يتم التحميل...

علاج الرياء

تهذيب النفس

لما كانت الاسباب الباعثة على الرياء هي حب لذة المدح والفرار من الم الذم والطمع بما في ايدي الناس، فالطريق في علاجه ان يقطع هذه الاسباب وقد تقدم طريق العلاج في قطع الاولين،

عدد الزوار: 37

لما كانت الاسباب الباعثة على الرياء هي حب لذة المدح والفرار من الم الذم والطمع بما في ايدي الناس، فالطريق في علاجه ان يقطع هذه الاسباب وقد تقدم طريق العلاج في قطع الاولين، وياتي طريق ازالة الثالث. وما نذكره هنا من العلاج العلمى للرياء، هو ان يعلم ان الشي‏ء انما يرغب فيه لكونه نافعا، واذا علم انه ضار ليعرض عنه البتة، وحينئذ فينبغي لكل مؤمن ان يتذكر مضرة الرياء وما يفوته من صلاح قلبه وما يحرم عنه في الحال من التوفيق وفي الآخرة من المنزلة عند الله وما يعترض له من المقت والعذاب ومتى تذكر ذلك وقابل ما يحصل له في الدنيا من الناس الذين راءى لاجلهم بما يفوته في الآخرة من ثواب الاعمال، لترك الرياء لا محالة، مع ان العمل الواحد ربما تترجح به كفة حسناته لو خلص فاذا فسد بالرياء حول الى كفة السيئات، فتترجح به ويهوى الى النار.

هذا مع ان المرائى في الدنيا متشتت الهم متفرق الباب بسبب ملاحظة قلوب الناس، فان رضاهم غاية لا تدرك، وكلما يرضى به فريق يسخط به فريق ومن طلب رضاهم في سخط الله سخط الله عليه واسخطهم ايضا. ثم اى غرض له في مدحهم وايثار ذم الله لاجل مدحهم ولا يزيده مدحهم رزقا ولا اجلالا ولا ينفعه يوم فقره وفاقته وهو يوم القيامة؟! ومن كان رياؤه لاجل الطمع بما في ايدى الناس، ينبغى ان يعلم ان الله هو المسخر للقلوب بالمنع والاعطاء، وان الخلق مضطرون فيه، ولا رازق الا الله، ومن طمع في الخلق لم يخل عن الذل والخسة، وان وصل الى المراد لم يخل عن المنة والمهانة، واذا قرر ذلك في نفسه ولم يكن منكرا لامسه، زالت غفلته وفترت عن الرياء رغبته واقبل على الله بقلبه، وانقطع بشراشره الى جناب ربه. ويكفيه ان يعلم ان الناس لو علموا ما في باطنه من قصد الرياء واظهار الاخلاص لمقتوه، وسيكشف الله عن سره حتى يبغضه اليهم ولو اخلص لله لكشف الله لهم اخلاصه وحببه اليهم وسخرهم له، واطلق السنتهم بمدحه وثنائه، مع انه لا يحصل له كمال بمدحهم ولا نقصان بذمهم ثم من تنور قلبه بنور الايمان وانشرح صدره باليقين والعرفان، وعرف معنى الواجب وحقيقة الممكن، وتيقن بان الواجب-اى الحقيقة التي تقتضي بنفس ذاته التحقق والبقاء، وهو صرف الوجود-يجب ان يكون تاما فوق التمام، ولا يتصور حقيقة اتم كمالا منه، والحقيقة التي هذا شانها يجب ان يكون ما سواها باسره مستندا اليها وصادرا عنها على اشرف انحاء الصدور واقواها. وهذا النحو الاشرف الاقوى الذى لا يتصور نحوه اقوى منه في الاختراع وادل منه على كمال عظمة الموجد وقدرته، وهو كون ماسواه سبحانه من الموجودات، اما اعتبارات وشؤنات لدرجات ذاته واشراقات لتجليات صفاته، كما ذهب اليه قوم، وكونها ماهيات امكانية اختراعية علما وعينا، صادرة عن سبحانه بوجودات خاصة متعددة ارتباطية بمحض ارادته ومشيته، كما ذهب اليه آخرون ولو لم يكن غيره من الموجودات مستندا اليه على اقوى انحاء الاستناد، لم يكن تاما فوق التمام، اذ تكون الذات التي يستند الكل اليها باحد النحوين اكمل منه واشرف. واذا عرف انه سبحانه كذلك، يعرف انه ليس في الوجود حقيقة احد سواه وغيره حقيقته العدم وما له من الوجود والظهور منه سبحانه، وبعد هذه المعرفة لا يختار غيره تعالى عليه، ويعلم ان العباد كلهم عجزة لا يملكون لانفسهم نفعا ولا ضررا، ولا يملكون موتا ولا حياة، فلا يتغير قلبه بمشاهدة الخلق، ولا يلتفت اليهم الا بخطرات ضعيفة لا يشق عليه ازالتها، فيعمل عمل من لو كان على وجه الارض وحده لكان يعمله واما العلاج العملي، فهو ان يعود نفسه على اخفاء العبادات واغلاق الابواب دونها، كما تغلق الابواب دون الفواحش، حتى يقنع قلبه بعلم الله واطلاعه على عبادته، ولا تنازعه النفس الى طلب علم غير الله به. وذلك وان شق في بداية المجاهدة، لكن اذا صبر عليه مدة بالتكلف سقط عنه ثقله وهان عليه بتواصل الطاف الله وما يمده به عبادة من حسن التوفيق والتاييد: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ. فمن العبد المجاهدة ومن الله الهداية: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ‏.

تتميم

القالع مغارس الرياء من قلبه بقطع الطمع واستحقار مدح الناس وذمهم ربما لا يتركه الشيطان، (لا) سيما في اثناء العبادة، فعارضه بخطرات الرياء ونزغاته، حتى احدث في قلبه ميلا خفيا الى الرياء وحبا له. والحق ان ذلك ليس من الرياء المحرم، ولا تفسد به العبادة، مع كونه كارها لهذا الميل والحب وقاهرا على نفسه ماقتا لها في تاثرها وتغيرها عن نزغات الشيطان ومنازعا للشيطان ومجاهدا اياه لدفع خطراته، لان الله لم يكلف عباده الا ما يطيقون، وليس في وسعهم منع الشيطان عن نزغاته ولا قمع الطبع حتى لا يميل الى شهواته، وغاية ما يقدرون عليه ان يقابلوا نزعاته وميل الطبع بالكراهة والقهر على النفس في هذا الميل، مع المجاهدة في دفع ذلك بتذكر المعالجات المقررة لدفع الرياء والوساوس، واذا فعلوا ذلك ادوا ما يجب عليهم. ويدل على ذلك ايضا ما تقدم من الاخبار الدالة على عدم المؤاخذة بمجرد الوسوسة، وقول النبي-صلى الله عليه وآله-: "الحمد لله الذي رد كيد الشيطان الى الوسوسة‏" . فوسوسة الشيطان وميل النفس لا يضران مع ردهما بالكراهة والاباء، اذ الوساوس والخواطر والتذكرات والتخيلات المهيجة للرياء من الشيطان، والميل والرغبة بعد تلك الخواطر من النفس، والإباء والكراهة من الإيمان ومن آثار العقل فلا يضر ما من النفس والشيطان اذا قوبل بما من العقل والايمان، ولذا قال بعض الاكابر "ما كان من نفسك فكرهته نفسك لنفسك، فلا يضرك ما هو من عدوك وما كان من نفسك فرضيته نفسك لنفسك فعاتبها عليه‏" .

ثم الطرق المتصورة في دفع خطرات الرياء في اثناء العبادة مع كراهتها أربع:

الاولى: ان يشتغل بمجادلة الشيطان في رد نزغاته، ويطيل معه الجدال.

الثانية: ان يقتصر على تكذيب الشيطان ودفعه من غير اشتغال بمجادلته.

الثالثة: الا يشتغل بتكذيبه ايضا، بل يكتفى بما قرر في عقد ضميره من كراهة الرياء وكذب الشيطان، فيستمر على ما كان عليه مستصحبا له غير مشتغل بالمخاصمة والتكذيب.

الرابعة: ان يزيد فيما هو فيه من الاخلاص والاشتغال بالله، وما يؤدى اليهما، كاخفاء العبادة والصدقة غيظا للشيطان، لان ذلك يغيظ الشيطان ويوجب ياسه، ومهما عرف من العبد هذه العادة، كف عنه خوفا من ان يزيد في حسناته. ولا ريب في ان الاشتغال بالمجادلة والتكذيب واطالتهما يمنع الحضور ويصد عن التوجه الى الله، وهو نقصان لاهل السلوك، فالصواب لكل مؤمن ان يقرر دائما في عقد ضميره كراهية الرياء وتكذيب الشيطان ويعزم ابدا على انه اذا تهجم عليه الشيطان وعارضه بنزغات الرياء زاد ما هو فيه مما يغيظ الشيطان ويوجب ياسه، فاذا حدثت‏خطرات الشيطان في الاثناء اكتفى بما عقد عليه اولا مستصحبا له، وزاد في الاخلاص وما يؤدى اليه فان ذلك يوجب قنوط الشيطان. واذا عرف العبد بهذه الصفة لا يتعرض له لئلا يزيد فيما يغيظه. وينبغي لكل مؤمن ان يكون هذا ديدنه في جميع الصفات والملكات، مثلا اذا حصل اليقين والعقيدة الجازمة بالمبدا وصفاته الكمالية، وقرر ذلك في نفسه، واثبت في قلبه كراهية الشك وخطور الوساوس، فاذا حدث بعض الوساوس في اثناء عبادة وغيرها، ينبغي الا يشتغل بطول المجاهدة مع الشيطان، ويكفى بما تقرر في قلبه من اليقين وكراهية الشك والوسوسة، معتقدا بان هذه الوساوس لا اصل لها ولا عبرة بها. وكذا اذا قرر في نفسه النصيحة للمسلمين وكراهية الحسد، فاذا اوقع الشيطان نزغات الحسد في قلبه، ينبغي الا يلتفت اليها، ويستصعب ما كان عليه من النصيحة والكراهة، وقس عليها سائر الصفات والاخلاق.

ثم مثل من يشتغل بطول المجاهدة مع الشيطان مثل من قصد مجلسا من مجالس العلم والوعظ لينال فائدة وهداية فعارضه ضال فاسق ودعاه الى مجلس فسق فابى وانكر عليه، فاذا عرف الضال اباه، اشتغل بالمجادلة معه، وهو ايضا يساعده على ذلك ليرد ضلاله، ظانا ان ذلك مصلحته مع انه غرض الضال اذ قصده من المجادلة ان يؤخره عن نيل مقصوده.

ومثل من يشتغل بالتكذيب مثل من لا يشتغل بالقتال مع الضال بعد دعوته الى مجلس الضلال، بل وقف بقدر ان يدفع في منحره، وذهب مستعجلا ففرح الضال بقدر توقفه للدفع. ومثل من يكتفى بعقد الضمير مثل من لم يلتفت الى الضال بعد دعوته اصلا، واستمر على ما كان عليه من المشي ومثل من يزيد فيما كان له من الاخلاص وما يؤدى اليه مثل من يزيد في عجلته بعد دعوته ليغيظه. ولا ريب في ان الضال يمكن ان يعاود الجميع في الدعوة الى الضلالة اذا مروا عليه مرة اخرى الا الاخير، مخافة ان يزداد فائدة باستعجاله .


* جامع السعادات / العلامة النراقي_ فصل الرياء.

2016-04-04