الآخر في مدرسة عاشوراء
وأتممناها بعشر
وحتى لا تتكرّر قصّةُ ذلك الواقف على قبر الشهيد حُجْر بن عَدِيّ الذي أجاب سائله عن هويّة صاحب القبر قائلاً: هذا قبر سيّدنا حجر رضوان الله عليه، قتله سيّدنا معاوية رضوان الله عليه، لأنّه كان يوالي سيّدنا عليّاً عليه السلام.
عدد الزوار: 292
في مشهد كربلاء معسكران، أحدهما يمثِّل قِمّة النور، والآخر هاويةَ الظلمة.
وحتى لا تتكرّر قصّةُ ذلك الواقف على قبر الشهيد حُجْر بن عَدِيّ الذي أجاب سائله
عن هويّة صاحب القبر قائلاً: هذا قبر سيّدنا حجر رضوان الله عليه، قتله سيّدنا
معاوية رضوان الله عليه، لأنّه كان يوالي سيّدنا عليّاً عليه السلام. حتى لا تتكرّر
قصّة الحياد السلبيّ هذا، ورد في زيارة إمام كربلاء أبي عبد الله الحسين عليه
السلام سلام ولعن: سلام على قِمّة النور، ولعن على هاوية الظلمة.
السلام يستحضر:
1- طهر النور، "أشهد أنّك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة، والأرحام المطهرة"1.
2- وطهر مسيرته، "السلام عليك يا ثار الله وابن ثاره"2.
3- وطهر السائرين معه، "السلام عليكم يا أنصار أبي عبد الله"3.
واللعن يستهدف:
- أشخاص القتلة، "لعن الله آل زياد، وآل مروان... ولعن الله ابن مرجانة، ولعن الله
عمر بن سعد، ولعن الله شمراً"4.
- والأُمّة القاتلة، "لعن الله أُمّة.. قتلتكم"5.
- والممهدين للقتل، "لعن الله الممهِّدين بالتمكين من قتالكم"6.
السؤال:
حينما نلاحظ عناوين المستهدفين باللعن يبرز سؤال مهمٌّ حول سعة دائرة هذا اللعن،
بما له من تأثير على النظرة إلى الآخر، لا سيَّما بما يتعلق بمصير الآخَر الأُخرويّ
على حسب ما يفيده معنى اللعن الذي يتضمّن البعد عن رحمة الله، والدخول في عذابه
وناره.
الإجابة:
قد ينطلق البعض في مقام إجابته من نصوصٍ واردة في ظرف كربلاء الخاص، فيقول: إنَّ
دائرة اللعن تتعلّق بمن سمع الداعية، سواء كان من المشاركين في القتال، أو من
الواقفين على تلِّ الحياد يبكون، فقد أورد ابن الأعثم في الفتوح بأنّ الإمام الحسين
عليه السلام قال لعبيد الله بن الحر: "إن استطعت ألاّ تسمع صراخنا، ولا تشهد وقعتنا،
فافعل، لأنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: من سمع داعية أهل
بيتي ولم ينصرهم على حقِّهم إلا أكبَّه الله على وجهه في النار"7.
تجذير الإجابة
ولكن أودّ أن أُعمِّق الجواب ليشمل التاريخ والحاضر بما يشكِّل ثقافة لها تداعياتها
في الموقف من الآخرين، مستفيداً في الإجابة من العقل القطعيّ ونصّ العصمة.
الجزاء الإلهي في منطق العقل
إن العقل القطعيّ قاضٍ بعدالة الله تعالى، واستحالة أن يصدر عنه عزَّ وجلَّ ما يقطع
العقل بأنّه ظلم، ولهذه العقيدة انعكاسات في الحساب الإلهيّ يوم القيامة.
فالعقل هذا يأبى أن يكون الحساب يوم المعاد مقتصراً على معياريّة الهويَّة، بدون
أيّة اعتبارات أخرى، بأنْ يكون الفرز يوم القيامة على أساس أنّ غير المسلمين مطلقاً
يدخلون النار، ثمّ يُفرز المسلمون إلى المذاهب المتعدّدة، فكلُّ من لم يكن على
المذهب الحق يدخل جهنّم، ثم يفرز أصحاب المذهب الحقّ بحسب أعمالهم!!!
إنّ عدالة الله تعالى بحسب العقل القطعي تتنافى مع هكذا نوع من الحساب، وترشد إلى
نوع آخر منه يُلاحِظ المقدِّمات التي أدَّت إلى الهويّة العقائدية، فهذه المقدِّمات
قد يكون فيها تقصير، وقد تنطلق من قصور.
أما المقصِّر الذي كان يستطيع الوصول إلى الحق، لكنه قصَّر ولم يصل إلى الحقيقة
بإرادته واختياره، فهذا لا إشكال في استحقاقه للعذاب.
لكن لا يتعقّل استحقاق العذاب للقاصر غير القادر على الوصول إلى الحقّ، والذي لم
تتوفَّر لديه بيئة الوصول إليه.
وتحديد كلامنا باستحقاق العذاب لا بفعليَّته، منطلق من إيماننا بأنّ الله تعالى يجب
منه أنْ يحقّق وعده، فإذا وعد بالثواب يصبح الثواب واجباً منه تعالى، بينما لو
توعَّد بالعقاب، فإنّ توعَّده لا يستلزم وقوع العقاب جزماً، لأنّه تعالى قد يرحم،
فتتقدّم رحمته على غضبه.
وحتى يُفهم هذا المطلب بالدقّة نلفت إلى ما ذكره العلاَّمة الطباطبائي في تفسير
الميزان، إذ قال: "ومن الجائز أن يصرف الشخص نظره عن إعمال حق نفسه، لكن لا يجوز
إبطال حق الغير، فإنجاز الوعد واجب دون إنجاز الوعيد، وهذا إنما يتم في موارد
الوعيد الخاصة ومصاديقه في الجملة. وأما عدم إنجاز أصل العقاب على الذنب وإبطال
أساس المجازاة على التخلّف فليس كذلك، إذ في إبطاله إبطال التشريع من أصله، وإخلال
النظام العام".8.
والنتيجة: أنّ المقصِّر يستحق العذاب، لكنه قد يُرحم، وأنّ القاصر لا يستحق العذاب
في دائرة قصوره.
الجزاء الإلهي في منطق النص
إنّ ما ذكرناه من منطق العقل نقرأه في نصّ الكتاب العزيز والنصوص الواردة عن أهل
بيت العصمة عليهم السلام. فالقرآن الكريم تحدَّث عن عفو الله تعالى عن القاصرين
الذين عبَّر عنهم بالمستضعفين فقال تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ
الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا
مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً
فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا *
إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ
يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ
أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورً
﴾9
ومن لطيف ما ورد في هذا الإطار حديثُ الإمام الصادق عليه السلام عن أصناف الناس
بالقياس إلى الجزاء الإلهيّ، ففي الكافي عن حمزة بن الطيّار عن الإمام الصادق عليه
السلام: "الناس على ستّ فرق، يؤولون كلّهم إلى ثلاث فرق: الإيمان والكفر والضلال،
وهم أهل الوعدين الذين وعدهم الله الجنَّة والنار: المؤمنون، والكافرون،
والمستضعفون، والمرجون لأمر الله، إمّا يعذبهم وإمّا يتوب عليهم، والمعترفون
بذنوبهم، خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وأهل الأعراف"10.
وقد تناولت بعض الروايات موضوع الرحمة الإلهية لبعض المستحقين للعذاب بسبب تحلِّيهم
ببعض القيم الإنسانية التي هي نوع من التجلِّي للصفات الإلهية كما نلاحظ في
الروايتين التاليتين:
1- ففي الكافي عن الإمام الباقر عليه السلام: "إنَّ مؤمناً كان في مملكة جبَّار
فولع به، فهرب منه إلى دار الشرك، فنزل برجل من أهل الشرك، فأظلّه وأرفقه وأضافه،
فلمّا حضره الموت أوحى الله عزَّ وجلَّ إليه: وعزّتي وجلالي، لو كان لك في جنَّتي
مسكن لأسكنتك فيها، ولكنّها محرَّمة على من مات بي مشركاً، ولكن يا نار، هيديه ولا
تؤذيه، ويؤتى برزقه طرفي النهار"11.
2- وروى الشيخ الصدوق عن الإمام الكاظم عليه السلام: "كان في بني إسرائيل رجل مؤمن
وكان له جار كافر، وكان يرفق بالمؤمن، ويوليه المعروف في الدنيا، فلمّا أنْ مات
الكافر بنى الله له بيتاً في النار من طين، فكان يقيه حرّها ويأتيه الرزق من غيرها،
وقيل له: هذا بما كنت تدخل على جارك المؤمن فلان بن فلان من الرفق، وتوليه من
المعروف في الدنيا"12.
الجزاء الإلهي في كلمات العلماء
لقد أكَّد علماء مدرسة أهل البيت عليهم السلام هذه العقيدة وسطّروها في مؤلفاتهم.
فقد قال العلاّمة أبو القاسم القميّ في "قوانين الأصول": "ثبوت العذاب الدائم على
الجاهل مخصَّص بما حقّقوه في محلّه من عدم تكليف الغافل، وعدم تكليف ما لا يُطاق،
ونحو ذلك... وأمّا العذاب الدائم فلا دليل عليه، بل ومطلق العذاب أيضاً"13.
وقال المحقِّق نصير الدين الطوسي
في "تلخيص المحصِّل": "المبالِغ في الاجتهاد،
إمّا أن يصير واصلاً أو يبقى ناظراً، وكلاهما ناجيان"14.
وقال الإمام الخميني
في كتابه "المكاسب المحرَّمة" عن عمل الجاهل المعذور: "لا وزر
له، بل يكون مثاباً لانقياده، بل ربما يكون فعله طاعة.. وأما فعل الحرام الواقعي
فلا قبح له، ولا وزر على الفاعل المعذور في ارتكابه"15.
الولاية والجزاء الإلهي
ومن باب تطبيق ما ذكرنا نتعرَّض لعقيدة الولاية الحقّة. فنحن نعتقد أنّ الله تعالى
جعل الولاية للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الأطهار عليه السلام ركناً
أساسياً في استحقاق قبول أعمال المسلم، والعقل لا يمانع هكذا شرط في الاستحقاق،
فالكامل الحكيم لو قال: إنّي جعلت حقاً عليَّ أن أثيب من يسير في هذه الطريق، ويطعم
فقراءها، فإنَّ من سار فيها، وأطعم فقراءها يستحقُّ منه الثواب، أمّا من سار على
طريق أخرى، وأطعم فقراء تلك الطريق الأخرى، فهو لا يستحق من الحكيم ثوابه، نعم قد
يتفضَّل عليه بالإثابة، لكنّها ليست واجبة بحكم العقل.
وفي هذا الإطار وردت روايات عديدة بأنَّ شرط قبول الأعمال هو ولاية أهل البيت عليهم
السلام. ومن تلك الروايات:
1ـ عن الإمام أبي جعفر عليه السلام: "ذروة الأمر وسنامُهُ ومفتاحه، وباب الأشياء
ورضى الرحمن الطاعةُ للإمام بعد معرفته. إنّ الله عزَّ وجلَّ يقول:
﴿ مَّنْ يُطِعِ
الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ
حَفِيظًا
﴾16 أَمَا لو أنَّ رجلاً قام ليله، وصام نهاره، وتصدَّق بجميع ماله، وحجَّ
جميع دهره، ولم يعرف ولاية وليّ الله فيواليه، وتكون جميع أعماله بدلالته إليه، ما
كان له على الله حقّ في ثوابه، ولا كان من أهل الإيمان"17.
2ـ عن الإمام الصادق عليه السلام: "من لم يأتِ الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة بما
أنتم عليه لم يتقبَّل منه حسنة، ولم يتجاوز له عن سيئة"18.
3ـ عن الإمام الصادق عليه السلام: "والله لو أنَّ إبليس سجد لله عزَّ ذكره بعد
المعصية والتكبُّر عُمْرَ الدنيا ما نفعه ذلك ولا قبله الله ما لم يسجد لآدم كما
أمره الله عزَّ وجلَّ أن يسجد له. وكذلك هذه الأمة العاصية المفتونة بعد نبيّها صلى
الله عليه وآله وسلم وبعد تركهم الإمام الذي نصبه نبيُّهم صلى الله عليه وآله وسلم
لهم، فلن يقبل الله تبارك وتعالى لهم عملاً، ولن يرفع لهم حسنة حتى يأتوا الله من
حيث أمرهم، ويتولَّوا الإمام الذي أُمروا بولايته، ويدخلوا من الباب الذي فتحه الله
عزَّ وجلَّ ورسوله لهم"19.
وقد علَّق الإمام الخميني في كتابه الأربعون حديثاً على هذه الأحاديث قائلاً: "إن
ما مرَّ في ذيل الحديث الشريف من أن ولاية أهل البيت ومعرفتهم شرط في قبول الأعمال
يعتبر من الأمور المسلَّمة، بل تكون من ضروريات مذهب التشيّع" 20.
أهل البيت عليهم السلام وثقافة الفرز
وحتى لا يُفهم هذا الكلام على غير معناه المقصود والمتَّبنى لا بدَّ من التمييز بين
الاستحقاق والتفضّل اللذين مرَّ ذكرهما، فالولاية هي شرط استحقاقي في قبول الأعمال،
ولكن هذا لا يعني أنّ كلّ من لا يقول بالولاية سيدخله الله تعالى إلى جهنم، فقد
يكون هذا الإنسان نتيجة قيم يحملها، وعدم موانع فيه، من المرحومين في جزاء الله
تعالى. فليس من الصحيح أن يقوم الإنسان بفرز الناس إلى داخلين حتماً إلى جهنم
وداخلين حتماً إلى الجنّة. وقد رفض أهل البيت عليهم السلام هذا المنطق المضيِّق
لرحمة الله تعالى، كما يظهر جليَّاً في الرواية التي أوردها صاحب الكافي عن زرارة
قال: "دخلت أنا وحمران (أو بكير) على أبي جعفر عليه السلام قلت له: إنما نمدُّ
المطمار، قال عليه السلام: وما المطمار؟ قلت التّر21 فمن وافقنا من علويٍّ أو غيره
تولّينا، ومن خالفنا من علويٍّ أو غيره برئنا منه، فقال لي: يا زرارة، قول الله
أصدق من قولك، فأين الذين قال الله عزَّ وجلَّ: إلا المستضعفين من الرجال والنساء
والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً؟! أين المُرجُون لأمر الله؟! أين
الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً؟ أين أصحاب الأعراف؟ أين المولَّفة قلوبهم؟22.
إنَّه حديث صارخ برفض مدرسة أهل البيت عليهم السلام فكرة فرز الناس في مصيرهم
الأخرويّ بشكل حتميّ من دون مراعاة خصوصيات في الإنسان قد تستمطر عليها الرحمة
الإلهيّة والتفضّل الربَّاني.
قال تعالى:
﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم
مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ
دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ
مِّمَّا يَجْمَعُونَ
﴾23.
آثار هذا الاعتقاد
إن هذا الاعتقاد حينما يترسَّخ في الثقافة الشعبية، فسيكون له آثار نفسية، ونتائج
تربوية محمودة على صعيدي الفرد والمجتمع.
فهو يوسِّع نظرة الإنسان وأفقه بين رحيميّة الله ورحمانيّته.
وهو يؤصِّل الوحدة بين المسلمين بحيث لا ينطلق المسلم في نظرته إلى الآخر على أساس
أنَّ مصير الآخر الحتميّ هو نار جهنّم.
وهو يوائم بين المسلكين الثقافي والسياسي في العلاقة بالآخر.
وهو ركيزة مهمة للحوار مع الآخر بروح منفتحة.
المتخلِّفون عن الفتح في ضوء مدرسة أهل البيت عليهم السلام
في ضوء ما تقدم أطلّ إطلالة مختصرة على أولئك الناس الذين تخلَّفوا عن الفتح في
نهضة عاشوراء، ولا أعني بهم الذين حاربوا الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته
وأصحابه، فإنَّ النظرة إليهم لا تحتاج إلى بيان، إنّما أعني أولئك الذي لم يحاربوا
ولم يقفوا إلى جانب من حاربه، ولكنهم لم يناصروا إمام زمانهم. وهؤلاء على أنواع
اقتصر بالحديث عن بعضها.
1ـ فمنهم من كانت مشكلته في عدم النصرة هو الجبن والخوف، وهو ما يرجع بالتأكيد إلى
ضعفٍ في العقيدة، ومن جملة هؤلاء عبيد الله بن الحرّ الجعفي الذي كان يعرف الإمام
الحسين عليه السلام جيّداً، ويدرك قيمة الولاء له، وهو الذي قال للإمام عليه السلام
بعد أن طلب عليه السلام منه النصرة: "والله إنّي لأعلم أنَّ من شايعك كان السعيد في
الآخرة، ولكن ما عسى أن أغني عنك، ولم أخلِّف لك بالكوفة ناصراً، فأنشدك بالله أن
تحملني على هذه الخطّة، فإنّ نفسي لم تسمح لي بالموت"24.
إن هذا الرجل لم تنقصه معرفة بصاحب الحق، لكنّه كان جباناً إلاّ أنّه كان شفَّافاً
في الإعلان عن جبنه، بخلاف البعض الذي أخذ يتذرَّع بأمور أخرى لعدم النصرة.
2ـ ومن هؤلاء من لم يتحدَّث عن عدم قناعة بالموقف، بل سوّغ خذلانه للإمام ببعض
العناوين الدينية، كعمرو المشرقي وابن عمّه اللذين قال لهما الإمام الحسين عليه
السلام حينما لاقاهما على طريقه إلى كربلاء: "أجئتما لنصرتي"؟ فأجاب عمرو: "إنّي
رجل كبير السن، كثير الدَّين، كثير العيال، وفي يدي بضايع للناس، ولا أدري ما يكون،
وأكره أن أضيِّع أمانتي"25
لقد امتطى هذا الرجل عنواناً دينياً هو حفظ الأمانة، ليسوِّغ خذلانه للدين!
3- لكن من أولئك الذين حرموا من الفتح شخصيات إسلامية مرموقة منهم من لم يصلنا تسويغٌ
لعدم نصرته للإمام الحسين عليه السلام مع مناقبيّته المشهودة له تاريخياً.
هل نجزم بمصيرهم الأسود الجهنميّ على أساس ثقافة الفرز؟
أجاب الإمام السيد علي الخامنئي دام ظله عن هذا السؤال بقوله: "كان هناك أشخاص
مؤمنون ملتزمون بين الذين لم ينهضوا مع الإمام الحسين عليه السلام... فليس من
الصحيح أن يعدّوا جميعاً من أهل الدنيا، لقد كان بينهم رؤساء ورموز المسلمين في ذلك
الوقت، أشخاص مؤمنون، وأشخاص يذعنون بالعمل وفقاً للتكليف الشرعيّ، لكنّهم لم
يدركوا التكليف الرئيسيّ، ولم يشخِّصوا أوضاع ذلك الزمان، ولم يعرفوا العدوّ
الرئيسيّ، وكانوا يخلطون بين الوظيفة الرئيسيّة والوظائف التي هي من الدرجة الثانية
والثالثة". هؤلاء قطعاً هم مخطئون لا مجال للدفاع عن عملهم، لقد كان عليهم أن يتبعوا الإمام
المعصوم في تشخيص التكليف، لكن هذا أمر، والحديث عن خلفيَّاتهم ومصيرهم أمر آخر.
حسبنا في ذلك أَدَبُ الإمام الحسين عليه السلام حينما قال عنهم "ومن تخلَّف لم يبلغ
الفتح"26.
* وأتممناها بعشر، سماحة الشيخ أكرم بركات.
1 الطوسي، محمد بن الحسن، مصباح المتهجد، ط1، بيروت، مؤسسة فقه الشيعة، ص721.
2 الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج4، ص572،
3 الطوسي، محمد بن الحسن، مصباح المتهجد، ص671.
4 بن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف، ط1، قم، أنوار الهدى،(لا،ت)،
ص123.
5 المصدر السابق ص 7.
6 المصدر السابق، ص123.
7 بن أعثم، أحمد، كتاب الفتوح، تحقيق علي شيري، ط1، بيروت، دار الأضواء،1411هـ ج5،
ص74.
8 الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج8، ص 119.
9 سورة النساء:، الآيات97-99.
10 الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج2، ص382.
11 المصدر السابق، ج2، ص 189.
12 الصدوق، محمد بن علي، ثواب الأعمال، تحقيق محمد الخرسان، ط2، قم، منشورات الشريف
الرضي، 1368ش، ص 169.
13 القمي، محمد تقي، القوانين، (لا،ط)، (لا،م)، (لا،ن)، (لا،ت)، ج2، ص 104.
14 الطوسي، نصير الدين، تلخيص المحصّل، ص 400.
15 الخميني، روح الله، المكاسب المحرّمة، ط3، قم، اسماعيليان، 1410هـ، ص 100.
16 سورة النساء، الآية 80.
17 الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج2، ص 19.
18 المصدر السابق، ج8، ص 34.
19 المصدر السابق، ج8، ص271.
20 الإمام الخميني روح الله، الأربعون حديثاً، ص512.
21 التر هو خيط البناء.
22 الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج2، ص 383.
23 سورة الزخرف، الآية: 32.
24 الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج2، ص382، 383.
25 الصدوق، محمد بن علي، ثواب الأعمال، ص 259.
26 المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج42، ص81.