أسباب إدبار القلوب وفتورها
زاد عاشوراء
عندما ننظر إلى أنفسنا وإلى النّاس من حولنا، أو نطالع في سير النّاس الماضين نجد أنّ الكثيرين منّا قد مرّ عمر مديد على بدء تكليفه من عشرين أو ثلاثين أو أربعين أو حتّى أكثر من ذلك،
عدد الزوار: 398
عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ القلب يحيا ويموت، فإذا حيي فأدّبه بالتطوّع، وإذا مات فاقصره على الفرائض"1.
جفاف روحيّ:
عندما ننظر إلى أنفسنا وإلى النّاس من حولنا، أو نطالع في سير النّاس الماضين نجد
أنّ الكثيرين منّا قد مرّ عمر مديد على بدء تكليفه من عشرين أو ثلاثين أو أربعين أو
حتّى أكثر من ذلك، صحيح أنّه لم يترك فرضاً من صلاة إلّا أدّاه ولا ترك يوماً من
صيام شهر رمضان وحجّ واعتمر، ولا يخلو منه مجلس دعاء، أضف إلى حضور مجالس العزاء
وأداء الحقوق الماليّة، والتردّد إلى المساجد، لكن مع ذلك لا يشعر بالطمأنينة
والسكون، ولا يلتذّ بعبادة كأنّ ما يؤدّيه حركات رياضيّة وتمتمات لا يجد أثرها في
نفسه ويشعر بلذّتها كأنّما قالها غيره ولغيره.
وقد قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ
أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾2.
إذاً فثمّة مشكلة تتلخّص بعدم انفعال القلوب بالعبادة، فماء العبادة ومطر الذكر لا
يصل إلى أرض القلب لتنبت سكينة وطمأنينة ورقّة... فمعرفة وخشوعاً وخضوعاً. هناك
جفاف في الروح والقلب بل شيء أشبه بالتصحّر ومكان المرض هو القلب الذي هو المعنيّ
الأوّل بتلقّي الذكر وعيش آثاره وإذا ما أصاب المرض باقي القوى فبسبب مرض القلب.
فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "القلب ملك وله جنود، فإذا صلح الملك صلحت
جنوده وإذا فسد الملك فسدت جنوده"3.
وهذه الحال قد لا تكون دائمة عند بعض النّاس وإنّما قد تحصل مرّة بعد أخرى وهذا ما
تسمّيه الروايات حالات إدبار القلب، ففي الرواية عن النبيّ الأكرم محمّد صلى الله
عليه وآله وسلم: "إنّ للقلوب إقبالاً وإدبار، فإذا أقبلت فتنفّلوا وإذا أدبرت
فعليكم بالفريضة"4.
أسباب إدبار القلوب:
ثمّة أسباب كثيرة لإدبار القلوب تجعلها غير لائقة لطيّ مسافات البعد عن الله تعالى،
ورفع موانع تلقّي أنوار إشراقه عليه، وهي المفطورة على معرفته ومحبّته بل إنّ
حياتها الحقيقيّة هي به ومعه وبحبّه كما عبّر الإمام السجّاد تعيش حياتها الحقيقيّة:
"إلهي بحبّك عاش قلبي...".
فمن هذه الأسباب لإدبار القلوب:
1- التوجّه إلى لذائذ الدّنيا:
أي التعلّق بالدّنيا ولذّات البدن، فإنّ ذائقة النّفس إن هيمن عليها البعد الحيوانيّ
تصبح ذائقة حيوانيّة وتمنع من اللذائذ الروحانيّة والمعنويّة.
وهذا ما جاء عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: "لا يجد الرجل
حلاوة الإيمان في قلبه حتّى لا يبالي من أكل الدّنيا، ثمّ قال: حرام على قلوبكم أن
تعرف حلاوة الإيمان حتّى تزهد في الدّنيا"5.
فعندما تكون ذائقة الجسد هي الفعّالة فإنّ ذائقة القلب تصاب بالضعف وقد تصل إلى حدّ
الضمور، ولذا فعلينا أن نعالج ذلك بالزهد والجوع أي الصوم مع مجاهدة النّفس لإيقاظ
الذائقة المعنويّة.
2- اتباع الهوى:
ويكفي دلالة على ذلك ما في الرواية عن الإمام أبي جعفر عليه السلام قال:
"قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: يقول الله عزَّ وجلَّ: وعزّتي وجلالي وكبريائي ونوري
وعلوّي وارتفاع مكاني، لا يؤثر عبد هواه على هواي إلّا شتّت عليه أمره ولبست عليه
دنياه، وشغلت قلبه بها ولم آتِهِ منها إلّا ما قدّرت له، وعزّتي وجلالي وعظمتي
ونوري وعلوّي وارتفاع مكاني، لا يؤثر عبد هواي على هواه إلّا استحفظته ملائكتي
وكفّلت السماوات والأرضين رزقه وكنت له من وراء تجارة كلّ تاجر وأتته الدّنيا وهي
راغمة"6.
3- إرهاق النّفس بالعبادة مع عدم إقبالها:
وهذا ما يؤدّي إلى أن تكره النّفس العبادة، وتملَّ منها وتكسل عن أدائها نتيجة
إنهاك الإنسان لهذه النّفس بالعبادة بما يفوق طاقته، وقد حذّرنا من ذلك الرسول صلى
الله عليه وآله وسلم وأهل بيته فقد ورد عن أبي جعفر عليه السلام قال: "قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ هذا الدّين متين فأوغلوا فيه برفق ولا تكرهوا
عبادة الله إلى عباد الله، فتكونوا كالراكب المنبت الذي لا سفراً قطع ولا ظهراً
أبقى"7.
وقد علّمنا الإمام الرضا عليه السلام كيف نتعامل مع تفاوت حالات القلب فقال عليه
السلام: "إنّ للقلوب إقبالاً إدباراً ونشاطاً وفتوراً، فإذا أقبلت بصرت وفهمت، وإذا
أدبرت كلّت وملّت، فخذوها عند إقبالها ونشاطها، واتركوها عند إدبارها وفتورها"8.
4- ضعف الإيمان بالغيب:
ونقصد به الله تعالى والجنّة والنّار وغير ذلك، إذ عندما يكون المرء متزلزل الإيمان
ضعيف اليقين متردّداً في الشكّ ملوّثاً بالشبهات، لا يركن إلى وعد إلهيّ ولا إلى
وعيد فهذا القلب سيكون سقيم، وشرط انفعال القلب بالعبادة السلامة، وقد
سُئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما القلب السليم، قال صلى الله عليه وآله
وسلم: "دين بلا شكّ وهو عمل بلا سمعة ورياء"9.
وقال سبطه المجتبى عليه السلام: "أسلم القلوب ما طهر من الشبهات"10.
5- الغفلة:
إنّ شرط تأثّر الإنسان هو انتباهه ويقظته، فلو كان في سبات الغفلة أو سكر النعمة أو
الجاه والسلطة أو غير ذلك فإنّه أشبه بميّت في قبر حتّى رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم لم يؤذن له بإيقاظه وهدايته: ﴿وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي
الْقُبُورِ﴾11.
ومن لا يسمع أولى أن لا يتفكّر فيهم فيتأثّر، عن أبي جعفر عليه السلام: "إيّاك
والغفلة ففيها تكون قساوة القلب"12.
لا تؤدِّ العبادة كأنّها عادة:
من الأمور التي تفقد البعد المعنويّ للعبادة، وتجعل سهامها تطيش عن مقصدها وهي
القلوب، أن يحوّل الإنسان العبادة إلى طقس فارغ من معانيه، يؤدّيه لعادة اعتادها لو
تركها لاستوحش وحتّى لا نصاب بذلك علينا اتّباع جملة من الأمور منها:
1- إدامة التفكّر في العبادة وأبعادها ومعانيها ومعاني أفعالها وأقوالها فعن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يا أبا ذرّ ركعتان مقتصدتان في تفكّر خير من قيام
ليلة والقلب ساه"13.
2- عدم إشباع النّفس من العبادة، خصوصاً الحجّ والزيارة فعلى الإنسان أن يُبقي شيئاً
من حالة عدم إشباع هذه الحاجة ليبقى شيء من الشوق بحيث يشكّل هذا الشوق دافعاً
يتراكم في النّفس للعودة والإقبال على الطاعة.
اللهمّ وفّقنا لمراضيك وجنّبنا عن معاصيك.
* كتاب زاد عاشوراء، إعداد معهد سيد الشهداء للمنبر الحسيني، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- بحار الأنوار، ج75، ص 278.
2- سورة الرعد، الآية 28.
3- ميزان الحكمة، ج 3، 260.
4- الكافي، ج1، ص454.
5- شرح أصول الكافي (الشيرازي)، ج1، ص412.
6- وسائل الشيعة، ج15، ص 279.
7- الكافي، ج2، ص 86.
8- مستدرك الوسائل، ج2، ص55.
9- مستدرك الوسائل، ج1، ص 113.
10- بحار الأنوار، ج 75، ص 109.
11- سورة فاطر، الآية 22.
12- وسائل الشيعة، ج4، ص74.
13- بحار الأنوار، ج 74، ص 82.