يتم التحميل...

أساليب التبليغ - 1 -

إضاءات إسلامية

لكلّ دعوة جانبان، جانب المعاني والمضامين، وهو الّذي يشمل قضايا الدعوة ومبادئها وأهدافها، وجانب الأساليب والعبارات، وهو الّذي تصاغ فيه هذه المعاني.

عدد الزوار: 44

تمهيد
لكلّ دعوة جانبان، جانب المعاني والمضامين، وهو الّذي يشمل قضايا الدعوة ومبادئها وأهدافها، وجانب الأساليب والعبارات، وهو الّذي تصاغ فيه هذه المعاني.
ولكلّ من الجانبين خصائصه الّتي تميّزه عن الآخر. فمن خصائص الدعوة الإسلاميّة صدقها، وشمولها، وحيويّتها... ومن خصائص أساليبها: الوضوح والبيان، والحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالّتي هي أحسن...
ولقد عني العلماء بدراسة أساليب الدعوة والتبليغ. ومن هذه الدراسة تقسيمهم هذه الأساليب إلى خبرية، وإنشائية، وجدلية، وبرهانية، وقصصية.. إلى آخر هذه التقسيمات الّتي حفلت بها كتبهم قديماً وحديثاً. وهي تقسيمات تدور حول الألفاظ، والجمل، والتراكيب اللغوية والأدبية.

التبليغ بين الصور التقليديّة والمستحدثة

قد ينغلق بعض الناس على الصور التبليغيّة التقليدية الموروثة ولا ينفتح على المناهج المستحدثة في التبليغ. فما هو التصوّر الإسلاميّ حول هذا الموضوع؟
لا شكَّ أنّنا حينما نفكّر بالانفتاح على المناهج الحديثة في الإعلام والتبليغ لا نريد إهمال المناهج القديمة والمتعارفة؛ كأسلوب الحديث المباشر الفرديّ
والجماعيّ، أو أسلوب التأليف والتدوين، أو أسلوب الشعر، إنّما نريد أن نوسّع دائرة المناهج والأساليب التبليغيّة لتشمل كتابة القصّة، والرواية، والمسرحية، والرسوم التقليدية والرمزية، والحكاية، وغيرها ممّا استُحدث في عالمنا المعاصر عبر مختلف الأجهزة كالراديو، والتلفزيون، والفيديو، والإنترنت، وما شاكل.

لعلّ هذه المناهج الحديثة غير مألوفة لدينا، ولا نعرف عنها في ممارسات الأنبياء والأئمّة والصالحين من أسلافنا، ولعلّها غير متاحة لدى الكثير خاصّة في ظروف ما قبل تأسيس الدولة الإسلاميّة حيث كانت الأجهزة المستحدثة في العادة بيد السلطات المنحرفة ولم يكن لرجال الإسلام منها نصيب كبير. وقد تكون أخذت موقعها في أوساطنا، بل وحتّى في طرق تفكيرنا وتخطيطنا للعمل التبليغيّ، إلا أنّنا اليوم بحاجة إلى إعادة نظر في مناهج التبليغ بين الانغلاق على الحالة التقليدية وبين الانفتاح على السُبل الحديثة.

النظرية الإسلاميّة لم تحصر العمل التبليغيّ بمنهج واحد، بل دعت لاستخدام كلّ أسلوب يتيح فرصة النفوذ إلى قلب الطرف الآخر والتأثير عليه، شريطة أن يكون بعيداً عن مناهج الاحتيال كالسحر، والشعوذة، والأكاذيب، والخداع...، يقول الله تعالى: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ1. و"الحكمة" و"الموعظة" في هذه الآية الكريمة ليست محدّدة بصورة تبليغية دون أخرى، وإن كانت تنصرف إلى أسلوب الحديث المباشر والمشافهة الكلامية، إلّا أنّ هذا الانصراف لا يضيّق مفهوم الكلمة.

ومن هنا نجد أن الأنبياء عليهم السلام توسّعوا في الممارسة التبليغيّة إلى كلّ طريقة متّبعة يومئذ، فلم يقتصر أسلوبهم على الموعظة الكلاميّة، وإنّما شمل أسلوب الشعر كما نجده في شعر حسَّان بن ثابت بتوجيه من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، واستخدموا الموعظة العملية كما في قصّة إبراهيم عليه السلام وتكسيره للأصنام ﴿قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ2. واستخدموا المنهج الإعجازيّ في مقابل أباطيل السحرة كما في قصّة موسى عليه السلام مع سحرة فرعون حيث ألقى عصاه لتلقف ما صنعوا.

كما أنّ القرآن الكريم استخدم بشكل واضح ومكثّف أسلوب "القصّة" وأسلوب "التمثيل"، ما دام ذلك يؤدّي إلى هداية الناس، مهما كان محتوى القصّة، أو نوع المثل قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا...3.

وعلى هذا الأساس ينبغي أن يعمل المبلِّغ على التعرُّف الدائم إلى الأساليب والوسائل والطرائق المتنوّعة لتقديم المضمون التبليغيّ، والاستفادة القصوى من التقنيات الحديثة، كلّ ذلك بغية إيصال ونشر المضامين التبليغيّة إلى أكبر شريحة ممكنة.

ما هو أسلوب الدعوة؟
والمراد بأسلوب الدعوة هنا ما بُلّغت به أوامر الله تعالى وإرشاداته إلى المدعوّين، وهو لا يخرج عمّا جاء به القرآن الكريم والسنّة النبوية المطهّرة.
والأسلوب يجمع على أساليب "وهو الطريق، والوجه، والمذهب،... وهو الفنّ: يقال: أخذ فلان في أساليب من القول أي أفانين منه"4.

والأسلوب والكلام الأحسن هو كلام الله تعالى الّذي وصفه الله تعالى بقوله: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ5.

ولقد أخذت أساليب القرآن وكلامه بنفوس الكفرة، وهم أرباب القول، وفحول البيان، فأعجبوا بها، وافتتنوا بجمالها، وشهدوا لها رغم عداوتهم للإسلام وبقائهم على الشرك. رُويَ أنّ الوليد قال لبني مخزوم: "والله لقد سمعت من محمّد صلى الله عليه وآله وسلم آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجنّ، إنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لمثمر، وإنّ أسفله لمغدق، وإنّه ليعلو وما يُعلى"6.

خصائص هذه الأساليب

لم تصطدم أساليب الدعوة في القرآن على تعدّد صورها وألوانها بالعلم قديمه وحديثه، العلم الصحيح القائم على المنطق السليم. وإنّ ما في أحدث نظريات العلم من حقائق عن الكون ومظاهر الحياة المادية والإنسان، والحيوان والنبات لا يتناقض مع ما في القرآن الكريم من الحقائق والمعاني العميقة التي لا زالت تؤيّد العلم في اتّجاهاته السليمة، واكتشافاته لمظاهر الكون لمعرفة أسراره.
وهذه الأساليب - فضلاً عن تأديتها مهامّ العبادات والتكاليف والأحكام الشرعية - هي أساليب جمالية ونصوص أدبية إمتاعية، تقوّم اللسان، وتعلّم البيان، وترقّق المشاعر.. وكلّما قرئت اطمأنّت بها النفوس، واقشعرّت منها الجلود خشية لله وخضوعاً لعظمته: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ7 ،﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ...8 .

ومن مقوّمات هذه الأساليب أنّها قامت:
على الحقّ:  ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ...9.
وعلى الصدق": ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً10.
وعلى الوضوح والإبانة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا11.
وعلى اليسر: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ12.
وعلى الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالّتي هي أحسن: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ..13.
وهي أساليب لا باطل فيها: ﴿...لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِه...14.
ولا كذب: ﴿...مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى...15.
ولا خيال: وهو ما يقوم عليه شعر الشعراء، وفنّ الأدباء، وغيرهما ممّا يبعد عن الحقيقة ويضرب في أودية الوهم والخرافة ﴿وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ *وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا16.
ولن يدخل في هذا الخيال ما اشتملت عليه هذه الأساليب من تشبيهات وتراكيب بلاغية؛ لأنّ هذه وإن احتوت على ضروب من التصويرات فإنّما هي لتقريب المعنى وإبرازه في صورة المحسوس، وكشفه، وتوضيحه وإظهار الحقيقة دون زيادة أو نقصان، ودون أيّ معنى خرافيّ أو أسطوريّ، لأنّ كلام الله عزّ وجلّ منزّه عن ذلك ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا17. وهي أساليب هداية حقيقية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتدعو إلى المثل العليا والحياة الطيّبة في أسمى صورها وغاياتها. إنّها شفاء للناس، ورحمة للعالمين. ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ...18، ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا19 .

من أساليب التبليغ في القرآن الكريم20

أوّلاً: أسلوب التدرّج
نموذج: تحريم الخمر في القرآن الكريم
الخطوة الأولى:

قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ...21.
الخطوة الثانية:
قال الله تعالى ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا...22.
الخطوة الثالثة والنهائية
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ * وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ...23.

ثانياً: أسلوب المجادلة في القرآن
معنى الجدال: يرى الشيخ الطوسيّ رحمه الله في تفسيره "التبيان" أنّ "حقيقة المجادلة المقابلة بما يفتل الخصم من مذهبه بالحجّة أو شبهه، وهو من الجدل لشدّة الفتل، ويقال للصقر أجدل لأنّه أشدّ الطير".
ويرى الراغب الأصفهانيّ: "الجدال المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة، وأصله من جدلت الحبل أي أحكمت فتله.. فكأنّ المتجادلين يفتل كلّ واحد الآخر عن رأيه".
ويقول الطريحيّ: "وهو الّلدّ في الخصام وهي مقابلة الحجّة بالحجّة".

الجدال في القرآن
ورد ذكر الجدال في القرآن الكريم في ثلاثين موضعاً ضمن عدّة سياقات وعدّة استعمالات ومعانٍ، منها:
تارة ينهى الله تعالى عنه في مواضع محدّدة: ﴿فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ24 .
وتارة يريد به الجدال بالباطل لدحض الحقّ:
﴿وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ25.
﴿مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا26 .

وتارة أخرى يشير إلى اتّهام الكفّار للأنبياء عليهم السلام به: ﴿قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ27
ومرة يستعمله في الدفاع عن النفس: ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ28
﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ29
﴿َلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ30
ويشير إليه كصفة عامّة للإنسان: ﴿وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا31.

ويستعمله بمعنى المحاورة والمراجعة ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ32.
ويظهر من هذه الآيات القرآنية المباركة أنّ للفظ "الجدال" معاني متعدِّدة، ويشمل كلّ أنواع الحديث والكلام الحاصل بين طرفين، سواء كان إيجابياً أم سلبياً. وهذا يقودنا إلى تقسيم الجدال إلى قسمين أساسين.

1 ـ الجدال الإيجابيّ
إنّ البحث والكلام والاستدلال والمناقشة لأقوال الآخرين ، إذا كان لإحقاق الحقّ وإبانة الطريق وإرشاد الجاهل، فهو عمل مطلوب يستحقّ التقدير، وقد
يندرج أحياناً في الواجبات، فالقرآن لم يعارض أبداً البحث والنقاش الاستدلالي والموضوعيّ الّذي يستهدف إظهار الحقّ، بل حثّ على ذلك في العديد من الآيات القرآنية. وفي مواقف معيّنة طالب القرآن الكريم المعارضين بالإتيان بالدليل والبرهان فقال: ﴿قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ33. وفي المواقف الّتي كانت تتطلّب إظهار البرهان والدليل ذكر القرآن أدلّة مختلفة.

نماذج من الجدال الإيجابيّ
لقد قدّم الأنبياء عليهم السلام نماذج رائعة في الجدال الإيجابيّ الّذي يهدف إلى الدعوة إلى الله، ويمتزج بالعاطفة والحبّ والرأفة، منها ما ورد في آخر سورة "يس" حين جاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يمسك بيده عظماً وسأله كما ورد في القرآن الكريم: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ *قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ *الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ34 ، فذكر القرآن الكريم عدداً من الأدلّة على لسان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المعاد وقدرة الخالق على إحياء الموتى.

ومنها ما في كلام إبراهيم عليه السلام وأدلّته القاطعة أمام النمرود:
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ35.

2 - الجدال السلبيّ

وفي المقابل نجد أنّ أغلب الإشارات القرآنية حول المجادلة تشير إلى النوع السلبيّ منها، حيث كان الكفّار يواجهون أنبياءهم ويطمسون الهداية عبر الجدال بالباطل والتمسّك بالآراء الفاسدة الموروثة أو المبتناة على الحجج الواهية.

إنّ السخرية والاستهزاء والتهديد والافتراء والإنكار الّذي لا يقوم على دليل، هي مجموعة من الأساليب الّتي يعتمدها المضلّون إزاء الأنبياء عليهم السلام ودعواتهم الكريمة.

وقد ذمّ القرآن الكريم هذا الجدال في كثير من الآيات.
ويذكر القرآن الكريم نماذج من مجادلات أهل الباطل لإثبات دعاواهم الباطلة من خلال استخدام المغالطات الكلامية والحجج الواهية لإبطال الحق:
إنكارهم البعث وإحياء الموتى متذرّعين بحجج واهية، قال تعالى: ﴿وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا36.
﴿أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ37 .

كون الأنبياء من البشر:
﴿مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ *وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ38.
لذلك رفضوا الاستجابة للأنبياء وكذّبوهم ووصلوا إلى النتيجة التالية: إِنْ هُوَ ﴿إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِين39. وغيرها من المجادلات الّتي نقلها القرآن الكريم، وردّ عليها بأبلغ بيان.

ثالثاً: أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة
ما المراد من الحكمة؟

الحكمة تعني: العلم والمنطق والاستدلال، فأوّل خطوة على طريق الدعوة إلى الحقّ هي التمكّن من الاستدلال وفق المنطق السليم. والهدف هو تحريك العقول، والنفوذ إلى داخل فكر الناس. قال الله تعالى: ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا40.
وفسّر الإمام الكاظم عليه السلام الحكمة في آية: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ لهشام بن الحكم بالفهم والعقل41.
وعرّفها الراغب بقوله: "الحكمة إصابة الحقّ بالعلم والعقل. فالحكمة من الله تعالى معرفة الأشياء وإيجادها على غاية الإحكام، ومن الإنسان معرفة الموجودات وفعل الخيرات..."42.

ما المراد من الموعظة الحسنة؟

الموعظة هي الخطوة الثانية في طريق الدعوة إلى الله تعالى،بالاستفادة من عمليّة تحريك الوجدان الإنسانيّ، وذلك لما للموعظة الحسنة من أثر فاعل على عاطفة الإنسان وأحاسيسه، ومعناها:
"النصح والتذكير بالعواقب. وقال ابن سيده:هو تذكيرك للإنسان بما يليّن قلبه من ثواب وعقاب"43.
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "المواعظ صقال النفوس، وجلاء القلوب"44.

ما المراد بالمجادلة بالّتي هي أحسن؟
قال الشيخ الطوسي: الجدال بالّتي هي أحسن: "فتل الخصم عن مذهبه بطريق الحجاج"45 .
أو هو أن يجادلهم على ما قد يحتملونه، كما جاء في الحديث: " أُمرنا معاشر الأنبياء أن نكلّم الناس على قدر عقولهم"46.
ويرى العلّامة الطباطبائيّ: أنّه "الحجّة الّتي تُستعمل لفتل الخصم عمّا يصرّ عليه وينازع فيه من غير أن يريد به ظهور الحقّ، بالمواخذة عليه من طريق ما يتسلّمه هو والناس أو يتسلّمه هو وحده في قوله أو حجّته"47 .

الفرق بين الحكمة والموعظة
الحكمة يراد بها التعليم والإرشاد والنصيحة، أمّا الموعظة فيراد بها التذكير وإلفات نظر من يعرف ويعلم ولكنّه في غفلة أو تغافل أو تجاهل ما يعرف.
الحكمة يراد بها مكافحة الجهل، والموعظة يراد بها مكافحة الغفلة والتغافل.
فالحكمة فكرة وتعقّل، أما الموعظة فهي لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ.
الحكمة تزيد الإنسان وجداناً ذهنياً، أمّا الموعظة فهي توقظ الذهن للاستفادة من الوجدان.
الحكمة مصباح وسراج، أمّا الموعظة فهي إلفات النظر إلى ذلك الضياء.
الحكمة للفكرة، والموعظة للتفكّر.
الحكمة ترجمان العقل، والموعظة ترجمان الروح والأحاسيس والعواطف.

من أين نأخذ الحكمة والموعظة؟

يُفرّق بين الحكمة والموعظة الحسنة أيضاً: بأنّ لشخصيّة الواعظ - الّذي تتوفّر فيه صفات خاصّة كالتديّن والإخلاص - في الموعظة دوراً بارزاً، أمّا الحكمة فهي "ضالّة المؤمن يأخذها حيث وجدها"48 ولو من فم فاسق أو فاجر أو غادر أو خاسر أو كافر!
الحكمة جوهرة يأخذها المؤمن أينما وجدها ولو في فم كلب أو سبع! ففي الحكمة لا مانع من اختلاف الأرواح بين الناطق بها والسامع.
أمّا في الموعظة فلا بدّ من ارتباط بينهما واتّصال، وحينئذ يكون كما قيل: "ما خرج من القلب دخل في القلب، وما خرج من اللسان لم يتجاوز الآذان".

تطبيق: الموعظة في نهج البلاغة
الموعظة من أهم أبواب نهج البلاغة
إنّ 86 خطبة من مجموع 240 خطبة من نهج البلاغة، خطب موعظة أو فيها موعظة. منها ثلاث خطب طويلة تختصّ بالموعظة: هي الخطبة 174 الّتي تبتدئ بقوله عليه السلام: انتفعوا ببيان الله... والخطبة القاصعة 192، وخطبة المتّقين 193.
وإنّ 25 كتاباً من مجموع 80 كتاباً من نهج البلاغة، كتب مواعظ أو فيها موعظة، ثلاث منها أيضاً كتب طويلة تختصّ بالموعظة: هي الكتاب: 31 إلى ولده الإمام الحسن عليه السلام أو محمّد ابن الحنفية - كما في ابن ميثم البحرانيّ وتحف العقول - وعهده إلى مالك الأشتر النخعيّ حينما ولّاه مصر، والكتاب 45 إلى عثمان بن حنيف الأنصاريّ واليه على البصرة.

مواضيع وعظه عليه السلام:

إنّ مواضيع وعظه عليه السلام مختلفة ومتنوّعة، مثل:
التقوى، والتوكّل، والصبر، والزهد، والتحذير من الاغترار بالدنيا، ورفاهية العيش، وهوى النفس، وطول الأمل، والعصبية للعصبة، والظلم والجور، والتفرقة، والترغيب في الإحسان، والمحبّة، والأخذ بيد المظلومين، وحماية الضعفاء والمساكين، والاستقامة، والقوّة والفتوّة والمروءة، والشجاعة والبسالة والبطولة، والوحدة، والعبرة، والفكرة، والمحاسبة، والمراقبة، واغتنام العمر، وتذكّر الموت وشدائده وسكراته، وما بعده، وأهوال القيامة..

الخلاصة
- ينبغي الانفتاح على المناهج المستحدثة في التبليغ وعدم الاقتصار على الصور التبليغيّة التقليدية.
- من ميّزات أساليب الدعوة في القرآن الكريم أنّها لم تصطدم بالعلم، وهي قائمة على الحقّ وعلى الوضوح والجدّية وعدم اللّهو وعلى اليسر وعدم العسر والحرج.
- من أساليب التبليغ في القرآن الكريم: التدرّج، المجادلة، الحكمة والموعظة الحسنة.

* التبليغ الديني، سلسلة المعارف الإسلامية، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


1- سورة النحل، الآية: 125.
2- سورة الأنبياء، الآية: 62-63.
3- سورة البقرة، الآية: 26.
4- انظر: لسان العرب، ابن منظور، ج 1، ص 473.
5- سورة الزمر، الآية: 23.
6- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 18، ص 168.
7- سورة الرعد، الآية: 28.
8- سورة الزمر، الآية: 23.
9- سورة السجدة، الآية: 2.
10- سورة النساء، الآية: 122.
11- سورة النساء، الآية: 174.
12- سورة القمر، الآية: 17.
13- سورة النحل، الآية: 125.
14- سورة فصلت، الآية: 42.
15- سورة يوسف، الآية: 111.
16- سورة الشعراء، الآيات: 224ـ 227.
17- سورة الفرقان، الآية: 5ـ 6.
18- سورة الإسراء، الآية: 9.
19- سورة الإسراء، الآية: 82.
20- بناءً على بعض التفسيرات لهذه الآيات.
21- سورة النساء، الآية: 43.
22- سورة البقرة، الآية: 219.
23- سورة المائدة، الآيات: 90ـ 92.
24- سورة البقرة، الآية: 197.
25- سورة الكهف، الآية: 56.
26- سورة غافر، الآية: 4.
27- سورة هود، الآية: 32.
28- سورة النحل، الآية: 111.
29- سورة النحل، الآية: 125.
30- سورة العنكبوت، الآية: 46.
31- سورة الكهف، الآية: 54.
32- سورة المجادلة، الآية: 1.
33- سورة البقرة، الآية: 111.
34- سورة يس، الآيات: 78ـ 82.
35- سورة البقرة، الآية: 258.
36- سورة الإسراء، الآية: 49.
37- سورة المؤمنون، الآيتان: 35ـ 36.
38- سورة المؤمنون، الآيتان: 33ـ 34.
39- سورة المؤمنون، الآية: 38.
40- سورة البقرة، الآية: 269.
41- انظر: الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 16.
42- مفردات غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، ص 127.
43- لسان العرب، ابن منظور، ج 7، ص 466.
44- ميزان الحكمة، محمّد الريشهري، ج4، ص3576.
45- التبيان، الشيخ الطوسي، ج 6، ص 440.
46- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 1، ص 85.
47- تفسير الميزان، السيّد الطباطبائي، ج 12، ص 371.
48- عوالي اللئالي، ابن أبي جمهور الإحسائي، ج 12، ص 371.

2017-04-21