يتم التحميل...

منهج القرآن في الافادة والبيان

مقدمات في التفسير

ان للقرآن في افادة معانيه منهجا يخصه، لا هو في مرونة اساليب كلام العامة، ولا هو في صعوبة تعابير الخاصة، جمع بين السهولة والامتناع، وسطاء بين المسلكين، سهلا في التعبير والاداء, بحيث يفهمه كل قريب و بعيد, ويستسيغه كل وضيع ورفيع.

عدد الزوار: 28

ان للقرآن في افادة معانيه منهجا يخصه، لا هو في مرونة اساليب كلام العامة، ولا هو في صعوبة تعابير الخاصة، جمع بين السهولة والامتناع، وسطاء بين المسلكين، سهلا في التعبير والاداء، بحيث يفهمه كل قريب و بعيد، ويستسيغه كل وضيع ورفيع، وهو في نفس الوقت ممتنع في الافادة بمبانيه الشامخة، والادلاء بمراميه الشاسعة، ذلك انه جمع بين دلالة الظاهر وخفاء الباطن، في ظاهر انيق وباطن عميق.

قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: "وهو الدليل يدل على خير سبيل، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل، وهو الفصل ليس بالهزل، وله ظهر وبطن، فظاهره حكم وباطنه علم، ظاهره انيق وباطنه عميق له نجوم وعلى نجومه نجوم، لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة، ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة"1.

"فما من آية الا ولها ظهر وبطن"، كما في حديث آخر مستفيض2، فهناك عبارات لائحة يستجيد فهمها العامة فهما كانت لهم فيه قناعة نفسية كاملة، ولكنها الى جنب اشارات غامضة كانت للخاصة، فيحلوا من عقده، ويكشفوا من معضله، حسبما اوتوا من مهارة علمية فائقة.

وبذلك قد وفق القرآن في استعمالاته للجمع بين معان ظاهرة واخرى باطنة، لتفيد كل لفظة معنيين او معاني متراصة، و ربما مترامية حسب ترامي الاجيال والازمان، الامر الذي كان قد امتنع حسب المتعارف العام، فيماقال الاصوليون: من امتناع استعمال لفظة واحدة وارادة معان مستقلة لكن القرآن رغم هذا الامتناع نراه قد استسهله، واصبح منهجا له في الاستعمال.

كان ممن سلف من الاصوليين من يرى امتناع استعمال اللفظ وارادة معنيين امتناعا عقلي، نظرا الى ان حقيقة الاستعمال ليس مجرد جعل اللفظ علامة لارادة المعنى، بل جعله وجها وعنوانا له، بل بوجه نفسه كانه الملقى، ولذا يسري اليه قبحه وحسنه وعليه فلايمكن جعل اللفظ كذلك الا لمعنى واحد، ضرورة ان لحاظه كذلك لايكاد يمكن الا بتبع لحاظ المعنى، فانيا فيه فناء الوجه في ذي الوجه، والعنوان في المعنون، ومعه كيف يمكن ارادة معنى آخر كذلك في استعمال واحد، مع استلزامه للحاظ آخر غير لحاظه الاول في نفس الوقت هكذا جاء في تقرير كلام العلامة الاصولي الكبير المحقق الخراساني3.

وجاء الخلف ليجعلوا من هذا الامتناع العقلي ممكنا في ذاته، وممتنعا في العادة، حيث لم يتعارف ذلك ولم يعهد استعمال لفظة وارادة معنيين مستقلين في المتعارف العام، فالاستعمال كذلك كان خلاف المتعارف حتى ولو كان ممكنا في ذاته، نظرا لان الاستعمال (استعمال اللفظة وارادة المعنى) انما هوبمثابة جعل العلامة من قبيل الاشارات والعلائم الاخطارية، فلا مانع عقلا من استعمال علامة لغرض الاخطارالى معنيين او اكثر، اذا كان اللفظ صالحا له بالذات، فيما اذا كان قد وضع لكلا المعنيين مشتركا لفظياً، اوامكن انتزاع مفهوم عام نعم لم يعهد ذلك في الاستعمالات المتعارفة.

الامر الذي استسهله القرآن وخرج على المتعارف، وجعله جائزا وواقعا في استعمالاته4 فقد استعمل اللفظة واراد معناها الظاهري، حسب دلالته الاولى، لكنه في نفس الوقت صاغ منه مفهوما عاما وشاملا ثاني، يشمل موارد اخر ليكون هذا المفهوم العام الثانوي هو الاصل المقصود بالبيان، والضامن لبقاء المفاهيم القرآنية عامة وشاملة عبر الايام، وليست بالمقتصرة على موارد النزول الخاصة.

وكان المفهوم البدائي للاية، والذي كان حسب مورد نزولها الخاص، هو معناها الظاهر، ويسمى بـ"التنزيل" اما المفهوم العام المنتزع من الاية الصالح للانطباق على الموارد المشابهة، فهو معناها الباطن، المعبر عنه بـ"التاويل"، وهذا المفهوم الثانوي العام للآية هو الذي ضمن لها البقاء عبر الايام.

سئل الامام ابو جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام عن الحديث المتواتر عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: "ما من آية الا ولهاظهر وبطن"، فقال: "ظهره تنزيله، وبطنه تاويله، منه ما قد مضى ومنه ما لم يجئ، يجري كما تجري الشمس والقمر، كلما جاء شيء منه وقع"5.

وقال: "ظهر القرآن: الذين نزل فيهم، وبطنه: الذين عملوا بمثل اعمالهم"6.

واضاف عليه السلام: "ولو ان الاية اذا نزلت في قوم، ثم مات اولئك القوم، ماتت الاية، لما بقي من القرآن شيء، ولكن القرآن يجري او له على آخره ما دامت السماوات والارض، ولكل قوم آية يتلونها هم منها من خير او شر"7.

نعم كان العلم بباطن الاية، اي القدرة على انتزاع مفهوم عام صالح للانطباق على موارد مشابهة، خاصا بالراسخين في العلم، وليس يفهمه كل احد حسب دلالة الاية في ظاهرها البدائي.

والخلاصة: ان لتعابير القرآن دلالتين: دلالة بالتنزيل، وهو ما يستفاد من ظاهر التعبير، ودلالة اخرى بالتاويل، وهو المستفاد من باطن فحواه، وذلك بانتزاع مفهوم عام صالح للانطباق على الموارد المشابهة عبرالايام اذن اصبح القرآن ذا دلالتين: ظاهرة وباطنة، الامر الذي امتاز به على سائر الكلام.

مثلا آية الانفاق في سبيل اللّه، نزلت بشان الدفاع عن حريم الاسلام، فكان واجبا على المسلمين القيام بهذاالواجب الديني، لياخذوا باهبة الامر ويعدوا له عدته، ومنها بذل الاموال فضلا عن بذل النفوس هذا شي كان واجبا على عامة المكلفين انفسهم كل حسب امكانه، هذا ما يفهم من ظاهر الاية البدائي.

اما الفقيه النابه فيستفيد من الاية شيئا اوسع، يشمل كل ضرورات الدولة القائمة على اساس العدل، واحيا كلمة اللّه في الارض، فيجب بذل المال في سبيل تثبيت دعائم الحكم العادل والتشييد من مبانيه، فيجب دفع الضرائب المالية حسبما يقرره النظام، مستفادا من الاية الكريمة في باطن فحواه، اخذا بالتاويل حسب المصطلح.

وهكذا المستفاد من آية خمس الغنائم، وجوب دفع الخمس في مطلق الفوائد وارباح المكاسب، حسبما فهمه الامام الصادق عليه السلام من الاية، اخذا بعموم الموصول، واطلاق الغنيمة على مطلق الفائدة.

وفي القرآن من هذا القبيل الشيء الكثير، الامر الذي ضمن للقرآن بقاءه مع الخلود.

وجهة اخرى: ان للقرآن لغته الخاصة به، شان كل صاحب اصطلاح، فللقرآن اصطلاحه الخاص، يستعمل الفاظا وتعابير في معان ارادها بالذات، من غير ان يكون في اللغة او في سائر الاعراف دليل يدل عليه، لانه من اصطلاحه الخاص ولا يعرف الا من قبله ومن ثم كان القرآن ينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض، كما جاء في كلام الامام امير المؤمنين عليه السلام8.

ان في القرآن تعابير كثيرة لاتكاد تدرك معانيها الا اذا سبرت القرآن سبرا وفحصته فحص، لتعرف مفاهيمها التي اصطلح عليها القرآن من القرآن ذاته، وليس من غيره اطلاقا.

هكذا ذهب سيدنا العلامة الطباطبائي قدس سره الى ان الدلالة على مفاهيم القرآن، انما هي من ذات القرآن، وليس من خارجه ابد، لانه تبيان لكل شيء، وحاشاه ان لا يكون تبيانا لنفسه، فان القرآن يفسر بعضه بعضا وهذا هو اصل التفسير المعتمد، وقد بنى تفسيره في الميزان على هذا الاساس9.

مثلا: لفظة "الاذن" في الاستعمال القرآني، جاء بمعنى: امكان التداوم في التاثيرالحاصل وفق مشيئة اللّه وارادته الخاصة، اي تداوم الافاضة من قبله تعالى، حيث التاثير في عالم التكوين،موقوف على اذنه تعالى، بان يفيض على عامل التاثير خاصيته التاثيرية، حالة التأثير، اي يديمها ولا يقطع افاضته عليه حينذاك، والا لما امكن لعامل التاثير ان يؤثر شيئا ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ10 تلك ارادته تعالى الحادثة، هي التي امكنت للأشيا تاثيرها وتاثرها في عالم الطبيعة، ولولاها لما امكن لعامل طبيعي ان يؤثر شيئا في عالم الوجود، وهذا هو المراد من تداوم افاضته تعالى في عالم التكوين.

قال تعالى: ﴿وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ11 فلولا اذنه تعالى، اي تداوم افاضة ـامكان التاثير من قبله تعالى ـ لما امكن لسحرهم ان يؤثر شيئا.

وذلك نظرا لان عوامل التاثير في عالم الوجود، انما هي متاثرة ـ في امكان تاثيرها ـ بتاثيره تعالى، اذ لا مؤثرفي الوجود الا اللّه، حيث الممكنات باسرها فقيرات في ذوات انفسه، فكما انها بذاتها محتاجة الى افاضة الوجود عليه، كذلك اثرها في عالم الطبيعة امر ممكن، ومحتاج لافاضة الوجود عليه ففور ارادة التاثير يجب تداوم افاضة امكان التاثير عليه حتى يتمكن من التاثير ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ  يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ 12 اي بامكان التاثير الحاصل من قبله تعالى.

وهذا هو معنى "الاذن" في التكوين، حسب المصطلح القرآني، مستفادا من قوله تعالى: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ13.

وقد دأب القرآن على اسناد الافعال الصادرة في عالم الوجود كلها الى اللّه، سواء أكان فاعلها فاعلا ارادياكالانسان والحيوان، ام غير ارادي كالشمس والقمر، وليس ذلك الا من جهة انه المؤثر في تحقق الافعال مهماكانت، اختيارية ام غير اختيارية انه تعالى هو الذي اقدر الاشياء على فعل الافعال، وامدهم بالقوى، وافاض عليهم الاقدار بصورة مستديمة.

قال تعالى: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ14 اي انقلبت اهواؤهم وابصارهم، وهم الذين اوجبوا هذا القلب.

وهكذا قوله: ﴿خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ15 بدليل قوله تعالى: ﴿وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ16.

قال تعالى: ﴿وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ17 اي تتقلب اجسادهم ذات اليمين وذات الشمال، غير ان هذا التقلب كان باذنه تعالى، فصح اسناد الفعل اليه.

ولفظة "القلب" في القرآن الكريم، يعني: شخصيه الانسان الباطنة، وراء شخصيته هذه الظاهرة، وهي التي كانت منبعث ادراكاته النبيلة، واحاسيسه الكبرى الرفيعة، المتناسبة مع شخصيته الانسانية الكريمة ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ18.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ19.

المراد بـ"القلب" في هذه الاية، هي شخصية الانسان الكريمة اذا ما تمرد الانسان على قوانين الشريعة، فانه يصبح بهيمة لايعرف من الانسانية شيئا ﴿نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ20.

ولفظة "المشيئة" في القرآن، مصطلح خاص يراد بها الارادة الحادثة المنبعثة عن مقام حكمته تعالى، وليست مطلق الارادة.

فقوله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ21.
كان المقصود: المشيئة وفق الحكمة، فيؤتى الملك من اقتضت حكمته تعالى، وينزع الملك ممن اقتضت حكمته.

وهكذا ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء22، اي من تقتضيه حكمتنا ان نرفعه، اي من كانت المقتضيات متوفرة في ذات نفسه، فالاقتضا انما هو في ذاته، فهو محل صالح لهذه العناية الربانية، وليس اعتباطا اوترجيحا من غير مرجح، حيث الحكمة هي وضع الاشياء في مواضعها.

والدليل على ذلك، تذييل الاية بقوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 23 فالحكيم لا يشاء شيئا الا ما كان وفق حكمته، وليس مطلق المشيئة.

والتعابير من هذا القبيل كثيرة في القرآن، وانما هي مصطلحات قرآنية، لا تعرف الامن قبله، ليكون القرآن هوالذي يفسر بعضه بعضا.

ومن المصطلح المتعارف في القرآن، اعتماده المعهود من قرائن حالية، ليصدر احكاما في صورة قضاياخارجية ـ اشارة الى المعهود الحاضر حال الخطاب ـ وليست بقضايا حقيقية، حتى تكون الاحكام مترتبة على الموضوعات، متى وجدت واين وجدت هذه الظاهرة كثيرة الدور في القرآن الكريم، وربما زعم زاعم انهاقضايا حقيقية دائمة، وليست كذلك.

مثلا قوله تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ24.

ليس المراد مطلق اليهود، سوا من عاصر نبي الاسلام ام غيرهم، ولا مطلق من اشرك، ولا مطلق النصارى بل يهود يثرب ممن عاصر نبي الاسلام، ومشركو قريش، ونصارى نجران، وقيل: وفد النجاشي ذلك العهد، لانهاحكاية عن امة ماضية اسلم من اسلم منهم، وعاند من عاند.

فقد جا تعقيب الاية بقوله: ﴿وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ـ يعني بهم اليهود والمشركين ـ  أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيم25.

وهذا نظير قوله تعالى عن المخلفين من الاعراب: ﴿سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا26 اشارة الى خصوص من قعد عن الحرب ايام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

وكذا "الناس"  في قوله: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُم27 حيث المراد بالناس الاول: هم المنافقون المرجفون من اهل المدينة، والناس الثاني: هم مشركو قريش رهط ابي سفيان، بعد هزيمتهم من احد.

وهكذا قوله تعالى: ﴿الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيم28 المراد من عاصروا النبي من اهل الجفاء والنفاق، كما في قوله: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ29 وغيرذلك مما وقع هذا التعبير في مواضع من سورة براءة (الايات: 90/97/98/99/101) حيث المقصود من الجميع: اعراب المدينة ومن حولها.

وجهة ثالثة: ايفاؤه بالوفرة الوفيرة من المطالب ومختلف المسائل، في اقصر تعابير وايسر كلمات، ربمايكون حجم المطالب اضعاف حجم الكلمات والتعابير والقرآن ملؤه ذلك، وهو من اختصاصه، ان يدلي باوفرالمعاني في اوجز الالفاظ.

هذه سورة الحجرات على قصره، وهي ثماني عشرة آية، تحتوي على اكثر من عشرين مسالة من امهات المسائل الاسلامية العريقة، نزلت بالمدينة، لتنظيم الحياة الاجتماعية العادلة وقد تعرض لها المفسرون ولا سيما المتاخرين بتفصيل.

ومما جا فيها التعرض لقاعدة "اللطف" التي هي اساس الشرائع، ومسالة "الحب في اللّه والبغض في اللّه" التي هي اساس الايمان، في اقصر عبارة: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَِ30 فمن لطفه تعالى وعنايته بعباده ان مهد لهم اسباب الطاعة وقربها اليهم، ليتمكنوا من طاعة اللّه ويجتنبوا الفسوق والعصيان، وذلك بان زين الايمان والطاعة في قلوبهم، اي ابدى لهم زينة الايمان، بان رفع عن اعينهم غشاء التعامي، كما انه تعالى كره اليهم العصيان بان اظهرقبحه في اعينهم فكرهوه في ذات انفسهم فالمؤمن انما يطيع اللّه وهو محبب له الطاعة، ومن ثم فانه يقدم على الطاعة في وداعة وطمانينة ويسر، كما انه يجتنب المعاصي في يسر، لانه عن نفرة لها في نفسه.

وهذه هي قاعدة اللطف تمهيد ما يوجب قرب العباد الى الطاعة وبعدهم عن المعصية، مستفادة من الاية الكريمة.

وشيء آخر: مسالة "الحب في اللّه والبغض في اللّه" وهي اساس الايمان وصلب العقيدة، والباعث على الجد في العمل، ومن ثم قال الامام الصادق عليه السلام: "وهل الايمان الا الحب والبغض، ثم تلا الاية الكريمة"31 وقد قال تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهَُِ32.

وامر ثالث مستفاد من الاية الكريمة: ان هدايته للناس كانت فضلا من اللّه ورحمة، ناشئة عن مقام فيضه القدوسي، وليس عن حق عليه سبحانه ﴿فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ33، ﴿وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكََِ34.

فالانسان بذاته لا يستحق شيئا على ربه، وانما اللّه هو الذي تفضل على الانسان برحمته ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ35، ومن ثم عقب سبحانه الاية بقوله: ﴿فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ36.

وفي السورة اشارة الى مسالة التعاون في الحياة الاجتماعية، جات في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ37.

وفيها الاشارة الى مسالة "المساواة" وان لا شعوبية في الاسلام، ولا عنصرية، ولا قومية، وان لا فضل لاحدعلى غيره اطلاق، لا حسبا ولا نسب، الا بفضيلة التقوى، وهو التعهد في ذات اللّه.

كما فيها الاشارة ايضا الى مسالة "الاخوة الاسلامية" المتطلبة للايثار والتضحية، فوق قانون العدل والانصاف.

وفي القرآن كثير من عبارات يسيرة انطوت على مفاهيم ذات احجام كبيرة،.

كقوله تعالى في سورة الانفال: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى38 اشارة الى مسالة "الامربين الامرين" وان لا جبر ولا تفويض، وهي من المسائل المذيلة ذات تفصيل طويل.

وكقوله تعالى في سورة الواقعة: ﴿أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ  * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ 39 اشارة الى مسالة "الاستطاعة" وان لا استقلال للعباد فيما يتصرفون من افعالهم الاختيارية.

والامثلة على ذلك كثيرة ومنبثة في القرآن الكريم، غير خفية على الناقد البصير.

وجهة رابعة: قد سلك القرآن في تعاليمه وبرامجه الناجحة مسلك، ينتفع به الجمهور، ويخضع له العلماء، ومن ثم جاء بتعابير يفهمها كل من الصنفين: الجمهور ياخذون بظاهر الكلام ويتصورون له من المعاني ما الفت بها اذهانهم في الامور المحسوسة، ويحسبون فيما ورا محسوسهم ما يشاكل المحسوس، ويقتنعون بذلك، ويستريح بالهم.

والعلماء يعرفون حقيقة الحال التي جات في طي المقال، وياخذون بلطائف الاشارات وظرائف الكنايات التي مثلت لهم الحقيقة في واقع الامر، بما يخضعهم له ويطمئنون اليه.

خذ لذلك مثلا قوله تعالى ـ تعبيرا عن ذاته المقدسة في عالم الكون ـ: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض 40 لما كان ارفع الموجودات في الحس هو النور، ضرب اللّه به المثال، وبهذا النحو من التصور امكن للجمهور ان يفهموا من الذات المقدسة موجودا اجلى واظهر فيما وراء الحس، يشبه ان يكون مثل النور في المحسوس شبهام، ويقتنعون بذلك.

اما العلماء فيرون من هذا التشبيه اقرب ما يكون تصورا من ذاته المقدسة، فليس في عالم المحسوس ما يكون على مثاله، وفي اخص اوصافه تعالى كالنور الذي هو ظاهر في نفسه، ومظهر لغيره، وليس شي في عالم المحسوس (المبصرات) الا ويكون ظهوره بالنور، اما النور فهو ظاهر بنفسه وليس بغيره.

وكذا لا يكون ـ في عالم المحسوس ـ شيء اكثر ظهورا وفي نفس الوقت اشد خفامن النور، ظاهر بثاره، خفي بكنهه وحقيقته.

وهذه هي نفس صفاته تعالى اذا ما لاحظنا حقيقة وجوده، القائم بذاته، المظهرلغيره، الذي خفيت حقيقته وظهرت آثاره، وهو اللّه جل جلاله، وعظمت كبرياؤه.

وهكذا نجد القرآن، في استدلالاته، قد جمع بين اسلوبين يختلفان في شرائطهم، هما: اسلوب الخطابة، واسلوب البرهان، ذاك اقناع للجمهور بما يتسالمون به من مقبولات القضايا ومظنوناته، وهذا اخضاع للعلمابما يتصادقون عليه من اوليات ويقينيات ومن الممتنع في العادة ان يقوم المتكلم باجابة ملتمس كلا الفريقين،ليجمع بين المظنون والمتيقن، في خطاب واحد، الامر الذي حققه القرآن بعجيب بيانه وغريب اسلوبه.

وقد بحثنا عن ذلك واتينا بامثلة عليه في مباحثنا عن الاعجاز البياني للقرآن41.

وجهة خامسة: قد اكثر القرآن من انواع الاستعارة واجاد في فنونه، وكان لا بد منه وهو آخذ في توسع المعاني توسع الافاق، في حين تضايقت الالفاظ عن الايفاء بمقاصد القرآن، لو قيدت بمعانيها الموضوعة لهاالمحدودة النطاق.

جاء القرآن بمعان جديدة على العرب لم تكن تعهده، وما وضعت الفاظها الا لمعان قريبة، حسب حاجاتها في الحياة البسيطة البدائية القصيرة المدى اما التعرض لشؤون الحياة العليا المترامية الابعاد، فكان غريبا على العرب الاوائل المتوغلة في الجاهلية الاولى.

ومن ثم لجأ القرآن في افادة معانيه والاشادة بمبانيه الى احضان الاستعارة والكناية والمجاز، ذوات النطاق الواسع، حسب ابداع المتكلم في تصرفه به، والقدرة على الاحاطة في تصريف المباني والافادة بما يرومه من المعاني وقد ابدع القرآن في الاستفادة بها وتصريفها حيثما شا من المقاصد والاهداف، ولم يعهد له نظير في مثل هذه القدرة ومثل هذه الاحاطة، على مثل هذا التصرف الواسع الاكناف، الامر الذي ابهر واعجب واتى بالاعجاز.

ولعل هذا هو السبب ايضا في عروض التشابه في لفيف من آيات الخلق والتكوين،نظرا لقصور الالفاظ عن الايفاء بتلك المعارف الجليلة الواسعة الاكناف.

وبذلك اصبحت لغة القرآن ـ من هذه الجهة ـ ذات طابع خاص، حيث وفرة الاستعارة من النمط الراقي، وعروض بعض التشابه بسبب هذا الشموخ والتعالي.

*التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب، الشيخ محمد هدي معرفة، من منشورات الجامعة الرضوية الإسلامية، ط1، ص97-112.


 

1- الكافي الشريف، ج2، ص 599.
2- رواه الفريقان راجع: تفسير العياشي، ج1، ص 11 وبحارالانوار، ج89 (ط بيروت )،ص 88 ـ 95.
3- هو المولى محمد كاظم الخراساني صاحب كفاية الاصول (راجع: حقائق الاصول للامام الحكيم، ج 1، ص 89 ـ 90).
4- وذلك نظرا لاحاطته تعالى وشمول عنايته لجميع عباده ولا يخفى ان المفهوم العام المنتزع من الاية، هو بنفسه معنى آخر مقصود مستقلا ورا ارادة المعنى الظاهري الاولي،فكل من المعنيين الظاهر والباطن مقصود بذاته، وليس مندرجا تحت الاخر، فهومن موضوع البحث وليس خارجا عنه، كما زعم.
5- بحارالانوار، ج89 (ط بيروت )، ص 94، رقم 47 و46.
6- المصدر نفسه،ص 97،رقم 64.
7- تفسير العياشي، ج1، ص 10 رقم 7.
8- نهج البلاغة الخطبة رقم 133.
9- راجع: مقدمة التفسير، ج1، ص 9.
10- التكوير:29.
11- البقرة:102.
12- الاعراف:58.
13- الانسان:30.
14- الانعام:110.
15- البقرة:7.
16- البقرة:88.
17- الكهف:18.
18- ق:37.
19- الانفال:24.
20- الحشر:19.
21- آل عمران:26.
22- الانعام:83.
23- المائدة:82.
24- المائدة:83 ـ 86.
25- الفتح:11.
26- يوسف:6
27- آل عمران:173.
28- التوبة:97.
29- التوبة:101.
30- الحجرات:7.
31- الكافي، ج2، ص 125 رقم 5.
32- آل عمران:31.
33- البقرة:64.
34- القصص:86.
35- الاعراف:43.
36- الحجرات:8.
37- الحجرات:13.
38- الانفال:17.
39- الواقعة:63.
40- النور:35
41- راجع: التمهيد، ج5، ص 499 فصل (الاستدلال في القرآن).

2009-10-21