هل العصمة موهبة إلهية أو أمر اكتسابي؟
بحوث في العصمة
قد وقفت على حقيقة «العصمة» والعوامل التي توجب صيانة الإنسان عن الوقوع في حبال المعصية، ومهالك التمرّد والطغيان، غير انّ هاهنا سؤالاً هاماً يجب الإجابة عنه وهو:
عدد الزوار: 284
قد وقفت على حقيقة «العصمة» والعوامل التي توجب صيانة الإنسان عن الوقوع في حبال
المعصية، ومهالك التمرّد والطغيان، غير انّ هاهنا سؤالاً هاماً يجب الإجابة عنه وهو:
أنّ العصمة سواء أفسّرت بكونها هي الدرجة العليا من التقوى، أو بكونها العلم القطعي
بعواقب المآثم والمعاصي، أم فسّرت بالاستشعار بعظمة الرب وجماله وجلاله، وعلى أيّ
تقدير فهو كمال نفساني له أثره الخاص، وعندئذ يُسأل عن أنّ هذا الكمال هل هو موهوب
من اللّه لعباده المخلصين، أو أمر حاصل للشخص بالاكتساب؟ فالظاهر من كلمات
المتكلّمين انّها موهبة من مواهب اللّه سبحانه يتفضل بها على من يشاء من عباده بعد
وجود أرضيات صالحة وقابليات مصحّحة لإفاضتها عليهم.
قال الشيخ المفيد: «العصمة تفضل من اللّه على من علم أنّه يتمسك بعصمته».
وقال المرتضى: العصمة لطف اللّه الذي يفعله تعالى فيختار العبد عنده الإمتناعَ عن
فعل قبيح.
فإذا كانت العصمة أمراً إلهياً و موهبة من مواهبه سبحانه، فعندئذ هاهنا سؤال: لو
كانت العصمة موهبة من اللّه مفاضة منه سبحانه إلى رسله وأوصيائهم لم تعد عندئذ
كمالاً ومفتخرة للمعصوم حتّى يستحق بها التحميد، فإنّ الكمال الخارج عن الاختيار
كصفاء اللؤلؤ لا يستحق التحميد، فإنّ الحمد إنّما يصحّ مقابل الفعل الاختياري .
وإليك الاجابة:
إفاضة العصمة بعد توفر أرضية صالحة
إنّ العصمة الإلهية لا تفاض للافراد إلاّ بعد وجود قابليّات صالحة في نفس المعصوم
تقتضي افاضة تلك الموهبة إلى صاحبها، تلك القابليات على قسمين: قسم خارج عن اختيار
المعصوم، وقسم واقع في إرادته واختياره، امّا القسم الأوّل فيتلخص في عامل الوراثة
والتربية أمّا الوراثة فهي القابليات التي ينتقل إلى المعصوم من آبائه وأجداده عن
طريق الوراثة فإنّ الأولاد كما يرثون أموال الآباء وثرواتهم، هكذا يرثون أوصافهم
الظاهرية والباطنية، فترى أنّ الولد يُشبه الأب أو العمّ، أو الأُمّ أو الخال، وقد
جاء في المثل: الوالد الحلال يُشبه العمَّ أو الخالَ.
وعلى ذلك فالروحيات الصالحة أو السيئة تنتقل عن طريق الوراثة إلى الأولاد فنرى ولد
الشجاع شجاعاً، وولد الجبان جباناً إلى غير ذلك من الأوصاف الجسمانية والروحانية.
إنّ الأنبياء كما يحدِّثنا التاريخ كانوا ربيبو البيوتات الصالحة العريقة بالفضائل
والكمالات ، ومازالت تنتقل تلك الكمالات والفضائل الروحية من جيل إلى جيل وتتكامل
إلى أن تتجسد في نفس النبي ويتولد هو بروح طيبة وقابلية كبيرة لإفاضة المواهب
الإلهية علية.
وأمّا عامل التربية فإنّ الكمالات والفضائل الموجودة في بيتهم تنتقل عن طريق
التربية إليهم، ففي ظلّ ذينك العاملين (الوراثة والتربية) نرى كثيراً من أهل تلك
البيوتات ذوي ايمان وأمانة، وذكاء ودراية، فهذه الكمالات الروحية توجد أرضية صالحة
لإفاضة العصمة إلى أصحابها نعم هناك عامل ثالث لهذه الإفاضة، وهو داخل في إطار
الاختيار وحرّية الإنسان بخلاف العاملين السابقين وهو إنّ حياة الأنبياء من لدن
ولادتهم إلى زمان بعثتهم، مشحونة بالمجاهدات الفردية، والاجتماعية، فقد كانوا
يجاهدون النفس الأمارة أشدّ الجهاد، ويمارسون تهذيب أنفهسم بل ومجتمعهم، فهذا هو
يوسف الصدّيق(عليه السلام) جاهد نفسه الأمارة وألجمها بأشد الوجوه عندما راودته من
هو في بيتها ( وَغَلَّقَتِ الأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَك ) فأجاب بالرد والنفي
بقوله: ( مَعاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ
الظّالِمُونَ ) .
وهذا موسى كليم اللّه وجد في مدين امرأتين تذودان واقفتين على بعد من البئر، فقدم
اليهما قائلاً: ما خطبكما فقالتا: انا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير،
وعند ذلك لم يتفكر في شيء إلاّ في رفع حاجتهما، ولأجل ذلك سقى لهما ثم تولّى إلى
الظل قائلاً: ( رَبِّ إِنّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْر فَقِيرٌ ).
وكم هناك من شواهد تاريخية على جهاد الأنبياء وقيامهم بواجبهم أبّان شبابهم إلى
زمان بعثتهم التي تصدت لـذكرها الكتـب السماويـة وقصص الأنبيـاء وتـواريـخ البشر.
فهذه العوامل، الداخل بعضها في إطار الاختيار والخارج بعضها عن إطاره، أوجدت
قابليات وأرضيات صالحة لإفاضة وصف العصمة عليهم وانتخابهم لذلك الفيض العظيم،
فعندئذ تكون العصمة مفخرة للنبي صالحة للتحسين والتبجيل والتكريم.
وإن شئت قلت: إنّ اللّه سبحانه وقف على ضمائرهم ونيّاتهم ومستقبل أمرهم، ومصير
حالهم وعلم أنّهم ذوات مقدسة، لو أُفيضت إليهم تلك الموهبة، لاستعانوا بها في طريق
الطاعة وترك المعصية بحرية واختيار، وهذا العلم كاف لتصحيح إفاضة تلك الموهبة عليهم
بخلاف من يُعلَم من حاله خلافُ ذلك...
إنّ للسيد الشريف المرتضى كلاماً يؤيد ما ذكرناه،.
وحاصل ما أفاده هو: انّ الملاك في إفاضة هذا الفيض هو علمه سبحانه بحال الأفراد في
المستقبل فكل من علم سبحانه أنّه لو أُفيض عليه وصف العصمة لاختار عنده الامتناع من
القبائح، فعندئذ تفاض عليه العصمة، وان لم يكن نبياً ولا إماماً، وأمّا من علم انّه
متى أُفيضت إليه تلك الموهبة لما اختار عندها الامتناع من القبيح لما أُفيضت عليه
العصمة لأنّه لا يستحق الإفاضة.
وعلى ذلك فوصف العصمة موهبة إلهية تفاض لمن يعلم من حاله انّه ينتفع منها في ترك
القبائح عن حرية واختيار ولأجل ذلك يعد مفخرة قابلة للتحسين والتكريم ولا يلزم أن
يكون المعصوم نبياً أو إماماً، بل كل من ينتفع منها في طريق كسب رضاه سبحانه تفاض
عليه.
* ملخص كتاب العصمة / اية الله جعفر السبحاني.
2016-03-14