تربية الشهوات
أخلاقنا الإسلامية
الشهوة لغة رغبة النفس واشتياقها إلى شيْء: "شَهِيَ الشيءَ وشَهاه يَشْهاه شَهْوَةً واشْتَهاه وتَشَهّاه: أَحَبَّه ورَغِب فيه"
عدد الزوار: 516
ما المقصود من الشهوات؟
الشهوة لغة رغبة النفس واشتياقها إلى شيْء: "شَهِيَ الشيءَ وشَهاه يَشْهاه شَهْوَةً
واشْتَهاه وتَشَهّاه: أَحَبَّه ورَغِب فيه"1.
والمعنى الاصطلاحيّ للشهوات لا يختصّ بالشهوة الجنسيّة بل يشمل كافة الميول واللذات
والرغبات النفسيّة، كحبّ المال، والذهب، والفضّة، والطعام، والشراب، والنوم
والراحة... والقرآن الكريم نراه قد استعمل "الشهوة" بالمعنى العامّ، وهو ميل النفس
والسعي إلى إشباع ذلك الميل. وجمع في آية واحدة أحبّ شهوات الأرض إلى نفس الإنسان:
النساء، والبنين، والأموال المكدّسة، والخيل، والأرض المخصّبة، والأنعام،... كما في
قوله، سبحانه: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ
وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ
الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾2.
من هنا فإنَّ المعنى المراد من الشهوة أعمّ من طلب اللذة الجنسيّة، وهو يشمل الميول
الأخرى للنفس، كشهوة البطن، والمال،.. كما أشارت الآية الكريمة السابقة وعدّدت ستة
من متاع الدنيا وهي: المرأة، والولد، والمال، والخيول الأصيلة، والمواشي والإبل،
والزراعة، وهي أركان الحياة المادّية.
نظرة الإسلام إلى الشهوات
إنّ الشهوة لا تشكّل عيباً يُعاب الإنسان به. وذلك أنّ الشهوة هي سنّة خلقية تلازم
الإنسان في حياته. إنّما المشكلة تكمن في الانجرار وراء هذه الشهوات، وإخراجها عن
حدّ الاعتدال فالاستغراق في شهوات الدنيا، ورغبات النفوس، ودوافع الميول الغرائزية،
وعدم التوازن فيها هو الذي يشغل القلب عن التبصّر والاعتبار، ويُشكّل حاجباً على
البصيرة الإيمانية، ويدفع بالإنسان إلى الغرق في لجة اللذائذ القريبة المحسوسة،
ويحجب عنه ما هو أرفع وأعلى، ويعطّل الحسّ وأدوات الإنسان المعرفيّة، فيحرمه متعة
التطلّع إلى ما وراء اللذة القريبة، ومتعة الاهتمامات الكبيرة اللائقة بدور الإنسان
العظيم في هذه الأرض، الذي عرّفه الله تعالى أنّه خليفة الله في أرضه.
من هنا دعت الشريعة الإسلامية إلى الاعتدال والوسطية في التعامل مع الشهوات، فنهت
عن إطلاقها وتحررّها بصورة كاملة، كما منعت كبتها وتدميرها. فالإسلام يدعو إلى ضبط
الشهوات وتنظيمها واعتدالها، وإلى تقوية روح التسامي في الإنسان والتطلّع إلى ما هو
أعلى.
ونستطيع أن نستخلص نظرة الإسلام إلى الشهوات من خلال النقاط الآتية:
1- يمتاز الإسلام بمراعاته للشهوات والغرائز البشرية والقبول بواقعها، ومحاولة
تهذيبها ورفعها، لا كبتها وقمعها.
2- حرَّم الإسلامُ الرهبانيةَ، لأنها تخالف التكوين والصناعة الإنسانية، وتصادم
السنن الإلهية كسنّة الزواج والتكاثر، وتعطل الحياة البشريّة. ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ
زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾3.
3- تتضمّن الآيات القرآنيّة مقابلة متاعَ الدنيا بنعيم الآخرة، بهدف تحقيق التوازن
في سلوك الناس حتّى لا يسترسلوا في تناول شهوات الدنيا، ويستغرقوا فيها، فتشغلهم عن
ذكر الله والآخرة.
4- إنَّ تعذيبَ الجسد، وتحميلَه ما لا يطيق، ليس من مقاصد الإسلام وأهدافه العليا،
ولا من وسائله لبلوغ الكمال الإنسانيّ.
أسباب الانجرار وراء الشهوات
الإنسان إذا لم يتخلق بالأخلاق الفاضلة فهو خارج عن نطاق الإنسانية وداخل في حدود
الحيوانية، وذلك بسبب تسلّط الصفات الحيوانية عليه والاتّباع الأعمى لشهوات البطن
والفرج، والغضب والعصبية والانتقام والغدر وغيرها من الصفات السبعية، فيغدو مصداقا
لقوله تعالى ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ
لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا
وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ
أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾4.
وإذا غلب على الإنسان الجانب البهيميّ فسوف يكون لاهثاً طوال الوقت وراء الشهوات
والملذّات الجسدية فيتسافل ليصبح أدنى من الأنعام والحيوانات لتفريطه بنعم الله
التي أنعمها عليه والتي تخوّله الوصول إلى أعلى عليين، ﴿وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى
الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ
يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث﴾5.
ومن هنا فإنّ معرفة أسباب الانجرار وراء الشهوات يساعد على تربية الشهوات وعلاجها.
ومن هذه الأسباب نذكر الآتي:
1- ضعف الإيمان:
إنّ الإيمان بالله عزّ وجلّ هو الضمانة والوقاية من المعصية، فكلّما ضعف إيمان
العبد كان أكثر جرأة على محارم الله عزّ وجلّ ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ
أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّ﴾6.
2- جليس السوء:
قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِه
وقَرِينِه"7 ظاهراً وباطناً. أمّا ظاهراً فظاهر لأنّه عند الناس مثلهم، وأمّا
باطناً فلأنّ النفس مائلة إلى الشرور فتميل إلى طبع الجليس سريعاً وتسكن إليه
فتستعدّ لصدور ما يصدر عنه من الأمور المنكرة، وعلى العكس إذا كان الجليس زاهداً
متورعاً عالماً متديناً8.
3- النظر المحرم:
قال الله تعالى: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا
فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ *
وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ
فُرُوجَهُنَّ﴾9.
عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام قَالَ: "النَّظَرُ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ
إِبْلِيسَ مَسْمُومٌ وكَمْ مِنْ نَظْرَةٍ أَوْرَثَتْ حَسْرَةً طَوِيلَةً"10.
وعن أبي عبد الله عليه السلام: "النظرة بعد النظرة تزرع في القلب الشهوة وكفى بها
لصاحبها فتنة"11.
فالنظر إلى الأمور المحرّمة التي تثير الشهوة سوف تترك آثاراً سلبية جداً على خيال
الإنسان وتفكيره وحتّى تركيزه. وسوف يصبح مرتعا للصور الفاسدة التي ستجرّه حتماً
إلى ارتكاب الأعمال القبيحة، فيغرق شيئاً فشيئاً في رمال الذنوب المتحرّكة التي لو
لم يبادر لاستنقاذ نفسه منها سوف ترديه في الهلكة وتقوده نحو الهاوية.
4- التفكير بالشهوة:
التفكير بحدّ ذاته لا محذور فيه بل هو نعمة من الله وأمر ممدوح في الإنسان. لكنّ
التفكير إذا كان في أمر محرّم فقد يقود صاحبه إلى فعل الحرام، وهذا هو التفكير
المنبوذ. والاستغراق في التفكير الحرام خطير جداً على نفس الإنسان وروحه خصوصاً
الشابّ والفتاة. لذا لو خطرت للإنسان خاطرة أو فكرة ما محرّمة فإنّ الواجب عليه أن
يقطع التفكير بها مباشرة ويشغل فكره بأمور خيّرة ومفيدة وفيها رضا لله ولرسوله
ولإمام زمانه، لأنّهم جميعاً شهود على أعماله ما ظهر منها وما بطن ﴿وَمَا تَكُونُ
فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ
كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودً﴾12.
تربية الشهوات
على الإنسان المؤمن أن يعمل على تربية نفسه من خلال إخضاعها لحكم الشرع والعقل
المنوَّر بنور الشرع، لما لهذه التربية من دور حاسم وفعّال في السيطرة على الشهوات
وعدم السماح لها بالتحكّم المطلق بالإنسان. وقد أشارت الآيات والروايات الشريفة إلى
ما يمكن أن يقوّي النفس الإنسانية ويعطيها العزيمة والقوى اللازمة لتتمكّن من
مواجهة مدّ الشهوة الجارف. وسوف نكتفي بذكر ثلاثة من هذه العناوين وهي:
1- تعزيز الحكمة والمعرفة:
الحكمة هي العلم بحقائق الأشياء. وأشرف العلوم وأحسنها هو علم العقيدة المُعرِّف
لأصول الدين، وعلم الأخلاق المعرِّف لمنجيات النفس ومهلكاتها، وعلم الفقه المعرّف
لكيفية العبادات والمعاملات. وكلمّا عزّز الإنسان الجوانب المعرفية والعلميّة فيه،
كان أكثر تحصّناً أمام الشهوات. من هنا وجب على الإنسان معرفة أسباب الإنجرار وراء
الشهوات، حتّى يكون في مأمنٍ منها. عن الإمام عليّ عليه السلام قال: "كلّما قويت
الحكمة ضعفت الشهوة"13. وعنه عليه السلام أيضا أنّه قال: "أغلب الشهوة تكمل لك
الحكمة"14.
2- تربية النفس على العفّة:
من الطرق المعروفة في علاج الأمراض الأخلاقية المواظبة على ضدّها. والنظرية التي
تضادّ نظرية الشهوات تماماً هي نظرية العفّة، فعلاج حبّ الشهوات يكمن في تربية هذه
الشهوات بطريقة صحيحة من خلال تربية العفّة في نفوس المؤمنين.
والعفّة هي صفة نفسية في الإنسان وتعني صون النفس وتنزيهها عن كلّ أمر دنيّ.
والتحلّي بالعفة يرفع من مقام العبد ويحصنّه من الوقوع في المعاصي ومنها الشهوات
المحرّمة، عن الإمام علي عليه السلام: "لَكَادَ الْعَفِيفُ أَنْ يَكُونَ مَلَكاً
مِنَ الْمَلَائِكَةِ"15. فهذه الرواية تشير إلى أنّ العفّة سبب في ترك المعاصي
والقرب من الله تعالى بحيث يصبح سلوكه كله طاعة لله تعالى وكأن العفيف ملك من
الملائكة، وعنه عليه السلام: "ثمرة العفة الصيانة"16.
ووصف الإمام أمير المؤمنين عليه السلام المتقين بأنّ "أَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ"17
وذلك لاعتدال قوّتهم الشهوية ووقوعها على الوسط بين رذيلتي الخمود والفجور فلا
يعجزون عن الحقّ ولا يميلون إلى الفجور18.
وعَنْ مُفَضَّلٍ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله عليه السلام: "إِيَّاكَ
والسَّفِلَةَ فَإِنَّمَا شِيعَةُ عَلِيٍّ مَنْ عَفَّ بَطْنُه وفَرْجُه واشْتَدَّ
جِهَادُه وعَمِلَ لِخَالِقِه ورَجَا ثَوَابَه وخَافَ عِقَابَه فَإِذَا رَأَيْتَ
أُولَئِكَ فَأُولَئِكَ شِيعَةُ جَعْفَرٍ"19.
وحسب ما ورد في كلام أمير المؤمنين عليه السلام: "المتّقون أنفسهم قانعة وشهواتهم
ميتة ووجوههم مستبشرة وقلوبهم محزونة"20، فالعفة تحفظ النفس وتجعل الشهوات في موقع
وسطيّ معتدل. من هنا كان لا بدَّ للمؤمن من تربية نفسه على العفّة بكل مواردها،
ليصبح مصداق قوله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ
لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ
التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا
تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾21.
3- التفكّر بعواقب الشهوة المحرّمة:
قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: "تَرْكُ الْخَطِيئَةِ أَيْسَرُ مِنْ
طَلَبِ التَّوْبَةِ وكَمْ مِنْ شَهْوَةِ سَاعَةٍ أَوْرَثَتْ حُزْناً طَوِيلاً"22.
والمراد من الحزن في كلام الأمير عليه السلام هو الحزن بعد الموت بمشاهدة سوء
العاقبة أبداً، أو قبل الموت أيضاً، فما يتبع الشهوة بعد انقضائها هو الحزن الشديد،
وذلك لعلم الإنسان بقبح وظلمة آثارها23. من هنا نجد أنَّ التفكّر بتوابع وعواقب
الشهوات المحرّمة يردع الإنسان عن الوقوع في مهالكها، ويجنّبه الحسرة والندم والحزن
وغيرها من الآثار الوخيمة.
* أخلاقنا الإسلامية، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- أنظر: ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب، تحقيق وتصحيح جمال الدين
الميردامادي، بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع- دار صادر، 1414هـ، ط 3، ج
14، ص 445.
2- سورة آل عمران، الآية 14.
3- سورة الأعراف، الآية 32.
4- سورة الأعراف، الآية 179.
5- سورة الأعراف، الآية 176.
6- سورة مريم، الآية 59.
7- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص 375، باب مجالسة أهل المعاصي، ح3.
8- المازندراني، شرح أصول الكافي، ج 10، ص 33.
9- سورة النور، الآيتان 31 - 32.
10- الشيخ الكليني، الكافي، ج5، ص 559، باب نوادر، ح12.
11- الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج4، ص 18، ح 4970.
12- سورة يونس، الآية61.
13- الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص 395.
14- م.ن، ص 75.
15- السيد الرضي، نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام، ص 559، الحكمة 474.
16- الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص 208.
17- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص 132، باب ذم الدنيا والزهد فيها، ح15.
18- المازندراني، شرح أصول الكافي، ج 8، ص 366.
19- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص 233، باب المؤمن وعلاماته وصفاته، ح9.
20- الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص 58.
21- سورة البقرة، الآية 273.
22- الشيخ الكليني، الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 451، باب أن ترك الخطيئة أيسر من
(طلب) التوبة، ح1.
23- أنظر: شرح أصول الكافي، مولي محمد صالح المازندراني، ج10، ص 200.