ الأساس الثاني يتوقّف على تربية للمحتوى الداخلي للثائرين أنفسهم،
وإعداد روحي ونفسي - من خلال التعبئة والممارسة الثوريتين - يطهّرهم من مشاعر
الاستغلال، ويستأصل من نفوسهم الحرص المسعور على طيّبات هذه الحياة وثرواتها
المادّية - سواء كان حرصًا مسعورًا في حالة هيجان كما في نفوس المستغلّين، أو في
حالة كبت كما في نفوس المستضعفين. وهذه التربية لا يمكن أن تبدأ من داخل الجماعة
الّتي انحرفت مسيرتها وتمزّقت وحدتها، بل لا بدّ من تربية تتلقّاها، ولا بدّ من هدىً
ينفذ إلى قلوبها من خارج الظروف النفسية الّتي تعيشها.
وهنا يأتي دور الوحي والنبوّة:
﴿ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّۧنَ مُبَشِّرِينَ
وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ
فِيمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِۚ﴾8.
وتتحقّق بذلك كلمة الله:
﴿ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ
﴾9، بعد أن تحقّقت
نبوءة الملائكة. فالوحي وحده هو القادر على أن يؤمّن التربية الثورية والخلفيّة
النفسية الصالحة الّتي تنشئ ثائرين لا يريدون في الأرض علوًّا ولا فسادًا، وتجعل من
المستضعفين أئمّة لكي يتحمّلوا أعباء الخلافة بحقّ، ويكونوا هم الوارثين:
﴿ تِلۡكَ
ٱلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ نَجۡعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ
وَلَا فَسَادٗاۚ﴾10،
﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ فِي
ٱلۡأَرۡضِ وَنَجۡعَلَهُمۡ أَئِمَّةٗ وَنَجۡعَلَهُمُ ٱلۡوَٰرِثِينَ ثِينَ
﴾11.
والنبي الرسول هو حامل الرسالة من السماء، والإنسان المبني ربّانيًا لكي يبني
للثورة قواعدها الصالحة ويعيد إلى الجماعة الشروط الحقيقية لاستعادة دورها الخلافي
الصالح، وذلك باعتماد الأساس الثاني.
ومن هنا دعا الأنبياء إلى جهادين: أحدهما الجهاد الأكبر، من أجل أن يكون المستضعفون
أئمّة وينتصروا على شهواتهم ويبنوا أنفسهم بناءً ثوريًا صالحًا، والآخر الجهاد
الأصغر، من أجل إزالة المستغلّين والظالمين عن مواقعهم.
وتسير العمليّتان في ثورة الأنبياء جنبًا إلى جنب، فالنبي ينتقل بأصحابه دائمًا من
الجهاد الأكبر إلى الأصغر، ومن الجهاد الأصغر إلى الأكبر، بل إنّهم يمارسون
الجهادَين في وقت واحد، وحتى عندما يخوضون ساحات القتال وفي أحرج لحظات الحرب.
انظروا إلى الثائر النموذجي في الإسلام، الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام كيف
أقدم بكلّ شجاعة وبطولة على مبارزة رجل الحرب الأوّل في العرب "عمرو بن ودّ العامري"،
واعتبر الناس ذلك منه انتحارًا شبه محقّق، ثمّ كيف أمسك عن قتله بضع لحظات بعد أن
تغلّب عليه؛ لأنّ "عمرو" أغضبه، فلم يشأ أن يقتله وفي نفسه مشاعر غضب شخصي، وحَرِص
على أن ينجِز هذا الواجب الجهادي في لحظة لا غضب لديه فيها إلّا لله تعالى ولكرامة
الإنسان على الأرض، وبهذا حقّق انتصارًا عظيمًا في مقاييس كلا الجهادَين في موقف
واحد فريد.
وعلى هذا الأساس، نؤمن بأنّ الثورة الحقيقية لا يمكن أن تنفصل بحال عن الوحي
والنبوّة، وما لهما من امتدادات في حياة الإنسان، كما أنّ النبوّة والرسالة
الربّانية لا تنفصل بحال عن الثورة الاجتماعية على الاستغلال والترف والطغيان. يقول
تعالى:
﴿ وَمَآ أَرۡسَلۡنَا فِي قَرۡيَةٖ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتۡرَفُوهَآ
إِنَّا بِمَآ أُرۡسِلۡتُم بِهِۦ كَٰفِرُونَ
﴾12،
﴿ وَكَذَٰلِكَ مَآ أَرۡسَلۡنَا
مِن قَبۡلِكَ فِي قَرۡيَةٖ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتۡرَفُوهَآ إِنَّا
وَجَدۡنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰٓ أُمَّةٖ وَإِنَّا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم مُّقۡتَدُونَ
﴾13.
فالنبوّة ظاهرة ربّانية تمثّل رسالة ثورية وعملًا تغييريًا وإعدادًا ربّانيًا
للجماعة، لكي تستأنف دورها الصالح، وتفرض ضرورة هذه الثورة أن يتسلّم شخص النبي
الرسول الخلافة العامّة، لكي يحقّق للثورة أهدافها في القضاء على الجاهلية
والاستغلال،
﴿ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ
عَلَيۡهِمۡۚ﴾14.
ويبني القاعدة الثورية الصالحة، لكي يمنّ الله عليهم ويجعلهم أئمّة ويجعلهم
الوارثين،
﴿ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ
ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ِحُونَ
﴾15.
اتّحاد خط الخلافة وخط الشهادة
بذلك يندمج خطّ الشهادة وخطّ الخلافة في شخص واحد، هو النبي، فالنبوّة تجمع كلا
الخطّين. ومن هنا اشترط الإسلام في النبي العصمة، وفي كلّ حالة يقدّر للخطّين أن
يجتمعا في واحد بحكم ضرورات التغيير الرشيد، نجد أنّ العصمة شرط أساس في المحور
الّذي يقدّر له أن يمارس الخطّين معًا؛ لأنّه سوف يكون هو الشهيد وهو المشهود عليه
في وقت واحد.
وخلافة الجماعة البشرية في مرحلة التغيير الثوري الّذي يمارسه النبي باسم السماء
ثابتة مبدئيًا من الناحية النظرية، إلّا أنّها من الناحية الفعلية ليست موجودة
بالمعنى الكامل. والنبي هو الخليفة الحقيقي من الناحية الفعلية، وهو المسؤول عن
الارتفاع بالجماعة إلى مستوى دورها في الخلافة.
وقد أوجب الله سبحانه وتعالى على النبي - مع أنّه القائد المعصوم - أن يشاور
الجماعة، ويشعرهم بمسؤوليّتهم في الخلافة من خلال هذا التشاور،
﴿ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي
ٱلۡأَمۡرِۖ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ﴾16.
ويُعدّ هذا التشاور من القائد المعصوم عملية إعداد للجماعة من أجل الخلافة، وتأكيد
عمليّ عليها.
كما أنّ التأكيد على البيعة للأنبياء وللرسول الأعظم وأوصيائه تأكيد من الرسول على
شخصية الأمّة وإشعار لها بخلافتها العامّة، وبأنّها بالبيعة تحدّد مصيرها، وأنّ
الإنسان حينما يبايع يساهم في البناء ويكون مسؤولًا عن الحفاظ عليه. ولا شكّ في أنّ
البيعة للقائد المعصوم واجبة، لا يمكن التخلّف عنها شرعًا، ولكنّ الإسلام أصرّ
عليها واتّخذها أُسلوبًا من التعاقد بين القائد والأُمّة، لكي يركّز نفسيًا ونظريًا
مفهوم الخلافة العامّة للأمّة. وقد دأب القرآن الكريم على أن يتحدّث إلى الأُمّة في
قضايا الحكم توعية منه للأمّة على دورها في خلافة الله على الأرض، قال تعالى:
﴿ وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚ
﴾17.
﴿ ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجۡلِدُواْ كُلَّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا
﴾18.
﴿ وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوٓاْ أَيۡدِيَهُمَا َهُمَا
﴾19.
﴿ أَنۡ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِۚ﴾20.
﴿ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ
بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ
﴾21.
وإذا لاحظنا الجانب التطبيقي من دور النبوّة الّذي مارسه خاتم المرسلين صلى الله
عليه وآله وسم، نجد مدى إصرار الرسول على إشراك الأمّة في أعباء الحكم ومسؤوليات
خلافة الله في الأرض، حتى أنّه في جملة من الأحيان كان يأخذ بوجهة نظر الأكثر
أنصارًا، مع اقتناعه شخصيًا بعدم صلاحيتها؛ وذلك لسبب واحد، وهو أن يُشعر الجماعة
بدورها الإيجابي في التجربة والبناء.
الوصاية على الثورة ممثّلة في الإمام
إنّ صنع مجتمع التوحيد ليس بالأمر الهيّن؛ لأنّه ثورة على الجاهلية بكلّ جذورها،
وتطهيرٌ للمحتوى النفسي والفكري للمجتمع من جذور الاستغلال ومشاعره ودوافعه. ومن
هنا كان شوط الثورة أطول عادة من العمر الاعتيادي للرسول القائد، وكان لا بدّ
للرسول أن يترك الثورة في وسط الطريق، ليلتحق بالرفيق الأعلى، وهي في خضمّ أمواج
المعركة بين الحقّ والباطل.
﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِيْن
مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡۚ وَمَن يَنقَلِبۡ عَلَىٰ
عَقِبَيۡهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيۡٔٗاۗ
﴾22.
ومن الواضح أنّ الحفاظ على الثورة - وهي لم تحقّق بعد، بصورة نهائية، مجتمع التوحيد
- يفرض أن يمتدّ دور النبي في قائد ربّاني يمارس خلافة الله على الأرض وتربية
الجماعة وإعدادها ويكون شهيدًا في الوقت نفسه. وهذا القائد الربّاني هو الإمام،
ويجب أن يكون معصومًا؛ لأنّه يستقطب الخطّين معًا، ويمارس - وفقًا لظروف الثورة -
خطّ الخلافة إلى جانب خطّ الشهادة.
وعصمة الإمام تعني أن يكون قد استوعب الرسالة الّتي جاء بها الرسول القائد
استيعابًا كاملًا، بكلّ وجوده وفكره ومشاعره وسلوكه، ولم يعِشْ للحظة شيئًا من
رواسب الجاهلية وقيمها، "لم تدنّسه الجاهلية بأنجاسها، ولم تلبسه من مدلهمّات
ثيابها23"؛ لكي يكون قادرًا على الجمع بين الخطّين في دور واحد يمارس فيه عملية
التغيير دون أن يتغيّر، ويواصل الإشعاع النبوي دون أن يخفت، ويتّخذ القرارات
النابعة بكامل حجمها من الرسالة الّتي يحملها دون أدنى تأثّر بالوضع الجاهلي الّذي
يقاومه.
فالإمام كالنبي، شهيد الله وخليفته في الأرض، من أجل أن يواصل الحفاظ على الثورة
وتحقيق أهدافها، غير أنّ جزءًا من دور الرسول يكون قد اكتمل، وهو إعطاء الرسالة
والتبشير بها، والبدء بالثورة الاجتماعية على أساسها. فالوصيّ ليس صاحب رسالة، ولا
يأتي بدين جديد، بل هو المؤتمن على الرسالة والثورة الّتي جاء بها الرسول.
أشكال الإمامة على مرّ التاريخ
الإمامة ظاهرة ربّانية ثابتة على مرّ التاريخ، وقد اتّخذت شكلين ربّانيين:
أحدهما: شكل النبوّة التابعة لرسالة النبي القائد. فقد كان في كثير من الأحيان يخلف
النبي الرسول أنبياء غير مرسلين، يكلّفون بحماية الرسالة القائمة ومواصلة حملها.
وهؤلاء أنبياء يوحى إليهم، وهم أئمّة، بمعنى أنّهم أوصياء على الرسالة، يقول الله
تعالى:
﴿ وَوَهَبۡنَا لَهُۥٓ إِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ نَافِلَةٗۖ وَكُلّٗا جَعَلۡنَا
صَٰلِحِينَ ٧٢ وَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَئِمَّةٗ يَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا وَأَوۡحَيۡنَآ
إِلَيۡهِمۡ فِعۡلَ ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَإِقَامَ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءَ ٱلزَّكَوٰةِۖ
وَكَانُواْ لَنَا عَٰبِدِينَ﴾24،
﴿ وَجَعَلۡنَٰهُ هُدٗى لِّبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ ٢٣
وَجَعَلۡنَا مِنۡهُمۡ أَئِمَّةٗ يَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا لَمَّا صَبَرُواْۖ وَكَانُواْ
بَِٔايَٰتِنَا يُوقِنُونَ
﴾25.
ثانيهما: هو الوصاية من دون نبوّة، وهذا هو الشكل الّذي اتّخذه رسول الله صلى الله
عليه وآله وسم بأمر من الله تعالى، فعيّن أوصياءه الاثني عشر، من الأئمّة أهل البيت
عليهم السلام، ونصّ على وصيّه المباشر بعده، علي بن أبي طالب عليه السلام، في أعظم
ملأ من المسلمين.
ولعلّ الّذي يحدّد هذا الشكل أو ذاك، هو مدى إنجاز الرسول القائد لتبليغ رسالته.
فإذا كان قد أكمل تبليغها أخذت السماء بالشكل الثاني، كما هو الحال بالنسبة إلى
سيّد المرسلين، كما نصّ القرآن الكريم:
﴿ ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ
وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ
﴾26.
وإذا كانت الرسالة والثورة بحاجة إلى وحي مستمّر واتّصال مباشر بما تتنزّل به
الملائكة من قرارات السماء، اتّخذ الشكل الأوّل.
ويلاحظ في تاريخ العمل الربّاني على الأرض أنّ الوصاية كانت تُعطى غالبًا لأشخاص
يرتبطون بالرسول القائد ارتباطًا نسبيًّا، أو لذرّيته وأبنائه، وهذه الظاهرة لم
تتّفق فقط في أوصياء النبي محمّد صلى الله عليه وآله، بل اتّفقت في أوصياء عدد كبير
من الرسل. قال الله سبحانه وتعالى:
﴿ وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحٗا وَإِبۡرَٰهِيمَ
وَجَعَلۡنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلۡكِتَٰبَۖ...﴾27،
﴿ وَوَهَبۡنَا
لَهُۥٓ إِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَۚ كُلًّا هَدَيۡنَاۚ وَنُوحًا هَدَيۡنَا مِن قَبۡلُۖ
وَمِن ذُرِّيَّتِهِۦ دَاوُۥدَ وَسُلَيۡمَٰنَ﴾28.
فاختيار الوصي كان يتمّ عادة من بين الأفراد الّذين انحدروا من صاحب الرسالة، ولم
يروا النور إلّا في كنفه وفي إطار تربيته، وليس هذا من أجل القرابة بوصفها علاقة
مادّية تشكّل أساسًا للتوارث، بل من أجل القرابة بوصفها تشكّل عادة الإطار السليم
لتربية الوصي، وإعداده للقيام بدوره الربّاني. وأمّا إذا لم تُحقِّق القرابة هذا
الإطار، فلا أثر لها في حساب السماء. قال الله تعالى:
﴿ وَإِذِ ٱبۡتَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِۧمَ
رَبُّهُۥ بِكَلِمَٰتٖ فَأَتَمَّهُنَّۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامٗاۖ
قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِيۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهۡدِي ٱلظَّٰلِمِين﴾29.
المرجعية الدينيّة وثورة الأنبياء ووصاية الإمامة
لقد قُدّر للإمامة بعد وفاة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسم أن تُحرم من
الممارسة الفعلية لخلافة الله في الأرض ومواصلة القيادة السياسية والاجتماعية
للتجربة الّتي خلفّها النبي صلى الله عليه وآله وسم، وتولّى هذه الخلافة عمليًا عدد
من الصحابة على التعاقب، وفقًا لأشكال مختلفة من الاختيار. وحاولت الأمّة بقيادة
هؤلاء الصحابة أن يواصلوا قيادة التجربة مع الاحتفاظ - في بداية الأمر - للإمامة
بخطّ الشهادة. فقد اعتُبر الإمام علي شهيدًا؛ أي مشرفًا وميزانًا أيديولوجيًا
وإسلاميًا للحقّ والباطل، حتى قال "عمر" مرّات عديدة: "لولا علي لهلك عمر"30، وقال
للإمام: "أعوذ بالله أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن"31، قال: "كاد يهلك ابن
الخطاب لولا علي"32، وقال: "اللهمّ، لا تُبْقني لمعضلة ليس فيها أبو الحسن!"33.
ولكن تبدّلت الظروف كثيرًا فيما بعد، واستيقظت مطامع المستغلّين الّذين حاربوا
الإسلام بالأمس، وأدّى ذلك بالتدريج إلى استيلاء أعداء الإسلام القدامى على الحكم
بعد عصر الخلفاء، إذ أعلن معاوية نفسه خليفة للمسلمين بقوّة الحديد والنار، وكان
ذلك أعظم مأساة في تاريخ الإسلام.
ولم يترك الأئمّة - على الرغم من إبعادهم عن مركزهم الطبيعي في الزعامة الإسلامية -
مسؤوليّاتهم القيادية، وظلّوا باستمرار، التجسيد الحيّ الثوري للإسلام والقوّة
الرافضة لكلّ ألوان الانحراف والاستغلال. وقد كلّف الأئمّة ذلك حياتهم، الواحد بعد
الآخر، واستشهد الأئمّة الأحد عشر من أهل البيت، بين مجاهد يخرّ صريعًا في ساحة
الحرب ومجاهد يعمل من أجل كرامة الأمّة ومقاومة الانحراف، فيغتال بالسيف أو السمّ.
وقد فرض هذه الواقع المرير - ضمن تفصيلات لا يتّسع لها هذه البحث - أن يقرّر الإمام
الثاني عشر بأمر من الله تعالى التواري عن الأنظار؛ انتظارًا للحظة المناسبة الّتي
تتهيّأ فيها الظروف الموضوعية للظهور، وإنشاء مجتمع التوحيد في العالم كلّه.
وكانت غيبة الإمام صدمة مريرة لقواعده الشعبية، وكان بالإمكان أن تؤدّي إلى تفتّتها
وضياعها، غير أنّ الإمام تدرّج في الغيبة، علاجًا لآثار هذه الصدمة؛ فبدأ بالغيبة
الصغرى الّتي كان يتّصل فيها مع الخواصّ من شيعته حتى ألِف المسلمون هذا الوضع،
فأعلن عن الغيبة الكبرى، وبذلك بدأت مرحلة جديدة من خطّ الشهادة تمثّلت في
المرجعيّة، وتميّز في هذه المرحلة خطّ الشهادة عن خطّ الخلافة بعد أن كانا
مندمجَيْن في شخص النبي أو الإمام؛ وذلك لأنّ هذا الاندماج لا يصحّ إسلاميًا إلّا
في حالة وجود فرد معصوم قادر على أن يمارس الخطّين معًا، وحين تخلو الساحة من فرد
معصوم، فلا يمكن حصر الخطّين في فرد واحد.
مسؤوليات خط المرجعية
خطّ الشهادة يتحمّل مسؤوليته المرجع، على أساس أنّ المرجعيّة امتداد للنبوّة
والإمامة على هذا الخطّ. وهذه المسؤولية تفرض:
أوّلًا: أن يحافظ المرجع على الشريعة والرسالة، ويردّ عنها كيد الكائدين وشبهات
الكافرين والفاسقين..
ثانيًا: أن يكون هذا المرجع في بيان أحكام الإسلام ومفاهيمه مجتهدًا، ويكون اجتهاده
هو المقياس الموضوعي للأمّة من الناحية الإسلامية، وتمتدّ مرجعيّته في هذا المجال
إلى تحديد الطابع الإسلامي، لا للعناصر الثابتة من التشريع في المجتمع الإسلامي فقط،
بل للعناصر المتحرّكة الزمنية أيضًا، باعتباره هو الممثّل الأعلى للأيديولوجية
الإسلامية.
ثالثًا: أن يكون مشرفًا ورقيبًا على الأمّة، وتفرض هذه الرقابة عليه أن يتدخّل
لإعادة الأُمور إلى نصابها إذا انحرفت عن طريقها الصحيح إسلاميًا، وتزعزعت المبادئ
العامّة لخلافة الإنسان على الأرض.
المرجع الشهيد معيّن من قبل الله تعالى بالصفات والخصائص؛ أي بالشروط العامّة
الموجودة في كلّ الشهداء الّتي تقدّم ذكرها، ومعيّن من قِبل الأُمّة بالشخص، إذ تقع
على الأُمّة مسؤولية الاختيار الواعي له.
وأمّا خطّ الخلافة الّذي كان الشهيد المعصوم يمارسه، فما دامت الأُمّة محكومة
للطاغوت ومقصية عن حقّها في الخلافة العامّة، فهذا الخط يمارسه المرجع، ويندمج
الخطّان حينئذٍ - الخلافة والشهادة - في شخص المرجع. وليس هذا الاندماج متوقّفًا
على العصمة؛ لأنّ خطّ الخلافة في هذه الحال لا يتمثّل عمليًّا إلّا في نطاق ضيّق،
وضمن حدود تصرّفات الأشخاص، وما دام صاحب الحقّ في الخلافة العامّة قاصرًا عن
ممارسة حقّه نتيجة لنظام جبّار، يتولى المرجع رعاية هذا الحقّ في الحدود الممكنة،
ويكون مسؤولًا عن تربية هذا القاصر وقيادة الأُمّة لاجتياز هذا القصور وتسلّم حقّها
في الخلافة العامّة.
وأمّا إذا حرّرت الأُمّة نفسها فخطّ الخلافة ينتقل إليها، فهي الّتي تمارس القيادة
السياسية والاجتماعية في الأُمّة بتطبيق أحكام الله وعلى أساس الركائز المتقدّمة
للاستخلاف الربّاني..
وتمارس الأُمّة دورها في الخلافة في الإطار التشريعي للقاعدتين القرآنيتين الآتيتين:
﴿ وَأَمۡرُهُمۡ شُورَىٰ بَيۡنَهُمۡ
﴾34.
﴿ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ
بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ...
﴾35.
إنّ النصّ الأوّل يعطي للأُمّة صلاحية ممارسة أمورها عن طريق الشورى، ما لم يرد نصّ
خاصّ على خلاف ذلك، والنصّ الثاني يتحدّث عن الولاية، وإنّ كلّ مؤمن وليّ الآخرين.
ويريد بالولاية تولّي أموره، بقرينة تفريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليه،
والنصّ ظاهر في سريان الولاية بين كلّ المؤمنين والمؤمنات بصورة متساوية. وينتج عن
ذلك الأخذ بمبدأ الشورى وبرأي الأكثرية عند الاختلاف.
وهكذا وزّع الإسلام في عصر الغيبة مسؤوليّات الخطّين بين المرجع والأُمّة، بين
الاجتهاد الشرعي والشورى الزمنية، فلم يشأ أن تمارس الأُمّة خلافتها من دون شهيد
يضمن عدم انحرافها ويشرف على سلامة المسيرة ويحدّد لها معالم الطريق من الناحية
الإسلامية، ولم يشأ من الناحية الأخرى أن يحصر الخطّين معًا في فرد ما لم يكن هذا
الفرد مطلقًا، أي معصومًا.
وبالإمكان أن تستخلص من ذلك: أنّ الإسلام يتّجه إلى توفير بيئة العصمة بالقدر
الممكن دائمًا، وحيث لا يوجد على الساحة فرد معصوم، بل مرجع شهيد، ولا أمّة قد
أنجزت ثوريًا بصورة كاملة وأصبحت معصومة في رؤيتها النوعية، بل أمّة لا تزال في
أوّل الطريق، لا بدّ أن تشترك المرجعية والأمّة في ممارسة الدور الاجتماعي الربّاني
بتوزيع خطّي الخلافة والشهادة وفقًا لما تقدّم.
ومن الضروري أن يلاحظ أنّ المرجع ليس شهيدًا على الأمّة فقط، بل هو جزء منها أيضًا،
وهو عادة من أوعى أفراد الأمّة وأكثرها عطاءً ونزاهة، وعلى هذا الأساس، وبوصفه
جزءًا من الأمّة، يحتلّ موقعًا من الخلافة العامّة للإنسان على الأرض، وله رأيه في
المشاكل الزمنية لهذه الخلافة وأوضاعها السياسية بقدر ماله من وجود في الأمّة،
وامتداد اجتماعي وسياسي في صفوفها.
وهكذا نعرف أنّ دور المرجع كشهيد على الأمّة دور ربّاني لا يمكن التخلّي عنه، ودوره
في إطار الخلافة العامّة للإنسان على الأرض دور بشري اجتماعي يستمدّ قيمته وعمقه من
مدى وجود الشخص في الأمّة وثقتها بقيادته الاجتماعية والسياسية..
* الإسلام ومتطلبات العصر، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1 سورة طه، الآيتان 118 - 119.
2 سورة يونس، الآية 19.
3 سورة البقرة، الآية 213.
4 نصّ الحديث: روي عن أبي جعفرعليه السلام أنّه قال: "كانوا قبل نوح أمّة واحدة،
على فطرة الله، لا مهتدين ولا ضلالا، فبعث الله النبيين". الطبرسي، مجمع البيان،
ج2، ص65.
5 سورة الروم، الآيات 30 - 32.
6 سورة الأحزاب، الآية 72.
7 سورة القصص، الآية 5.
8 سورة البقرة، الآية 213.
9 سورة البقرة، الآية 30.
10 سورة القصص، الآية 83.
11 سورة القصص، الآية 5.
12 سورة سبأ، الآية 34.
13 سورة الزخرف، الآية 23.
14 سورة الأعراف، الآية 157.
15 سورة الأعراف، الآية 157.
16 سورة آل عمران، الآية 159.
17 سورة النساء، الآية 58.
18 سورة النور، الآية 2.
19 سورة المائدة، الآية 38.
20 سورة الشورى، الآية 13.
21 سورة التوبة، الآية 71.
22 سورة آل عمران، الآية 144.
23 زيارة وارث.
24 سورة الأنبياء، الآية 72 - 73.
25 سورة السجدة، الآيتان 23 - 24.
26 سورة المائدة، الآية 3.
27 سورة الحديد، الآية 26.
28 سورة الأنعام، الآية 84.
29 سورة البقرة، الآية 124.
30 السنن الكبرى، 7، ص 442. مختصر جامع العلم، ص 150. الرياض النضرة، 2، ص 194.
ذخائر العقبى، ص 82. تفسير الرازي، 7، ص 484. أربعين الرازي، ص 466. تفسير
النيسابوري 3 في سورة الأحقاف. كفاية الكنجي، ص 105. مناقب الخوارزمي، ص 57. تذكرة
السبط، ص 87. الدر المنثور، ص 228 وج 6، ص 40 نقلًا عن جمع من الحفاظ صحّ كنز
العمال، 3، ص 96 نقلًا عن خمس من الحفاظ. وج 3، ص 228 نقلًا عن غير واحد من أئمّة
الحديث.
31 الرياض النضرة، ص 197، منتخب كنز العمال هامش مسند أحمد، 2، ص 352.
32 أخرجه الحفاظ الكنجي في الكفاية، ص 96 وابن الصباغ المالكي في الفصول المهمّة ص
18.
33 تاريخ ابن عساكر - ترجمة الإمام علي بن أبي طالب - طباعة دار التعارف - بيروت
الجزء الثالث رقم الحديث 1073 - ص 40.
34 سورة الشورى، الآية 38.
35 سورة التوبة، الآية 71.