يتم التحميل...

البصيرة

تهذيب النفس

أشار الإمام عليه السلام في هذه الكلمات إلى مسألة البصيرة في العبادة، والتعبير المباشر عن هذا الأمر بقوله: "وَأَحْكِمْ فِي عِبَادَتِكَ بَصِيـرَتِي" فما هو المراد من البصيرة؟ وما هو أثرها في العبادة؟

عدد الزوار: 26

 وكان من دعائه عليه السلام: اللَّهُمَّ وَثَبِّتْ فِي طَاعَتِكَ نِيَّتِيْ، وَأَحْكِمْ فِي عِبَادَتِكَ بَصِيـرَتِي، وَوَفِّقْنِي مِنَ الأَعْمَالِ لِمَا تَغْسِلُ بِهِ دَنَسَ الخَطَايَا عَنِّي، وَتَوَفَّنِي عَلَى مِلَّتِكَ وَمِلَّةِ نَبِيِّكَ مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّـلامُ إذَا تَوَفَّيْتَنِي.

تمهيد:
أشار الإمام عليه السلام في هذه الكلمات إلى مسألة البصيرة في العبادة، والتعبير المباشر عن هذا الأمر بقوله: "وَأَحْكِمْ فِي عِبَادَتِكَ بَصِيـرَتِي" فما هو المراد من البصيرة؟ وما هو أثرها في العبادة؟

ما هي البصيرة؟
حدّثنا أمير المؤمنين عليه السلام عن البصير من الناس فقال: "فإنّما البصير من سمع فتفكّر، ونظر فأبصر، وانتفع بالعبر، ثمّ سلك جدداً واضحاً يتجنّب فيه الصرعة في المهاوي"1.
فالبصيرة هي نوع من الرؤية الواضحة للأمور الحسنة من القبيحة، ونظرة عميقة فيما وراء الأعمال بعد التفكّر في عواقبها ونتائجه، ويسمّى صاحبها بالبصير أو ذي البصيرة.

كيف تُحصّل البصيرة؟
ذكرت الروايات العديد من الأسباب الّتي ينتج منها قوّة البصيرة عند الإنسان، ومن أهمّ هذه الأسباب:

التفقّه في الدين
أي دراسة أحكام الله تعالى الشرعيّة ومعرفة العقائد الحقّة والاستدلال عليها بالأدلّة الّتي تورث اليقين، ونحو هذا من الأمور الّتي تقرّب المرء من الله تعالى وتعرّفه بحقّ نبيّه وأهل بيته عليهم السلام، فقد جاء في الرواية عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام: "تفقّهوا في دين الله، فإنّ الفقه مفتاح البصيرة، وتمام العبادة، والسبب إلى المنازل الرفيعة، والرتب الجليلة في الدين والدنيا، وفضل الفقيه على العابد كفضل الشمس على الكواكب، ومن لم يتفقّه في دينه لم يرضَ الله له عملاً"2.

فالتعلّم الّذي يوصل لرضى الله تعالى ليس بالأمر الّذي يستهان فيه، ويكفي في فضله قول الله تعالى: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ3.

وفي الرواية عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "ركعتان يصلّيهما العالم أفضل من ألف ركعة يصلّيها العابد"4.
والمراد بالعلم هنا العلم الموصل للآخرة الدّال على الله تعالى ومرضاته لا أيّ علم، ففي الرواية عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم:"من أوتي من العلم ما لا يبكيه، لحقيق أن يكون قد أوتي علماً لا ينفعه، لأنّ الله نعت العلماء فقال عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً* وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعً"5 6.

فهذا العلم هو المورث للبصيرة الّتي لا بدّّ من وجودها في العبادة.

البصيرة والعبادة
ما علاقة البصيرة بالعبادة؟
سؤال وجيه، فلم يَطلب الإمام البصيرة في العبادة؟ والجواب عن ذلك أنّ العبادة مع البصيرة تختلف بشكل كبير عن عبادة بلا بصيرة، فالعبادة مع التفكّر والتدبّر بمضامينها لا شكّ بأنّها أعظم أجراً وأكمل من سائر العبادات، فالصلاة بكلّ أشكالها بعد تحصيل شروطها صلاة مسقطة للواجب، ولكن هل كلّ صلاة مقبولة عند الله تعالى؟ لماذا مدح الله تعالى الخاشعين في صلاتهم بقوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ7 ؟ وفي الرواية عن رسول الله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم:"إنّ الرجلين من أمّتي يقومان في الصلاة، وركوعهما وسجودهما واحد، وإنّ ما بين صلاتيهما مثل ما بين السماء والأرض"8.

البصيرة تقود لخاتمة الخير
تأمّل يا أخي في ما حولك من أشخاص تبوّؤا مناصب كبيرة في الأمّة، وكانوا في أيّامهم الأولى من المخلصين الذين لا تشكّ ذرةً في إيمانهم، ولكن أين أصبحوا الآن؟ في خدمة الطاغوت، فكيف نفسرّ ذلك؟ هل يعقل لمن ملأ جزءاً من عمره بالتضحية والجهاد أن تنتهي حياته بعبادة الطاغوت والتزلّف إليه؟

نستكشف من هذه النماذج أنّ هؤلاء لم يكونوا من أهل البصيرة، ولو كانوا لما وصل بهم الأمر إلى هذه الحال، فختم لهم بهذه الخاتمة السيّئة.

لذلك كانت هذه الفقرة الأخيرة في دعاء الإمام عليه السلام: "وَتَوَفَّنِي عَلَى مِلَّتِكَ وَمِلَّةِ نَبِيِّكَ مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّـلامُ إذَا تَوَفَّيْتَنِي".
عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "وإنّما الأعمال بخواتيمها"9 ، فما أتعس الإنسان أن يصل في نهاية عمره إلى الحقيقة المرعبة المروّعة، والّتي لا تنفع بعدها الندامة وهي أنّه من الّذين قال الله تعالى فيهم: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعً10.

أنا وأنت لا نعلم كيف ستكون عاقبتن، ولكن علينا الحذر الشديد من ذلك، والعمل في الدنيا بما يوافق الإخلاص، مبتعدين عن أهواء النفس وميولها الّتي هي أوّل الأسباب المؤديّة لسوء العاقبة، ولتكن القاعدة لدينا والمحرّك لنا للعمل قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يزال المؤمن خائفاً من سوء العاقبة، لا يتيقّن الوصول إلى رضوان الله حتّى يكون وقت نزع روحه وظهور ملك الموت له"11.

فعلينا فيما تبقّى لنا من أيّام حياتنا الّتي لا نعلم تحديداً كم بقي لنا منه، أن نكون في حالة توبة دائمة، لتحسن عاقبتن، ولنتذكّر ما روي عن إمامنا الصادق عليه السلام، عن آبائه صلوات الله عليهم قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أحسن فيما بقي من عمره لم يؤاخذ بما مضى من ذنبه، ومن أساء فيما بقي من عمره أُخذ بالأوّل والآخر" 12

* حسن الماب ، سلسلة الدروس الثقافية ، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


1- الريشهري، محمّد، ميزان الحكمة، دار الحديث، الطبعة الأولى، ج 1 ص 266.
2- المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، مؤسّسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة، ج 10 ص 247.
3- سورة الزمر، الآية: 9.
4-العلّامة المجلسي، بحار الانوار، ج74ج ص57.
5- سورة الإسراء، الآيات: 107، 109.
6- الريشهري، محمّد، ميزان الحكمة، دار الحديث، الطبعة الأولى، الحديث 13962.
7- سورة المؤمنون، الآية: 1، 2.
8-الريشهري، محمّد، ميزان الحكمة، دار الحديث، الطبعة الأولى، ج 2 ص 1632.
9- المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، مؤسّسة الوفاء، الطبعة الثانية المصحّحة، ج 9 ص 330.
10- سورة الكهف: الآيتان 103، 104.
11- النمازي، عليّ، مستدرك سفينة البحار، مؤسّسة النشر الإسلامي، ج 7 ص 296.
12- م.ن. ج 7 ص 295.

2016-03-21