لا مسؤولية بلا حرية وبلاغ
فلسفات أخلاقية
كل الحياة تجارب وعظات، ومصائب ومسؤليات لها أول وليس لها آخر إلا بالرد غداً إلى عالم الغيب والشهادة وحكمه الذي لا معقب له،
عدد الزوار: 235
كل الحياة تجارب وعظات، ومصائب ومسؤليات لها أول وليس لها آخر إلا بالرد غداً إلى
عالم الغيب والشهادة وحكمه الذي لا معقب له، ولا يظلم فيه أحداً لأنه تعالى لا يسأل
ويحاسب إلا بعد قيام الحجة بالبلاغ المبين منه سبحانه والقدرة التامة من العبد، قال،
تقدست أسماؤه: (لا يكلف الله نفساً إلا ما أتاها) (7 ـ الطلاق).. (وما كنا معذبين
حتى نبعث رسولاً) (15 ـ الإسراء). وقال الإمام الصادق(عليه السلام): (إن الله احتج على العباد
بما آتاهم وعرفهم).
ومن الأمثلة الواضحة على هذه الحقيقة ما رواه صاحب أصول الكافي ج 2 ص 264: ان
الفقراء يأتون الجنة يوم القيامة ويضربون بابها، فيقال لهم: من أنتم؟ فيقولون: نحن
الفقراء، فيقال لهم: أقبل الحساب تبغون الجزاء؟ فيقولون: ما أعطيتمونا شيئاً
تحاسبونا عليه.. فيقول المولى، تقدست أسماؤه: صدقوا، أدخلوا الجنة.
وإن دلت هذه الرواية على شيء فانها تدل على أن مسئولية الإنسان تختلف تبعاً لما
يملك من صحة ونشاط وجاه ومال، ومن علم وذكاء، بل وحساسية وانفعال وعمق في النظر
وحكمة في التدبير، فالغني مسئول عن الحق المعلوم في أمواله للسائل والمحروم،
والعالم مسئول عن بذل العلم والعمل به، وصاحب الجاه مسئول عن السعي في حاجة كل ضعيف
وملهوف، بالإضافة إلى تعاونه مع الآخرين على الصالح العام ومطالب الحياة للجميع بلا
استثناء، بل يجب هذا التعاون على الكبير والصغير والقوي والضعيف: من كل حسب طاقته.
وقال بعض المؤلفين: ((كان في القديم يقال: إن من نعم الله عليكم حاجة الناس اليكم،
أما الآن فينبغي أن نناشد الناس جميعاً ونقول لهم: إن من نعم الله عليكم حاجة
المجتمع اليكم، بل حاجة الكون اليكم)). وقال نبي الرحمة(صلى الله عليه وآله): ((الساعي على الأرملة
والمسكين كالمجاهد في سبيل الله الصائم نهاره القائم ليله.. الخلق عيال الله، فأحب
الخلق اليه أنفعهم لعياله)). وقال الإمام الصادق(عليه السلام): ((معنى قوله واجعلني مباركاً
أينما كنت، اجعلني نفاعاً أينما كنت)). فافضل الأعمال في كل زمان ومكان طاعة الله،
وأفضل طاعاته تعالى ما عاد نفعه على عباده.
ومن الذي لا يحفظ حديث ((كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته، فالرجل في أهله راعٍ،
والمرأة في بيت زوجها راعية)) الخ. وأهم المسئوليات الآن أن يقوم المسلمون جميعاً
بانتفاضة واعية ثائرة ضد القيود التي تربطهم بعجلة الطامعين في أرزاقنا ومقدراتنا،
وضد المواطنين الخونة الذين باعوا للشيطان دينهم وضمائرهم وأمتهم وأوطانهم.
حرية الطغاة في هذا العصر
ولمناسبة الإشارة إلى حرية الإنسان نسجل هنا بأسف وايجاز أن هذا العصر الذي نعيش
فيه هو أسوأ ألف مرة من العصور الأولى التي كان الناس فيها ينقسمون إلى سادة وعبيد،
وأشد قسوة على العدل والحرية من العصور الوسطى التي كان يلقى العلماء فيها اضطهاداً
قاسياً من محاكم التفتيش.. أليست العنصرية معترفاً بها الآن في روديسيا وجنوب
أفريقيا، وديناً يدان به في الولايات المتحدة؟. هذا في النظام الرأسمالي (والعالم
الحر) أما في البلاد الاشتراكية فالقيود تحدد ما ينطق به الإنسان من كلمات وما
يمارس من أعمال وما يحوزه من أشياء.
وهل من الحرية في شيء أن يخير صاحب العمل الضعاف المحتاجين إلى العمل من أجل القوت،
بين القبول بما يفرضه هو من أجر وبين البقاء لا عمل حتى الموت جوعاً؟.. وهكذا الشأن
في كل ضعيف يحتاج إلى التطبيب والمعالجة وأجرة المسكن وقسط المدرسة لتعليم أولاده
وثمن الدواء.. صحيح أن الإنسان لا يمكن أن يكون حراً بلا قيود في جميع مسالك
الحياة، ولكن استغلال الفرد للفرد كما في الرأسمالية، والتضحية بالفرد في سبيل
الجماعة كما في الاشتراكية ـ يمكن تجاوزهما بالتعاون على الجمع بين المصلحتين. لقد
أخضع الإنسان الطبيعة لإرادته واستطاع الوصول إلى القمر، فهو يستطيع أيضاً أن يصنع
ظروفاً إنسانية، ويعمل بالعدالة الاجتماعية.
ثم هل يمكن أن تحيا العدالة وتعيش في ظل الدعايات الكاذبة والإعلانات المضللة التي
تبثها بمهارة صحافة هذا العصر وغيرها من وسائل الإعلام.. حتى الكثير من المدارس
والمعاهد تحولت إلى أفاعي تنفث السموم، وتصب العقول في قوالب جامدة لا عين فيها
للحرية ولا أثر.
وقرأت من جملة ما قرأت في هذا الباب مقالاً علمياً بعنوان العلم والحرية الشخصية في
مجلة عالم الفكر الكويتية العدد الرابع من المجلد الأول، جاء فيه: ((ان الجديد في
عصرنا هذا هو أن السيطرة على العقول تتم بأكمل صورة ممكنة على أيدي كثير من
الأخصائيين والبارعين بحيث تتوهم العقول نفسها بأنها حرة، وتوقن يقيناً تاماً بأنها
تصدر عن ارادتها التامة ورغبتها الواعية)).
ثم ضرب الكاتب العديد من الأمثلة على ذلك من ألمانيا النازية التي ضللت شعبها،
واستنزفت منه ومن البشرية جمعاء أرواحاً وأموالاً لا حصر لها، وأيضاً أورد أمثلة من
حكومة الولايات المتحدة التي زيفت عقول الأميركيين وأودت بأرواح الألوف من شبابهم
وبالمليارات من أموالهم في حرب فيتنام، وأشار الكاتب أيضاً إلى دعايات الصهيونية
التي فاقت الجميع في تخدير العقول لدعم قضية باطلة، وادعاء الحق في بلد أقام فيه
غيرهم ما يزيد على ألفي عام.
وبعد، فان من أخص خصائص الحضارة في هذا العصر، أنها أماتت الحق والعدل والحرية في
كل ميدان من ميادين الحياة، وأحيت الجور والفساد والتضليل والتزييف والرياء والنفاق
والنهب والاستغلال والتقتيل والتدمير والفسق والفجور، وأشاعت الشنآن والبغضاء بين
الأفراد والفئات.. وهنا يكمن السر لنقمة الكثير من الشباب وغير الشباب وتمردهم على
مجتمعاتهم وبيئاتهم، وبالخصوص في أروبا وأمريكا.