يتم التحميل...

الثبات

زاد عاشوراء

كم نصادف في حياتنا أناساً زلّت أقدامهم عن صراط الحقّ وانحرفو، وكم نجد في بطون الكتب وحكايا النّاس من الأحاديث عن أناس من علّيّة القوم،

عدد الزوار: 313

قال الله تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلً1.

حوادث الأيّام كواشف المعادن:

كم نصادف في حياتنا أناساً زلّت أقدامهم عن صراط الحقّ وانحرفو، وكم نجد في بطون الكتب وحكايا النّاس من الأحاديث عن أناس من علّيّة القوم، ومن القيادات وأهل الفكر والرأي والخاصّة ومن قادة عسكريّين وسياسيّين، وكذلك من عامّة النّاس قد اعتراهم حالات من التراجع عن الحقّ والمبادئ وتزلزلوا وعن أناس من هذه الأنواع من تعلّلوا بشتّى العلل ليجدوا لتخلّفهم عن ركب الحقّ والصدق ما يُسوِّغه، وربّما تقرأ أو تسمع أنّ بعضهم قد كفر بالحقّ والقيم وتحوّل إلى عكسها فأصبح من أنصار الباطل وجنده، شاهراً سيفه على الحقّ وأهله ومسلّطاً لسانه ومسخّراً بيانه لخدمة الباطل وترويجه، وما ذلك إلّا بسبب نار التجربة وفي غربال المحنة اللذين يفرزان النّاس فتزلّ قدم، وتثبت أخرى، ويهوي طود، وتشمخ قامة وتنحطّ نفس وتسمو أخرى.

وهذا طبع الزمن وطبع حوادثه تكشف حقائق النّفوس ومستورها والخبايا لتظهر حقائق الجوهر من زيف التراب، عن الإمام عليّ عليه السلام: "في تقلّب الأحوال علم جواهر الرجال"2.

عوامل التزلزل:

ثمّة مجموعة من العوامل ترجع إلى حالات نفسيّة متأتّية في الأغلب من منظومة علاقات الإنسان، ومكنونات القلوب وما عقدت عليه وتيقّنت به والعواطف وغيرها، ومن هذه العوامل:

1- الخوف من الموت:
قد يثبت بعض النّاس في المواطن لكن عندما يصل الأمر إلى درجة يشكّل فيه خطراً على حياته أو حياة من يحبّ أو ينتمي إليه فقد يتزلزل، وفي الحاضر وأخبار الماضين شواهد كثيرة على ذلك.

ومن الشواهد ما حصل مع سفير الإمام الحسين عليه السلام إلى أهل الكوفة الذين ما إن هدّدهم ابن زياد بالقتل عبر التلويح بمجيء جيش أهل الشام حتى انفضّوا من حول مسلم (رضوان الله تعالى عليه) وأسلموه لمصيره، والعلاج هو اليقين بأنّ تقدير الموت والحياة بيد الله تعالى، وهذا ردّ به الله على المتوهّمين أنّ الذهاب إلى ميادين الجهاد يوردهم إلى الموت وأنّ ترك ذلك يبقي لهم حياتهم حيث قال تعالى: ﴿يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ...3.

ثمّ إنّه لو أنّ الأجل حان لإنسان فهل باستطاعته تأخيره أو دفعه قال تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ4.

2- حبّ الدّنيا والركون إليها:
فلقد أدّى حبّ الدّنيا والركون إليها إلى أن يخذل أبناء الأمّة سيّد الشهداء بل أن يأتي بعضهم إلى كربلاء جنديّاً في جيش ابن زياد بدل أن يأتي ناصراً لابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولقد أدرك الإمام الحسين عليه السلام هذا المرض عندهم فخاطب ذلك الجمع قائلاً: "الحمد لله الذي خلق الدّنيا فجعلها دار فناء وزوال، متصرّفة بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور من غرّته والشقي من فتنته، فلا تغرّنّكم هذه الدّنيا فإنّها تقطع رجاء من ركن إليها وتخيّب طمع من طمع فيها"5.

3- حبّ المال والجاه والسلطة والخوف عليها:
فإنّ الكثيرين ممّن هم في مواقع السلطة وذوي الشرف وأصحاب المال قد يتزلزلون وينقلبون عن الحقّ وأهله إلى الباطل وجمعه، ويصبحون سهاماً في كنانته، وسيوفاً في يده، ومن الشواهد على ذلك مواقف شيوخ العشائر في الكوفة، ومزايداتهم بعضهم على بعض، ولعلّ من أبرز الأمثلة على ذلك موقف عمر بن سعد الذي كان يعبّر عن هذه الحال بقوله شعراً:
أأترك ملك الري والري منيتي***أم أرجع مأثوماً بقتل حسينِ

4- الشكّ وعدم اليقين بالآخرة:
وهذا أيضاً ما عبّرت عنه أبيات ابن سعد.

عوامل الثبات والصمود:

لا شكّ أنّ من عوامل الثبات كلّ ما هو مضادّ لعوامل التزلزل إضافة إلى أمور أخرى نورد منها:

1- الاتعاظ من أحوال الماضين والتأسّي بالصالحين:
وقد قال تعالى لنبيّه في ذلك: ﴿وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ6.

وعن التأسّي بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرً7.

وكفى بأصحاب الحسين عليه السلام مثلاً وقدوة لنا في الثبات رغم الأهوال والأخطار.

2- تثبيت العقائد الحقّة:
أي الإيمان بالله واليوم الآخر، وما أعدّه الله تعالى للمؤمنين الثابتين ولمن يقتل أو يموت في طريق نصرة الحقّ ثابتاً على الحقّ سائراً في طريق الهدى حافظاً في كلّ ذلك حدود الله بالاستقامة على شريعة الله تعالى.

وأيضاً تصحيح النظرة وتصويب العلاقة بالدّنيا ومالها وجاهها وفهم حقيقة الدّنيا وعدم الاغترار به، وفهم حقيقة الجهاد وآثاره وبركاته والشهادة وفضلها ومقامها لتتحوّل النظرة من كونها في زمرة من قال فيهم تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ8.

إلى رتبة ومقام من يصبح الجهاد والشهادة بشرى لهم كما أراد تعالى، وبذلك أمرنا بقوله: ﴿فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ9.

خاتمة: التثبيت من الله:

إنّ المؤمن حقّاً والموحّد حقّاً هو الذي يرى الله تعالى هو الفاعل والمؤثّر الأوحد في الوجود، وهو مصدر كلّ خير، وكلّ شيء من عنده من رزق وحياة وعلم وهُدى ويقين وثبات، وأضدّادها من نقص أنفسنا، وحقٌّ على الفقير الناقص العاجز أن يلجأ إلى الكامل الغني الجواد الحنّان المنّان.

والتثبيت أمر من الأمور التي تبدأ من القلب، والله ربّ القلوب، وتنعكس في شتّى أرجاء النّفس والجسد والله كذلك ربّ الأجساد.

وقد علّمنا الله أن نلجأ إليه بكلّ شيء، كما حكى عن بعض المؤمنين ليعلّمنا أن نلجأ إليه وندعوه لنستمدّ منه الثبات والنّصر فقال عن سنّة المؤمنين والأنبياء في ذلك: ﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ10.

فبالدرجة الأولى علينا أن ننصر الله ونلجأ إليه ليكون الأثر التثبيت: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ11.

* كتاب زاد عاشوراء، إعداد معهد سيد الشهداء للمنبر الحسيني، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- سورة الأحزاب، الآية 23.
2- نهج البلاغة، الموعظة رقم 217.
3- سورة آل عمران، الآية 154.
4- سورة آل عمران، الآية 168.
5- بحار الأنوار، ج45، ص6.
6- سورة هود، الآية 120.
7- سورة الأحزاب، الآية 21.
8- سورة البقرة، الآية 216.
9- سورة التوبة، الآية 111.
10- سورة آل عمران، الآيات 146 - 148.
11- سورة محمّد، الآية 7.

2016-10-31