يتم التحميل...

جعل الود من الرحمن

مقتطفات أخلاقية

إن قوله سبحانه: "سيجعل لهم الرحمن ودا" تشير إلى حقيقة هامة، وهي أن الود من ( مجعولات ) الرحمن يجعلها حيث يشاء، ولا خلف لجعله كما لا خلف لوعده.

عدد الزوار: 310

إن قوله سبحانه: "سيجعل لهم الرحمن ودا" تشير إلى حقيقة هامة، وهي أن الود من ( مجعولات ) الرحمن يجعلها حيث يشاء، ولا خلف لجعله كما لا خلف لوعده..فمن يتمنى هذه المودة المجعولة من جانب الحق، عليه أن يرتبط بالرحمن برابط الود..فإذا تحقق هذا الودّ بين العبد وربه، نشر الحق وده في قلوب الخلق بل - كما روي - في قلوب الملائكة المقربين..وهذا هو السر في محبوبية أهل ( وداد ) الحق، رغم انتفاء الأسباب المادية الظاهرية لمثل ذلك..وقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: "من أقبل على الله تعالى بقلبه، جعل الله قلوب العباد منقادةً إليه بالودّ والرحمة"- البحار ج77ص177.

زيّ العبودية
كثيرا ما يرى العبد أنه الفعال لما يريد في هذه الحياة، لتمكّنه من علاقة السببية القائمة بين أفعاله والنتائج، فيشرب الدواء ليتسبب منه الشفاء وهكذا في كل موارد التسبيب..ومن الضروري في هذا المجال الالتفات إلى أن طرفي النسبة وهو - الدواء والشفاء - منتسبان إلى الحق مباشرة، وإن تسبّب العبد في إيجاد الربط بينهما..فهو ( الخالق ) للدواء والمبدع ( لسَببّيته ) في الشفاء، كما أنه المؤثر في ( قابلية ) البدن للشفاء بذلك الدواء، وهو الذي بمشيئته يرفع السببية بين الطرفين - لو شاء في مورد - وإن أعمل العبد جهده في إيجاد الربط بينهما..كما أنه بمشيئته أيضا قد يحقق المسبَّب من دون وجود سبب عادي من عبده، كما في موارد الكرامة والإعجاز..وبذلك لزم على العبد الالتفات إلى كل ذلك، لئلا يخرج من زي العبودية للحق المتعال، أثناء تعامله مع عالم الأسباب.

من أشق الرياضات
إن من الرياضات الشاقة وعظيمة الأثر في مسيرة العبد هو الذكر ( الدائم ) للحق..وإلا فإن الرياضات التي يستعملها أهل الرياضات الشاقة - في المذاهب المنحرفة - لها صفة ( التوقيت )، ويتعلق ( بالأبدان ) غالبا، والحال أن استغراق أكثر الوقت بذكر الحق المنعكس على الأبدان والقلوب معا، مما لا يتيسر إلا للنفوس التي بلغت أعلى درجات القدرة على ترويض النفس، وحبْسها على التوجّـه الدائم إلى جهة واحدة، رغم وجود الصوارف القاهرة التي لا يطيقها حتى أهل الرياضات البدنية الشاقة فضلا عن غيرهم..والسبب في ذلك أن انقياد ( النفس ) للإرادة أشق من انقياد ( البدن ) للإرادة نفسها..فإن البدن أطوع قيادا للإرادة قياسا إلى النفس، إذ أن الإرادة أشد إحاطة بالبدن مقارنة بالنفس الجموحة، وخاصة في مجال نفي الخواطر الذهنية، وصرف الدواعي النفسانية.

الصور الجميلة الفانية
إن الأحداث التي تمر على الإنسان - حلوُها ومرّها - ما هو إلا تبدّل مستمر لما هو واقع في ( الخارج ) إلى ما هي ( الصورة ) في الذهن، وعليه فإن المستمتع بأنواع المتع في الحياة، لديه كمّ هائلٌ من الصور الجميلة المختزنة في ذهنه والمنعكسة من الواقع الذي عاشه، ولطالما كلّفته هذه الصور صرف المال وتجاوز الحدود الإلهية..مَثَله في ذلك كمَثَل من يجمع الصور الجميلة للذوات الجميلة، من دون أن يتمثّـل شيءٌ من الواقع بين يديه..كما أن الأمر كذلك في الحوادث المحزنة، إذ تذهب آلام الماضي، لتحل محلها ذكريات لا أثر لها لولا تذكّرها..إن تصوّر هذا الواقع للحياة، ( يهوّن ) على الإنسان كثيرا من المآسي، كما يخفّف من اندفاعه المتهور نحو اقتناء اللذات التي وصفناها بما ذكر، من التبدل المستمر من الواقع الخارجي إلى الصورة الذهنية.

المتهجدون هم أولو النهى
روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: "خياركم أولو ااـنّهى"فقيل يا رسول الله ومن أولو الـنّهى ؟، فقال: "المتهجدون بالليل والناس نيام"البحار-ج78ص158..فالملاحظ أن الـنّهى أمر مرتبط بعالم التعقل واللب، ومن هنا كان هو المُدرك للآيات والعلامات الدالة على الحق، وقد ورد في القرآن الكريم: "إن في ذلك لآيات لأولي الـنّهى"..والتهجد حالة عبادية يتمثل في توجه القلب إلى الحق المبين، فما الارتباط إذن بين النـّهى والتهجد ؟!..ودفعا للاستغراب نقول إن للعبادة دوراً أساسياً في تكميل العقل من جهات: فالعبادة - في نفسها - لا تخلو من ( تـدبر ) وخاصة في الأسحار، أضف إلى أنها ( مـانعة ) لغلبة الشهوات القاضية على ازدهار العقل في الوجود البشري، أضف إلى ( مِنَـح ) الحق الموجبة لتكميل أحب ما خلق وهو العقل في هؤلاء العباد..فكما أنه يكسو أصحاب الليل من أنوار جلاله، جزاء خلوتهم به - ولهذا صاروا كما روي من أحسن الناس وجها - فإنه كذلك يكسو عقولهم من أنوار المعارف الحقة، ما لا يُـعطاها جهابذة الفكر البعيدين عنه.

مصادر المعرفة
إن من مصادر المعرفة:( الوحي ) وهو كشف الحقيقة كشفا مباشرا مجاوزا للحس ومقصورا على من اختارته يد العناية الإلهية..و( العقل ) وهو في اللغة الحَجْر والـنَّهْي، وصار شبيها بعقال الناقة في أنه يمنع صاحبه من العدول عن سواء السبيل، كما يمنع العقال الدابة من الشرود..و( الإلهام ) وهو إلقاء الحق في نفس الإنسان أمراً يبعثه على الفعل أو الترك، بلا اكتسابٍ أو فكرٍ وهو وارد غيبـي..و( الحس ) وهو إعمال أدوات المعرفة الطبيعية في كشف مجاهل عوالم المحسوسات المرئية وغير المرئية..والمصادر الثلاثة الأخيرة للمعرفة، متاحةٌ للجميع بشروطها المتناسبة مع كل واحدة منها.

همزات الشياطين
يستعيذ العبد بربه من همزات الشياطين، والهمز هو النخس، شُـبّه ذلك بهمز الدواب عند المشي، والمهمزة عصا في رأسها حديدة مدببة ينخس بها الحمار ونحوه، فكأن الشيطان جعل نفسه ( كالراعي ) للقطيع الذي يملكه، فله الحق متى شاء أن يهمز من يسوقه إذا تباطأ في السير، وفي ذلك غاية ( الـمذلة ) والهوان لمن خُلق في ( أحسن ) تقويم..فالالتفات إلى هذه الحقيقة المـرّة - وما أكثر تحققها في حياة البشرية - يجعل العاقل يتمرد على سلطان الشيطان الذي يوصله إلى مستوى البهائم، التي تفقد حريتها في انتخاب السبيل الأصلح.

التصرف في ملك الغير
إن مَثَل من ( يُخطِر ) على قلبه الخطورات الفاسدة، كمَثَل من ( يتصّرف ) في لوح مملوك للغير، فينقُش فيه ما لا يرضى صاحبه، ثم يمسحها بعد كل مخالفة لرضا مالكها..فإن عالم ما وراء الأبدان من - القلب و الفكر - مملوك للحق أيضاً، كمملوكية عالم الأبدان..وعليه فإنه لا ينبغي التصرف فيهما بما لم يأذن به المالك، وإن خفيت هذه الحالة من الغاصبية عن أعين المخلوقين، بل وإن لم يعتبرها الغاصب غصباً، لعدم استحضاره لهذه الحالة من الملكية الخفية للحق المتعال..وقد أشار الحق إلى علمه بهذه التصرفات الباطنية بقوله: "يعلم خائنة العين وما تخفي الصدور}، مما يؤكد حالة الغصبية المذكورة.

وضوح السبيل
قد يتحيّر بعضهم في سلوك أقرب سبيلٍ إلى الحق، والحال أن الأمر ( واضح ) في كلياته التي يعرفها الجميع، وإن ( أبهم ) في جزئياته التي تنكشف له أثناء سيره في ذلك الطريق..فالمطلوب من العبد هو العمل بما يعلمه، لـيُفتح له الطريق إلى ما لا يعلمه، إذ"من عمل بما يعلم، رزقه الله علم ما لايعلم"..فالمهم في المقام أن ينفي موانع الوصول، وإلا فإن اليسير من المقتضيات كافٍ لعناية الحق في حقه..وليعلم أن الاستغراق في ( الوجوديات ) مع عدم الالتفات إلى ( العدميات )، من سبل إغواء الشيطان.

الطموح في الدرجات
روي عن الصادق (عليه السلام) انه قال: "يقطع علائق الاهتمام بغير من له قصد، واليه وفد، ومنه استرفد"البحار-ج47ص185..إن هذه الرواية وأشباهها من الروايات التي تبّين الحقول الخاصة من السير إلى الله تعالى، لا تدع مجالا للشك في أن أئمة الهدى (عليه السلام) يطلبون من شيعتهم هذا النمط المتميز من ( الانقطاع ) إلى الحق، خلافا لمن يدعي أن هذه الرتب والطموحات، إنما تمنح لمن يقرب منهم فحسب، مفوّتين على أنفسهم أفضل فرص العمر التي تمضي - على أحسن التقادير - في عبادات خالية من روح التغيير لمسيرة العبد في الحياة..ولهذا ( تفتقد ) حركتهم الروحية أية صورة من صور التكامل، والدليل على ذلك ما نشاهده من ( الرتّابة ) في أداء العبادة، والتي لا تتغير - قلبا ولا قالبا - طوال عمر صاحبه.

تقويم القلب وسياسته
روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: "قال الله تعالى لا أطلع على قلب عبد، فأعلم فيه حب الإخلاص لطاعتي لوجهي، وابتغاء مرضاتي إلا توليت تقويمه وسياسته، ومن اشتغل بغيري فهو من المستهزئين بنفسه، ومكتوب اسمه في ديوان الخاسرين"بحار الأنوارج82ص136..فمن الحقائق التي كشفت عنها هذه الرواية الشريفة، أن الحق تعالى ( يتبنى ) بعض القلوب بالرعاية والتقويم، كتبنيه لقلوب الأنبياء مع اختلاف الرتب..ومن هنا نرى بعض حالات الاستقامة الشديدة لمن أحاطته دائرة المفاسد من دون أن يقع فيها، وكأنّ هناك من ( يحوطه ) بالرعاية والتسديد في كل خطوة من خطوات حياته، تزييناً للخير تارة وتكريهاً للفسوق تارة أخرى..وقد أشارت الرواية إلى أن من ( مفاتيح ) هذه المنـزلة، هو حب الإخلاص لطاعة الحق.

الانشغال بالأهل
ورد في الحديث عن أمير المؤمنين: "لا تجعلن أكثر شغلك بأهلك وولدك، فإن يكن أهلك وولدك أولياء الله، فإن الله لا يضيّع أولياءه، وإن يكونوا أعداء الله، فما همّك وشغلك بأعداء الله"البحارج104ص73..ففيه إيقاظ لأغلب الغافلين في حياتهم الاجتماعية، الذين يصرفون جُلّ اهتمامهم وخاصة في - مجال الرزق - لمن حولهم، تاركين الاهتمام بالجوانب الأخرى من التربية والأخلاق الفاضلة..فالاهتمام ( بالأولاد ) ينبغي أن يكون بمقدار ( ما أمر ) به الحق، وخاصة مع الالتفات إلى تقطّع أواصر القرابة عندما ينفخ في الصوركما ذكره القرآن الكريم.

الانتظار الحق
إن انتظار الفرج - الذي هو من أفضل الأعمال - يذكّرنا بالانتظار المذكور في قوله تعالى: "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا"..فالمنتظرون في هذه الآية هم الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وهم على أهبة الاستعداد للجهاد منتظرين للشهادة، ليلتحقوا بركب من مضى قبلهم..أضف إلى ذلك أنهم ثابتون على ما هم عليه، إذ لم يبدلوا تبديلا..فأين هذا ( الانتظار ) الواقعي من ( تمنّي ) الانتظار وإبداء الأشواق الخالية من المعاني الصادقة ؟!.

في خدمة المخدوم
إن مَثَل النفس بين يدي الحق، كمَثَل الخادم الذي كلما ( قـلّ ) ارتباطه بغير المخدوم، كلما ( تمحّض ) في خدمة مولاه..بل إن العبد المطيع لمولاه، يتمنى أن لا يرسله المولى في حوائجَ بعيدة - وإن كانت فيها مصلحته - لئلا يحرم النظر إلى وجه مولاه الذي أنس به..فالمؤمن يتمنّى الفراغ الذي يؤهله للتفرغ في عبادة الحق، ويستوحش من إقبال الدنيا عليه وإن كان فيها خيراً، كما ( يستوحش ) من تفرّق بالـه في الصالحات، لئلا ( يذهل ) عن الإحساس الدائم بالمثول بين يدي الحق، وقد روي أن الإمام الكاظم (عليه السلام) شكر ربه عند دخوله السجن، إذ رزق مكانا خاليا للعبادة.

اضطرار صاحب الأمر
إن مَثَل صاحب الأمر(عليه السلام) بين ظهراني هذه الأمة، كمَثَل من غصب داره، وسلب ماله، واحتجز حريمه، ونفي من بلده، واستغاث به أهله، وقدر على استيفاء حقه، ولكن لم يؤذن بذلك، وبقي كذلك منتظرا قرونا طوالا..والحال أنه صلوات الله عليه أشّد اضطرارا ممن ذكر، وذلك ( لسعة ) الدار التي غصبت منه، و(كثرة ) المستغيثين به من أولياء الحق، و( شدة ) الفتن التي وقعت عليهم، و( إحاطته ) في كل آن بالمصائب التي يراها بنفسه، والحال أنه هو المظهر لرافة الحق أسوةً بجده (صلى الله عليه وآله وسلم)..يضاف إلى كل ذلك المصائب التي سلفت على أجداده الميامين، والتي وُكّل أمر الثأر منها إليه..وهو مع كل ذلك غير قادر على دفع ما منيت به الأمة في غيبته، وهو الإمام المفترض الطاعة على جميع أهل الأرض.

معاشرة ثقيلي المعاشرة
ينبغي تحاشي معاشرة من تثقل معاشرته..لئلا يلتجئ المرء إلى ( التصنّع ) في حسن المعاشرة معهم، و( المداراة ) في كل صغيرة وكبيرة، لئلا يقع في مغبة إيذاء المؤمن ولو بشطر كلمة..كل ذلك يوجب صرف نظر العبد إليه، بما يلهيه عن ذكر الحق..وقد روي: "أن أمير المؤمنين (عليه السلام) إذا أراد أن يصلي من آخر الليل، أخذ معه صبياً لا يحتشم منه"البحار-ج27ص208.

تأليب الآخرين
عندما ييأس الشيطان من التصرف المباشر في قلب المؤمن - لانتسابه إلى مقام الولاية - التي لا تطالها يد الشيطان أبداً، يتوجه إلى قلوب ( المحيطين ) به من أهله وذريته والمقربين منه، فيؤلّبهم عليه بما يوجب لهم سوء الظن به، والاعتقاد به خلافا لما هو عليه من حسن الباطن، وبالخصومة التي لامبرر لها..فإذا عجز عن ذلك كله، انتقل إلى أعدائه، فيثير أحقادهم عليه بما يصل إلى حد الأذى في نفسه و أهله وماله، كما كان يقع كثيرا بالنسبة إلى أئمة الهدى (عليه السلام)، إذ اجتمع عليهم ( خبث ) طينة أعدائهم مع ( تسويل ) الشياطين لأعدائهم بما يؤجج نار خبثهم..وقد ورد عنهم (عليه السلام): "ولو كان المؤمن على رأس جبل، لقيّض الله له من يؤذيه، ليؤجره على ذلك"البحار-ج27ص208.

الضمور في الكمال
إن لكل من عالم العلم والعمل كماله وسعيه اللائق به..فالمستغرق في كماله العلمي ( ينمو ) لديه الجانب العلمي مجردا عن البعد الآخر فيما لو أهمله وكذلك العكس..ومن هنا نرى بعض المتوغّلين - حتى في العلوم الحقة - قد ( ضَمُر ) لديهم التوجه القلبي نحو ما يوجب لهم الخشوع والخشية، فلا بد لطالب الكمال من الجمع بين العالمين بالسعي اللازم لكل منهما..وهناك صورٌ متكررة من المزالق الكبيرة طول التأريخ لمن أوتي نصيبا من العلم..وقد تكرّرت النصوص المحذّرة من هذه ( المفارقة ) القاتلة بين العلم والعمل.

الغد خير من الأمس
ورد في الدعاء: "واجعل غدي وما بعده، أفضل من ساعتي ويومي"..فلو التفت العبد إلى هذا المضمون وهو أن يكون كل يوم خيراً من سابقه، وسعى إلى تحقيق هذا المضمون في حياته، وطلب من المولى التوفيق في ذلك، لأحدث ( تغييرا ) في حياته و( لاشتدّت ) سرعته نحو الكمال والخروج عن دائرة الخسران الذي نسبه الحق للجميع..وقد رُوي: "أن المغبون من تساوى يوماه".

تحاشي موجبات التشويش
إن من الضروري لمن يريد الصلاة الخاشعة، أن يتحاشى موجبات التشويش قبل الصلاة مباشرة.. فيتحاشى ( الجدل ) في القول، والذهاب إلى الأماكن التي ( تسلبه ) بعض لـبّه، ومواجهة من تبقى صورته في ( البال ) أثناء الصلاة حبا أو بغضا..فمن اللازم على العبد المهتم بلقاء المولى، أن يفرّغ نفسه قبل الصلاة من كل هذه الشواغل المذهلة، وخاصة في الصلاة الوسطى - وهي صلاة الظهر على قول - إذ أنها تمثل قمة تشاغل العباد بأمور دنياهم.

استثقال العبادة
إن الأداء الظاهري للعبادة مع استثقالها، قد لا يعطي ثماره الكاملة، كالصائم نهاراً والقائم ليلاً - مستثقلا لهما - ومرغما نفسه عليهما..إما ( تخلصاً ) من تبعات الإثم في ترك الواجب، أو ( طلباً ) للأجر في المندوب، أو ( التزاما ) بما اعتاد عليه..والحال أن العبادة أداةٌ لتقرب المحب إلى حبيبه، بل هو التقرب بعينه، والمفروض أن لا يرى المحب مشقةً في طاعة محبوبه، ما دامت سبيلا إلى ما فيه لذته وبغيته من الوصل واللقاء..وعليه فينبغي علاج موجبات ذلك الاستثقال المذكور، ليستطعم حلاوة العبادة كما يتذوقها أهلها.

اجتذاب الأنظار
إن للنفس الأمّارة بالسوء الرغبة في اجتذاب أنظار الخلق إليها، بل قد يرتكب صاحبها الشاذ من الأقوال والأفعال، لمجرد ( التميّز ) الموجب لِلَفت الأنظار، بل قد يعرّض حياته للمخاطر للرغبة نفسها، كالسفر إلى مجاهل الأرض من قمم الجبال وأعماق البحار..وقد يرتكب ما هو محمود في نفسه، فينقل واقعة نافعة، أو يتحمس في حديث هادف، أو يقضي حاجة أخيه المؤمن، رغبة في أن يكون هو بشخصه ( مجرىً ) لتصريف شؤون العباد، فيتلذذ بجريان الأمور المهمة على يديه..ومن المعلوم أن كل ذلك بعيد كل البعد عما يطلبه الحق من نفي ( الإنـيّة )، وحصر الأعمال كلها فيما يرضي المالك على الإطلاق.

خاصية الجذب الأنفسي
إن التأثير في نفوس الخلق غير منحصرٍ في أسلوب الوعظ والإرشاد والكتابة، بل إن بعض النفوس العالية قد تؤثر في النفوس المحيطة بها تأثيرا ( مباشرا ) من دون خطاب أو كتاب..وكأنّ الحق جعل في وجودهم خاصية الجذب ( الأنفسي ) كما جعل خاصية الجذب ( الطبيعي ) في بعض الأحجار..وهنالك روايات متعددة في تأثير الأئمة (عليه السلام) في النفوس - حتى نفوس الأعداء - بنظرة أو كلمة، كما وقع لبشر الحافي وأمثاله.

الحيوان الهائج
إن عناصر الشر المقوّمة للنفس الأمارة بالسوء، بمثابة الحيوان ( الهائج ) في ساحة النفس..فقد يقيده صاحبه بالسلاسل فيأمن شره، إلا أنه يباغت صاحبه عند قوته وضعف صاحبه، ليحطّم تلك الأغلال و لينقض على صاحبه بعد طول أمان..والخلاص الكامل مما هو فيه يتمثل: إما ( بطرد ) ذلك الحيوان الهائج من ساحة النفس، أو ( بقتله ) مما يجعل صاحبه في أمان دائم وراحة لا انقطاع لهـا.

مقارعة الظلمة
قد تكون مقارعة الظلمة في بعض الحالات مستندة لحالة ( الغضب ) والهيجان في النفس تجاه ما تراه من الظلم، وتبلغ كراهية النفس للظلم وأهله إلى درجة التضحية بالحياة، كما نلاحظها في بعض دعاة العدل ولو في المسالك الباطلة..والمطلوب من العبد أن يستند في إظهار غضبه ورضاه إلى مراد المولى في مواجهة الفرد أو الجماعة، ( فيثور ) حيث أمر الحق به كما شاء أن يرى الحسين (عليه السلام) قتيلا فثار..و( يكظم ) غيظه حيث أراد الحق ذلك أيضا، كما شاء أن يصبر أمير المؤمنين (عليه السلام) عن حقه، فصبر وفي العين قذى وفي الحلق شجىً، كما عبر هو عن نفسه.

الأحكام المسبقة
إن النفوس التي لم تخضع للتربية والتهذيب، لديها أحكام مسبقة على الأمور والأشخاص، من دون تحقق للملاكات الشرعية في تلك الأحكام النفسية، فتميل إلى من تميل لمجرد ( الاستئناس ) النفسي الخالي من أي ملاكٍ كالتقوى التي جعلت ملاكا للتفاضل بين الخلق..وقد تميل إلى فرد ( لانسجامه ) مع مسلكه الخاص في الحياة، بل قد يكون ذلك لأسباب واهية، كالاجتماع في بلد واحد أو الاشتراك في مصلحة واحدة..وقد تعادي من تعادي لمجرد ( النفور ) الذي لا موجب له، أو له موجب باطل، كتصديق المقالات الكاذبة عن العباد، والتي أمر الشارع بالتثبّت والتبـيّن لئلا يصاب قومٌ بجهالة..فعلى المؤمن أن يلغي كل أحكامه المسبقة في الأمور والعباد، مستلهما من الحق الصواب في واقع الأشياء كما هي، ليكون على نور من الله تعالى يمشي به في الناس.

مخادعة النفس
إن من الضروري - في بعض الحالات - ( مخادعة ) النفس في جلبها إلى طريق الخير، فيأتي إليها من حيث ترغب..فمثلا من يرى نفسه ( مولعاً ) بلذائذ البطن والفرج، فله أن يعطي نفسه سؤلهـا منها، بشرط القيام بطاعة مهمة قبل استيفاء اللذة أو بعدها..ومن يرغب في ( معاشرة ) الخلق يوجّـه نفسه إلى المجالس التي تذكّره بالحق..ومن يرغب في السفر و ( السياحة ) في البلاد، يوجّـه نفسه إلى البلاد التي رغّب الشارع في شـّد الرحال إليها، ومن ( تثقل ) عليه صلاة الليل يرغّب نفسه في أبعاضها، ثم يجدد العزم على الباقي منها..وهكذا الأمر في صيام الأيام المندوبة وما شابـهها.

القوانين الطبيعية والاجتماعية
إن الآيات المتعرضة للحالات الاجتماعية في القرآن الكريم تجري مجرى الآيات المتعرضة للآيات الطبيعية، فكما أن إرادة الحق لا تتخلف في ( التكوينيات ) فكذلك أمره في ( الاجتماعيات )..فمن ذلك قوله تعالى"إدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم"، فينبغي التعامل مع هذا القانون كأيّ قانونٍ من قوانين الطبيعة، فالمقنّـن فيهما واحد..ومن ذلك قوله تعالى: "إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما"، ( فإرادة ) الإصلاح المتحققة من الزوجين، يوجب ( مباركة ) الحق لهما في حياتهما بالتوفيق بينهما، مهما بلغ الفساد مبلغه.

أكثرهم لا يعقلون
وردت آيات متعددة تصف أكثر الخلق بأنهم لا يعلمون، ولا يشكرون، ولا يؤمنون، ولا يعقلون..و الالتفات إلى هذا المضمون، ( يسهّل ) على العبد الإخلاص في العمل، والتعالي على الجاه، وعدم التزلّف إلى المخلوقين، وذلك لشعوره أن كل ذلك إنما هو بالنسبة إلى من وصفهم القرآن بالأوصاف المذكورة، ومن المعلوم أن رغبة الناس في الجاه وحُبّ ثناء الخَلْق، إنما هو لاعتدادهم بما يسمى ( بالرأي ) العام و( ميل ) الجمهور..وقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ما يدل على عدم اعتداده بمن حوله فيقول: "لا تزيدني كثرة الناس حولي عزة، ولا تفرقهم عني وحشة"البحار-ج100ص362.

تحمل مشقة العبادة
قد ( يستغرب ) البعيدون عن أجواء العبودية، من تحمّل بعضهم للعبادات الشاقة، كصيام النهار في الحرّ وكقيام الليل في القرّ وأمثال ذلك..والحال أن أصحابها ( يتلذذون ) بما يراه غيرهم مشقّة وعناء، مصداقا لقوله (عليه السلام): "واستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون"البحار-ج1ص188.

فائدة الاستخارة
إن من ( فوائد ) العمل بالاستخارة، فيما تحسن فيه الاستخارة من موارد التحير التي لا تستقر فيها النفس إلى شئ، هو إحساس العبد وكأنه جنديّ في معركة القتال، لا يتحرك في الميدان إلا بأمر من قائده، فهو لا ينظر إلى إرشاد المولى له ( كطريق ) إلى حيازة المنافع العاجلة، بل ( كإتمار ) بأمرِ من تجب طاعته في كل صغيرة وكبيرة..ومن هنا يدعو الداعي فيقول في استخارته: "أستخير الله برحمته خيرة في عافية"، إذ العافية هنا تعم ما تتحقق في الدنيا أو الآخرة، في العاجل والآجل.

منغصات معيشة المؤمن
إن من الضروري الالتفات إلى أن ( المنغصّات ) في حياة المؤمن لمن دواعي ( تكامله ) وصعوده إلى الدرجات العليا، إذ أن أدنى ما في تلك المنغصات - سوى الأجر الأخروي - أنها لا تدع مجالا ( للاستئناس ) بالدنيا والركون إلى متعها..فهي بمثابة أشواك نابتة على الأرض، تمنع الطير من الإخلاد إلى الأرض، تاركا للتحليق في أجوائه العليا..ولهذا تشبّه الروايات تعاهد المولى لعبده بالبلاء، كتعاهد الرجل أهله بالهدية.

سوء العاقبة
ينبغي الالتجاء الدائم إلى الحق من ( سوء العاقبة )، والذي شهد التاريخ منه نماذج مذهلة كمحمد بن نصير النميري والذي كان من أصحاب الإمام العسكري (عليه السلام)، فانحرف إلى أن وصل به الحال إلى الفتوى بجواز نكاح الرجال، زاعما أنه تواضعٌ لله تعالى وتركٌ للتجبّـر..وبلغ به افتتان المريدين إلى درجة سأله أتباعه عند موته لمن الأمر من بعدك ؟!..وهذا أحمد بن هلال الكرخي - الذي حج أربعا وخمسين حجة، منها عشرون حجة على قدميه - قد بلغ انحرافه مبلغا ذكر الإمام العسكري (عليه السلام) في حقه: "إحذروا الصوفي المتصنّع".

السيئات من صفة واحدة
قد يعيش العبد حالة اليأس ممن كُـلّف برعايته كالزوجة والأولاد، فيما لو رأى منهم أفعالا قبيحة..والحال أن بعض هذه الأفعال قد ترجع إلى صفةٍ سيئةٍ ( واحدة )، فيسهل علاج جميع ذلك بعلاج تلك الصفة السيئة..وهذا خلافا لمن اجتمعت فيه أفعال قبيحة منتسبة إلى صفات قبيحة ( شتىّ )، فيعسر علاجه قياسا إلى سابقه.

تلهف النفس
قد تتوجه النفس - بشوق شديد - إلى بعض الأمور: كقدوم مولود، أو مجيء مسافر، أو حصول فائدة، أو إقتراب موعد لذة أو غير ذلك..كل هذه الحركات المنقدحة من النفس، لا تليق بالعبد الملتفت إلى نفسه، إذ كلما ( اشتد ) الشوق إلى الأغيار، كلما ( ضعف ) الالتفات إلى الحق المتعال..والعقوبة الطبيعية لذلك هي عدم ( اعتناء ) الحق به، كما هدد به في بعض الموارد فقال عز وجل: "قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم"، وهي عقوبة قاسية لأهلها..فلو قال السلطان لأحد رعيته، أو الأب لولده مثل هذه المقولة، لانتابه شعور بالفزع والجزع شديدٌ، لمعرفته بفداحة آثار الحرمان المترتب عليه، فكيف إذا صدر مثل ذلك ممن بيده مقاليد الأمور ؟!.

عدم الالتهاء بالجمال
إن حالة العبد مع الرب، كالجالس بين يدي السلطان في قاعة لقائه التي زينت بأنواع الجمال في كل جَنَباته..فليس له أن ( يلهو ) عنه بالنظر إلى ما حوله من متاع وزينة، إذ أن ذلك مستلزم ( للطرد ) أو الاحتجاب..فالحق وإن جعل ما على الأرض زينة لها، وجعل ما في السماء زينة للناظرين، إلا أن ذلك لا يعني أن يجعل العبد الالتفات إلى كل هذه الزينة في السماوات والأرض، ( حجابا ) يشغله عن التوجه إلى ربه، ومانعا لتحقيق أدب المثول بين يديه، بل يجعل ذلك مقدمةً للالتفات إلى عظمة سلطان من هو بحضرته.

حرمان بعض الشهوات
إن من سبل تقوية السيطرة على النفس وكبح جماحها، هو حرمانها من بعض الشهوات ( الملحّة ) عليها..فإن من قدر على الأقوى قدر على الأضعف بطريق أولى..ولكن ينبغي التعامل مع النفس - في هذا المجال - بحذر لئلا تتمرد على صاحبها، فقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: "ولا تبغّض إلى نفسك عبادة الله، فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى"البحار-ج71ص218..وحالات الانتكاس لدى بعض من أراد ترويض نفسه، بغير ( وعي ) من نفسه، أو ( استرشادٍ ) من ذوي المعرفة لخير شاهد على ذلك.

تمني الخير للغير
أكدت روايات أهل البيت (عليه السلام) على تمني الخير للآخرين كما يتمناه العبد لنفسه، فلو عمل العباد بهذه الروايات ( لانقلبت ) أنماط حياتهم الاجتماعية من دون تكلف، و( لذابت ) كثيرا من المشاكل المترتبة على الحسد والحقد والتنافس على فضول الحطام، بل وتأكّدت حالة ( الشفقة ) والتكافل الاجتماعي بين العباد..فإن آثار القيم الأخلاقية تتجاوز السلوك الفردي للإنسان، ليحوّل المجتمع إلى مجتمع ذي قلب سليم، تتحقق من خلاله سلامة قلب الفرد الذي يعيش فيه.

بين الباقي والفاني
ينبغي الالتفات دائما إلى قاعدة دوران الأمر في حياة الإنسان بين الباقي وهوما ( عند الله ) تعالى والفاني وهو ما ( عند العبد )..فيدور الأمر - في كل لحظة من العمر- بين صرفه فيما يحقق العندية للحق كذكره تعالى والعمل بطاعته، وبين ما يحقق العندية للخلق كالاشتغال بغير الواجب والمندوب، فضلا عن الحرام..فلو عمل العبد بهذه القاعدة في كل مرحلة من حياته، لرأى أن كل نظرة ليست فيها عبرة فهي ( سهو )، وكل قول ليست فيه حكمة فهو ( لغو )، وكل فعل ليست فيه طاعة فهو ( لـهو ).

الإتباع دليل المحبة
إن من الضروري التأمل في قوله تعالى: "إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله"..فإتباع الشرع أساسٌ لمحبة الشارع، ومحبة الشارع للمتشرع أساسٌ لتحقيق أهداف الشريعة في سلوك العبد، وليس من الضروري أن يثمر الإتّـباع المحبة ( الفعلية ) السريعة..إذ أن هذه الثمرة قد تُعطى بعد مرحلة من الطاعة، يُثبت فيها العبد ( إصراره ) على مواصلة الطريق وإن طال المدى.

السعي لا النتيجة
ليس من المهم أن يحقّق العبد حالة الخشوع والإقبال في الصلاة، وإنما المهم بذل ( السعي ) الحثيث في ذلك، و( دفع ) ما ينافيه، و( التعرّض ) للنفحات في تلك المواطن..ومن ثم ( يسلّم ) أمره للحق الذي لو شاء منحه الإقبال بكرمه، أو حرمه بلطفه، لما يراه من المصالح الخفية عن العباد..فإن تمني حالة الخشوع في العبادة مع عدم تحققها من موجبات اليأس والإحباط..فعلى العبد أن يسعى بهمّتـه ويوكل أمر النتائج إلى ربّـه، إذ العبد مأمور بالسعي لا بالنتيجة..وقد ورد في باب التجارة ما يقرب من هذا المعنى، فعن الصادق (عليه السلام) أنه قال: "إفتح بابك، وابسط بساطك، واسترزق ربك"المستدرك ج2ص414..فعلى العبد أن يفتح بابه ويبسط بساطه، سواء في مجال التكسب المادي أو المعنوي.

إحاطتهم بالمآسي
إن التوسل بأئمة الهدى (عليه السلام) أمر متيسر حتى لمن لا يملك الفهم الكامل لدورهم في تبليغ الرسالة..والسبب في ذلك ( إحاطتهم ) بالمآسي التي تقدح عواطف التأثر في القلوب التي تحمل أدنى درجات الود والولاء لهم، كالرزايا التي أحاطت سيد الشهداء (عليه السلام)، والتي تثير حتى القلوب التي لا تحمل الولاء الخاص لهم (عليه السلام)..وهنا تتجلى ( منّـة ) الحق إذ ( أهبط ) أنوارهم المحدقة بالعرش، إلى الأرض بمآسيها وآلامها، ليستنقذ عباده من الجهالة وحيرة الضلالة.

العناد بالمعصية
إن المعصية حالة من ( التمرّد ) المقصود أو غير المقصود مع الحق مباشرة، ولهذا تنتاب العبد حالة من الخجل والوجل، عندما يريد الحديث مع من عصى في حقه، وخاصة عندما تكبر حجم المعصية..ومن هنا كان من الطبيعي أن يخلق الحق شفعاء بينه وبين خلقه، وهم المعصومون (عليه السلام) الذين أمر باتخاذهم الوسيلة إليه..فإن المعصية وإن كانت ( مخالفة ) لهم أيضا، إلا إنها ( متوجهة ) للحق قبل أن تتوجه إليهم..ولهذا جعل الحق توبته متفرعة على استغفار الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، كالأب الذي يشفع لابنه عند السلطان، بطلب من السلطان نفسه.

صعوبة الإخلاص
إن ( صعوبة ) الإخلاص - وهو عماد هيكل القرب إلى الحق - ( تكمن ) في صعوبة التفتيش في خبايا النفس وخاصة في مواضع الهوى منها..أضف إلى أن الإخلاص لا يتحقق بكل أبعاده بمجرد التلفظ بل ولا عقد النية المجردة..بل الأمر يحتاج إلى انقلاب ماهوي في كيان العبد، لا ينقدح معه الميل إلى غير الحق وذلك لاستصغاره إياه، بما لا يستحق أن يجعل في نفسه ( اعتبارا ) لذلك الغير، حتى يدعوه إلى غير الإخلاص.

استصغار ما بين العلا والثريا
روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: "إذا كبرت فاستصغر ما بين العلا والثريا دون كبريائه، فإن الله إذا اطلع على قلب العبد وهو يكبّر، وفي قلبه عارض عن حقيقة تكبيره، قال: يا كاذب أتخدعني وعزتي وجلالي لأحرمنك حلاوة ذكري، ولأحجبنك عن قربي والمسارّة بمناجاتي"البحارج81ص230..فينبغي الالتفات إلى أن هذه الدرجات القلبية وإن لم تكن ( واجبة ) التحصيل بالمعنى الفقهي في الواجبات البدنية، إلا أن ( الإخلال ) بها قد يعرّض العبد لعقوبات قاسية، كالتي ذكرت في هذه الرواية..وإن ( إعفاء ) الخلق عن تلك الواجبات المتعالية، إنما كان رأفة بهم، وذلك لارتكاب أغلب الخلق هذه المخالفات التي لو استتبعت العقاب، لما سَلِم من العذاب إلا القليل.

أفضل الأوقات للحق
يوصي أمير المؤمنين (عليه السلام) واليه مالك الأشتر قائلا: "واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله، أفضل تلك المواقيت وأجزل تلك الأقسام..وإن كانت كلها لله إذا صلحت فيها النية وسلمت فيها الرعية"البحار-ج33ص609..ففي أول الحديث يوصي الإمام (عليه السلام) بضرورة إعطاء ( زهرة ) الساعات والأيام ( للالتفات ) إلى الحق المتعال، وفي آخره يترقى لـيُفهم واليه ومن وصله كتابه إليه، أنه مع سلامة النية وصفاء السريرة، تنتسب الساعات والأيام كلها لله تعالى..فليس للعبد وقت دون وقت للمثول بين يدي مولاه جل شأنه.

جريمتان في آن واحد
إن العبد بمخالفته للحق يرتكب جريمتين في آن واحد: الأولى وهي ( التحدي ) العملي للحق فيما أمر به أو نهى عنه، فلا ينظر إلى المعصية وحدها، بل إلى من عصي بحقه..وهذا التجاوز لو أخذ به المولى، ما ترك على ظهرها من دابة، بل أخذهم بألوان العذاب..والثانية هي ( استعمال ) عنصر من عناصر الخلق كأداة لارتكاب المعصية، وفي ذلك تصّرف عدواني فاضح في ملك الحق..أضف إلى ( التضييع ) المتعمد لموقع الأشياء في عالم الوجود.. فالعنب - مثلاً - خُـلِق ليكون قوتا للعبد يعينه على طاعته، فيحوّله العبد الآثم إلى خمرة، تسلب العقل بما يعينه على خلاف الطاعة..فهو جريمة في حق الخالق، وفي حق المخلوق الصامت والناطق معاً.

الذهول في أول الطريق
تنتاب السائر إلى الحق في أول الطريق المعبر عنه - بمرحلة اليقظة - حالة من ( الذهول ) والمحو، لإدراكه بعض الحقائق الجديدة على عالمه، فيميل إلى ( العزلة ) عن الخلق لشدة ما هو فيه، بل لما يراه من ثقل معاشرة الغافلين عن الحق..إلا أنه ينبغي تجاوز هذه المرحلة، ليصل إلى مرحلة الجمع بين مختلف جهات التكليف حفظا لما هو فيه..بل يسعى لتعريف الآخرين بما منّ عليه الحق تعالى من المعرفة الخاصة..وعندئذ فلا الخلق يحجبونه عن الحق كما هو حال ( المحجوبين )، ولا الحق يصير حجابا له عن الخلق كما هو حال ( الواصلين ).

رتبة قرب النوافل
إن من الروايات التي تمثل ( قاعدة ) كبرى في السير إلى الحق، هي ما يعبر عنه برواية قرب النوافل وهي: "ما يتقرب إليّ عبدٌ بأحب إلي مما افترضته عليه، وإنه يتقرب إليّ بالنافلة حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده الذي يبطش بها، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته} الكافي ج4ص53..فمن هذه الرواية وأشباهها يُعلم أن نقطة ( الانقلاب ) الجوهري في حياة العبد هي هذه النقطة، وهي ( محبة ) الحق للعبد..إذ عندها تنحسر الخصائص البشرية للعبد، ليحل محلها تجليات الأسماء الربوبية، فتـندك الإرادة البشرية في الإرادة الربوبية..ومن هنا ينبغي التعامل مع هؤلاء - وإن قلّوا - بحذر شديد، لأن مواجهتهم مواجهة لرب العالمين، والحق سريع الانتصار لهم، كما ورد التعبير بإرصاد المحاربة للحق عند التعرّض لهم.

ما هو القلب السليم؟
روي عن الصادق (عليه السلام) في معنى قوله تعالى ( إلا من أتى الله بقلب سليم ) أنه قال: "السليم الذي يلقى ربه وليس فيه أحد سواه، وقال: كل قلب فيه شك أو شرك فهو ساقط، وإنما أراد بالزهد في الدنيا لتفرغ قلوبهم للآخرة"الكافي ج3ص26..فاتفقت كلمة الروايات والآيات على ضرورة الالتفات إلى مركز التوجيه في الكيان الإنساني..فكل ( شائبة ) في جهاز القلب تنعكس آثارها على السلوك الخارجي للعبد..ولا تتم السلامة في السلوك إلا بالسلامة في القلب..إذ لا يصدر في ( الخارج ) إلا ما كان في ضمن ( ما يهواه ) القلب حقا كان أو باطلا.


* الشيخ حبيب الكاظمي

2016-01-22