يتم التحميل...

الحسد وعلاجه

تهذيب النفس

و هو تمنى زوال نعم الله تعالى عن اخيك المسلم مما له فيه صلاح، فان لم ترد زوالها عنه ولكن تريد لنفسك مثلها فهو (غبطة) ومنافسة، فان لم يكن له فيها صلاح واردت زوالها عنه فهو (غيرة).

عدد الزوار: 30

و هو تمنى زوال نعم الله تعالى عن اخيك المسلم مما له فيه صلاح، فان لم ترد زوالها عنه ولكن تريد لنفسك مثلها فهو (غبطة) ومنافسة، فان لم يكن له فيها صلاح واردت زوالها عنه فهو (غيرة). ثم ان كان باعث‏حسدك مجرد الحرص على وصول النعمة الى نفسك، فهو من رداءة القوة الشهوية، وان كان باعثه محض وصول المكروه الى المحسود فهو من رذائل القوة الغضبية، ويكون من نتائج الحقد الذى هو من نتائج الغضب، وان كان باعثه مركبا منهما، فهو من رداءة القوتين. وضده (النصيحة)، وهي ارادة بقاء نعمة الله على اخيك المسلم مما له فيه صلاح.

و لا ريب في انه لا يمكن الحكم على القطع بكون هذه النعمة صلاحا وفسادا. فربما كانت وبالا على صاحبه وفسادا له، مع كونها نعمة وصلاحا في بادى النظر. فالمناط في ذلك غلبة الظن، فما ظن كونه صلاحا فارادة زواله حسد وارادة بقائه نصيحة، وما ظن كونه فاسدا فارادة زواله غيرة. ثم ان اشتبه عليك الصلاح والفساد، فلا ترد زال نعمة اخيك ولا بقاءها الا مقيدا بالتفويض وشرط الصلاح، لتخلص من حكم الحسد ويحصل لك حكم النصيحة. والمعيار في كونك ناصحا: ان تريد لاخيك ما تريد لنفسك، وتكره له ما تكره لنفسك. وفي كونك حاسدا: ان تريد له ما تكره لنفسك، وتكره له ما تريد لنفسك.

ذم الحسد

الحسد اشد الامراض واصعبها، واسوا الرذائل واخبثها، ويؤدى بصاحبه الى عقوبة الدنيا وعذاب الآخرة، لانه في الدنيا لا يخلو لحظة عن الحزن والالم، اذ هو يتالم بكل نعمة يرى لغيره، ونعم الله تعالى غير متناهية لا تنقطع عن عباده، فيدوم حزنه وتالمه. فوبال حسده يرجع الى نفسه، ولا يضر المحسود اصلا، بل يوجب ازدياد حسناته ورفع درجاته من حيث انه يعيبه، ويقول فيه ما لا يجوز في الشريعة، فيكون ظالما عليه، فيحمل بعضا من اوزاره وعصيانه، وتنقل صالحات اعماله الى ديوانه، فحسده لا يؤثر فيه الا خيرا ونفعا، ومع ذلك يكون في مقام التعاند والتضاد مع رب الارباب وخالق العباد، اذ هو الذي افاض النعم والخيرات على البرايا كما شاء واراد بمقتضى حكمته ومصلحته، فحكمته الحقة الكاملة اوجبت‏بقاء هذه النعمة على هذا العبد، والحاسد المسكين يريد زوالها، وهل هو الا سخط قضاء الله في تفضيل بعض عباده على بعض وتمنى انقطاع فيوضات الله التي صدرت عنه بحسب حكمته وارادة خلاف ما اراد الله على مقتضى مصلحته؟ ! بل هو يريد نقصه سبحانه، وعدم اتصافه بصفاته الكمالية. اذ افاضة النعم منه سبحانه في اوقاتها اللائقة على محالها المستعدة من صفاته الكمالية التي عدمها نقص عليه تعالى، والا لم يصدر عنه، وهو يريد ثبوت هذا النقص، ثم لتمنيه زوال النعم الالهية التي هي الوجودات ورجوع الشرور الى الاعدام يكون طالبا للشر ومحبا له، وقد صرح الحكماء بان من رضي بالشر، ولو بوصوله الى العدو، فهو شرير فالحسد اشد الرذائل، والحاسد شر الناس. واي معصية اشد من كراهة راحة مسلم من غير ان يكون له فيها مضرة؟ ولذا ورد به الذم الشديد في الآيات والاخبار، قال الله سبحانه في معرض الانكار: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ‏1.

و قال: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم‏.2 وقال: ﴿ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا 3.

و قال رسول الله-صلى الله عليه وآله-: "الحسد ياكل الحسنات كما تاكل النار الحطب‏".

وقال-صلى الله عليه وآله-: "قال الله عز وجل لموسى بن عمران: يا بن عمران، لا تحسدن الناس على ما آتيتهم من فضلى، ولا تمدن عينيك الى ذلك، ولا تتبعه نفسك، فان الحاسد ساخط لنعمى، صاد لقسمى الذى قسمت‏ بين عبادى. ومن يك كذلك فلست منه وليس منى‏".

وقال-صلى الله عليه وآله- "لا تحاسدوا ولا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله اخوانا".

وقال -صلى الله عليه وآله-: "دب اليكم داء الامم من قبلكم: الحسد والبغضاء، والبغضة هى الحالقة، لا اقول حالقة الشعر، ولكن حالقة الدين. والذى نفس محمد بيده! لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا. الا انبئكم بما يثبت ذلك لكم؟ افشوا السلام بينكم! "

وقال-صلى الله عليه وآله-: "كاد الفقر ان يكون كفرا، وكاد الحسد ان يغلب القدر".

وقال-صلى الله عليه وآله-: "سيصيب امتي داء الامم. قالوا: وما داء الامم؟ قال: الاشر، والبطر، والتكاثر، والتنافس في الدنيا، والتباعد والتحاسد، حتى يكون البغي ثم الهرج‏".

وقال-صلى الله عليه وآله-: "اخوف ما اخاف على امتي ان يكثر فيهم المال فيتحاسدون ويقتتلون‏".

وقال صلى الله عليه وآله "ان لنعم الله اعداء. فقيل: ومن هم؟ قال: الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله‏".

وورد في بعض الاحاديث القدسية: "ان الحاسد عدو لنعمتى، متسخط لقضائى، غير راض بقسمتي التي قسمت‏بين عبادى‏".

وقال الامام ابو جعفر الباقر-عليهما السلام-: "ان الرجل لياتي بادنى بادرة فيكفر4، وان الحسد لياكل الايمان كما تاكل النار الحطب‏".

وقال ابو عبد الله عليه السلام: "آفة الدين: الحسد والعجب والفخر".

وقال عليه السلام: "ان المؤمن يغبط ولا يحسد، والمنافق يحسد ولا يغبط‏"5. وقال: "الحاسد مضر بنفسه قبل ان يضر بالمحسود، كابليس اورث بحسده لنفسه اللعنة، ولآدم الاجتباء والهدى والرفع الى محل حقائق العهد والاصطفاء. فكن محسودا ولا تكن حاسدا فان ميزان الحاسد ابدا خفيف بثقل ميزان المحسود، والرزق مقسوم، فماذا ينفع الحسد الحاسد، وماذا يضر المحسود الحسد. والحسد اصله من عمى القلب والجحود بفضل الله تعالى، وهما جناحان للكفر، وبالحسد وقع ابن آدم في حسرة الابد، وهلك مهلكا لا ينجو منه ابدا، ولا توبة للحاسد لانه مصر عليه معتقد به مطبوع فيه، يبدو بلا معارض به ولا سبب، والطبع لا يتغير عن الاصل، وان عولج‏"6.

وقال بعض الحكماء: "الحسد جرح لا يبرا".

وقال بعض العقلاء: "ما رايت ظالما اشبه بمظلوم من حاسد، انه يرى النعمة عليك نقمة عليه‏".

وقال بعض الاكابر: "الحاسد لا ينال من المجالس الا مذمة وذلا، ولا من الملائكة الا لعنة وبغضا، ولا ينال من الخلق الا جزعا وغما، ولا ينال عند النزع الا شدة وهولا، ولا ينال عند الموقف الا فضيحة ونكالا". والاخبار والآثار في ذم الحسد اكثر من ان تحصى، وما ذكرناه يكفى لطالب الحق ثم ينبغي ان يعلم انه اذا اصاب النعمة كافر وفاجر وهو يستعين بها على تهيج الفتنة وايذاء الخلق وافساد ذات البين، فلا مانع من كراهتها عليه وحب زوالها منه، من حيث انها آلة للفساد، لا من حيث انها نعمة.

المنافسة والغبطة

قد علمت ان المنافسة هي تمنى مثل ما للمغبوط، من غير ان يريد زواله عنه، وليست مذمومة، بل هي في الواجب واجبة، وفي المندوب مندوبة وفي المباح مباحة. قال الله سبحانه: ﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ 7.

و عليها يحمل قول النبي-صلى الله عليه وآله-: "لا حسد الا في اثنين: رجل آتاه الله مالا، فسلطه على ملكه في الحق. ورجل آتاه الله علما، فهو يعمل به ويعلمه الناس‏": اى لا غبطة الا في ذلك، سميت الغبطة حسدا كما يسمى الحسد منافسة، اتساعا لمقارنتهما. وسبب الغبطة حب النعمة التي للمغبوط، فان كانت امرا دينيا فسببها حب الله وحب طاعته، وان كانت دنيوية فسببها حب مباحات الدنيا والتنعم فيها. والاول لا كراهة فيه بوجه، بل هو مندوب اليه. والثاني وان لم يكن حراما، الا انه ينقص درجته في الدين، ويحجب عن المقامات الرفيعة، لمنافاته الزهد والتوكل والرضا.

ثم الغبطة لو كانت مقصورة على مجرد حب الوصول الى ما للمغبوط لكونه من مقاصد الدين والدنيا، من دون حب مساواته له وكراهة نقصانه عنه، فلا حرج فيه بوجه، وان كان معه حب المساواة وكراهة التخلف والنقصان، فهنا موضع خطر. اذ زوال النقصان اما بوصوله الى نعمة المغبوط وبزوالها عنه، فاذا انسدت احدى الطريقتين تكاد النفس لا تنفك عن شهوة الطريقة الاخرى. اذ يبعد ان يكون انسان مريدا لمساواة غيره في النعمة فيعجز عنها، ثم لا ينفك عن ميل الى زوالها، بل الاغلب ميله اليه، حتى اذا زالت النعمة عنه كان ذلك عنده اشهى من بقائها عليه، اذ بزوالها يزول نقصانه وتخلفه عنه. فان كان بحيث لو القى الامر اليه ورد الى اختياره لسعى في ازالة النعمة عنه، كان حاسدا حسدا مذموما وان منعه مانع العقل من ذلك السعى، ولكنه وجد من طبعه الفرح والارتياح بزوال النعمة عن المغبوط، من غير كراهة لذلك ومجاهدة لدفعه فهو ايضا من مذموم الحسد، وان لم يكن في المرتبة الاولى، وان كره ما يجد في طبعه من السرور والانبساط بزوال النعمة بقوة عقله ودينه، وكان في مقام المجاهدة لدفع ذلك عن نفسه، فمقتضى الرحمة الواسعة ان يعفى عنه، لان دفع ذلك ليس في وسعه وقدرته الا بمشاق الرياضيات.

اذ ما من انسان الا ويرى من هو فوقه من معارفه واقاربه في بعض النعم الالهية، فاذا لم يصل الى مقام التسليم والرضا، كان طالبا لمساواته له فيه وكارها عن ظهور نقصانه عنه. فاذا لم يقدر ان يصل اليه، مال طبعه بلا اختيار الى زوال النعمة عنه، واهتز وارتاح به حتى ينزل هو الى مساواته. وهذا وان كان نقصا تنحط به النفس عن درجات المقربين، سواء كان من مقاصد الدنيا والدين، الا انه لكراهته له بقوة عقله وتقواه، وعدم العمل بمقتضاه، يعفى عنه ان شاء الله، وتكون كراهته لذلك من نفسه كفارة له.

و قد ظهر من تضاعيف ما ذكر: ان الحسد المذموم له مراتب اربع:

الاولى-ان يحب زوال النعمة عن المحسود وان لم تنتقل اليه، وهذا اخبث المراتب واشدها ذما.

الثانية-ان يحب زوالها لرغبته في عينها، كرغبته في دار حسنة معينة، وامراة جميلة بعينها، ويحب زوالها من حيث توقف وصوله اليها عليه، لا من حيث تنعم غيره بها. ويدل على تحريم هذه المرتبة وذمها قوله تعالى:﴿ وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ 8.

الثالثة-
الا يشتهى عينها، بل يشتهى لنفسه مثلها، الا انه ان عجز عن مثلها احب زوالها عنه، كيلا يظهر التفاوت بينهما، ومع ذلك لو خلى وطبعه، اجتهد وسعى في زوالها.

الرابعة-كالثالثة، الا انه ان اقتدر على ازالتها منعه قاهر العقل وغيره من السعى فيه، ولكنه يهتز ويرتاح به من غير كراهة من نفسه لذلك الارتياح.

و الغبطة لها مرتبتان:

الاولى-ان يشتهى الوصول الى مثل ما للمغبوط، من غير ميل الى المساواة وكراهة للنقصان، فلا يحب زوالها عنه.

الثانية-ان يشتهى الوصول اليه مع ميله الى المساواة وكراهته للنقصان، بحيث لو عجز عن نيله، وجد من طبعه حبا خفيا لزوالها عنه وارتاح من ذلك ادراكا للمساواة ودفعا للنقصان، الا انه كان كارها من هذا الحب، ومغضبا على نفسه لذلك الارتياح، وربما سميت هذه المرتبة ب (الحسد المعفو عنه) وكانه المقصود من قوله-صلى الله عليه وآله-: "ثلاث لا ينفك المؤمن عنهن: الحسد، والظن، والطيرة... ثم قال: وله منهن مخرج، اذا حسدت فلا تبغ-اى ان وجدت في قلبك شيئا فلا تعمل به، وكن كارها له-و اذا ظننت فلا تحقق، واذا تطيرت فامض‏".

بواعث الحسد

بواعث الحسد سبعة:

الاول- خبث النفس وشحها بالخير لعباد الله. فانك تجد في زوايا العالم من يسر ويرتاح بابتلاء العباد بالبلايا والمحن، ويحزن من حسن حالهم وسعة عيشهم. فمثله اذا وصف له اضطراب امور الناس وادبارهم، وفوات مقاصدهم وتنغص عيشهم، يجد من طبعه الخبيث فرحا وانبساطا وان لم يكن بينه وبينهم عداوة ولا رابطة، ولم يوجب ذلك تفاوتا في حاله من وصوله الى جاه ومال وغير ذلك. واذا وصف عنده حسن حال عبد من عباد الله وانتظام اموره، شق ذلك عليه، وان لم يوجب ذلك نقصا في شي‏ء مما له. فهو يبخل بنعمة الله على عباده من دون قصد وغرض، ولا تصور انتقال النعمة اليه، فيكون ناشئا عن خبث نفسه ورذالة طبعه. ولذا يعسر علاجه، لكونه مقتضى خباثة الجبلة، وما يقتضيه الطبع والجبلة تعسر ازالته، بخلاف ما يحدث من الاسباب العارضة.

الثاني- العداوة والبغضاء. وهي اشد اسبابه، اذ كل احد-الا اوحدي من المجاهدين-اذا اصابت عدوه بلية فرح بذلك، اما لظنها مكافاة من الله لاجله، ولحبه طبعا ضعفه وهلاكه. ومهما اصابته نعمة ساءه ذلك، لانه ضد مراده، وربما تصور لاجله انه لا منزلة له عند الله حيث لم ينتقم من عدوه وانعم عليه، فيحزن لذلك.

الثالث- حب الرئاسة وطلب المال والجاه. فان من غلب عليه حب التفرد والثناء، واستقره الفرح بما يمدح به من انه وحيد الدهر وفريد العصر في فنه، من شجاعة وعلم وعبادة وصناعة وجمال وغير ذلك، لو سمع بنظير له في اقصى العالم ساءه ذلك، وارتاح بموته وزوال النعمة التي يشاركه فيها، ليكون فائقا على الكل في فنه، ومتفردا بالمدح والثناء في صفته.

الرابع- الخوف من فوت المقاصد. وذلك يختص بمتزاحمين على مقصود واحد، فان كل واحد، منهما يحسد صاحبه في وصوله هذا المقصود طلبا للتفرد به، كتحاسد الضرات في مقاصد الزوجية. والاخوة في نيل المنزلة في قلب الابوين توصلا الى مالهما، والتلامذة لاستاذ واحد في نيل المنزلة في قلبه، وندماء الملك وخواصه في نيل المنزلة والكرامة عنده، والوعاظ والفقهاء المتزاحمين على اهل بلدة واحدة في نيل القبول والمال عندهم، اذا كان غرضهم ذلك.

الخامس- التعزز: وهو ان يثقل عليه ان يترفع عليه بعض اقرانه ويعلم انه لو اصاب بعض النعم يستكبر عليه ويستصغره، وهو لا يطيق ذلك لعزة نفسه، فيحسده لو اصاب تلك النعمة تعززا لنفسه. فليس غرضه ان يتكبر، لانه قد رضى بمساواته، بل غرضه ان يدفع كبره.

السادس- التكبر: وهو ان يكون في طبعه الترفع على بعض الناس ويتوقع منه الانقياد والمتابعة في مقاصده، فاذا نال بعض النعم خاف الا يحتمل تكبره ويترفع عن خدمته، وربما اراد مساواته والتفوق عليه، فيعود مخدوما بعد ان كان خادما، فيحسده في وصول النعمة لاجل ذلك وقد كان حسد اكثر الكفار لرسول الله-صلى الله عليه وآله-من هذا القبيل، حيث قالوا: كيف يتقدم علينا غلام فقير يتيم؟ ﴿ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ 9.

السابع- التعجب:
وهو ان يكون المحسود في نظر الحاسد حقيرا والنعمة عظيمة، فيعجب من فوز مثله بمثلها، فيحسده ويحب زوالها عنه ومن هذا القبيل حسد الامم لانبيائهم، حيث قالوا: ﴿مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا 10. ﴿ فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَ11. ﴿ وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ ‏12. فتعجبوا من فوز من هو مثلهم برتبة الوحي والرسالة، وحسدوه بمجرد ذلك، من دون قصد تكبر ورئاسة وعداوة وغيرها من اسباب الحسد.

و قد تجتمع هذه الاسباب واكثرها في شخص واحد، فيعظم لذلك حسده، وتقوى قوة لا يقدر معها على المجاملة، فتظهر العداوة بالمكاشفة.

و ربما قوى الحسد بحيث‏يتمنى صاحبه ان يزول عن كل احد ما يراه له من النعمة، وينتقل اليه. ومثله لا ينفك عن الجهل والحرص، اذ هو يتمنى استجماع جميع النعم والخيرات الحاصلة لجميع الناس له، ولا ريب في استحالة ذلك، ولو قدر امكانه لا يمكنه الاستمتاع بها، فلو لم يكن حريصا لم يتمن ذلك اصلا، ولو كان عالما لدفع هذا التمنى بقوته العاقلة.

(تنبيه)
بعض الاسباب المذكورة، كما يقتضي ان يتمنى زوال النعمة والسرور به كذلك يقتضي تمنى حدوث البلية والارتياح منه. الا ان المعدود من الحسد هو الاول، والثاني معدود من العداوة. فالعداوة اعم منه، اذ هي تمنى وقوع مطلق الضرر بالعدو، سواء كان زوال نعمة وحدوث بلية. والحسد تمنى زوال مجرد النعمة.

لا تحاسد بين علماء الآخرة والعارفين

الاسباب المذكورة انما تكثر بين اقوام تجمعهم روابط يجتمعون لاجلها في مجالس المخاطبات ويتواردون على الاغراض، فاذا خالف بعضهم بعضا في غرض من اغراضه، ابغضه وثبت فيه الحقد، فعند ذلك يريد استحقاره والتكبر عليه، ويكون في صدد مكافاته على المخالفة لغرضه، ويكره تمكنه من النعمة التي توصله الى اغراضه، فيتحقق الحسد. ولذا ترى انه لا تحاسد بين شخصين في بلدتين متباعدتين، لعدم رابطة بينهما، الا اذا تجاورا في محل واحد، وتواردا على مقاصد تظهر فيها مخالفة بينهما فيحدث منهما التباغض، وتثور منه بقية اسباب الحسد. وترى كل صنف يحسد مثله دون غيره، لتواردهما على المقاصد، وتراحمهما على صنعة واحدة فالعالم يحسد العالم دون العابد، والتاجر يحسد التاجر دون غيره، الا بسبب آخر سوى الاجتماع على الحرفة، وهكذا يغم من اشتد حرصه على حب الجاه واحب الصيت والاشتهار في جميع اطراف العالم وشاق التفرد بما هو فيه، فانه يحسد كل من في العالم ممن يشاركه في الفن الذى يتفاخر به.

ثم منشا جميع ذلك حب الدنيا، اذ منافعها لضيقها وانحصارها تصير محل التزاحم والتعارك، بحيث لا يمكن وصول منفعة منها، كمنصب ومال الى احد الا بزوالها عن الآخر. واما الآخرة، فلا ضيق فيها، فلا تنازع بين اهلها. ومثالها في الدنيا العلم، فانه منزه عن المزاحمة، فمن يحب العلم بالله وصفاته وافعاله ومعرفة النظام الجملى من البدو الى النهاية لم يحسد غيره اذا عرف ذلك ايضا. اذ العلم لا يضيق عن كثرة العالمين، والمعلوم الواحد يعرفه الف الف عالم، ويفرح كل واحد منهم بمعرفته ويلتذ به، ولا ينقص مالديه بمعرفة غيره، بل يحصل بكثرة العارفين زيادة الانس وثمرة الافادة والاستفادة. اذ معرفة الله بحر واسع لا ضيق فيه، وكل علم يزيد بالانفاق وتشريك غيره من ابناء النوع، يصير منشا لزيادة اللذة والبهجة، وقس على العلم التقرب والمنزلة عند الله وغيرهما من النعم الاخروية. فان اجل ما عند الله من النعم واعلى مراتب المنزلة والقرب عنده تعالى لذة لقائه، وليس فيها ممانعة ومزاحمة، ولا يضيق بعض اهل اللقاء على بعض، بل يزيد الانس بكثرتهم.

و قد ظهر مما ذكر: انه لا تحاسد بين علماء الآخرة، لانهم يلتذون ويبتهجون بكثرة المشاركين في معرفة الله وحبه وانسه، وانما يقع التحاسد بين علماء الدنيا، وهم الذين يقصدون بعلمهم طلب المال والجاه. اذ المال اعيان واجسام، اذا وقعت في يد واحد خلت عنها ايدى الآخرين. والجاه ملك القلوب، واذا امتلا قلب شخص بتعظيم عالم، انصرف عن تعظيم الآخر، ونقص عنه لا محالة، فيكون ذلك سببا للتحاسد. واما اذا امتلا قلبه من الابتهاج بمعرفة الله، لم يمنع ذلك من ان يمتلى‏ء غيره به.

فلو ملك انسان جميع ما في الارض، لم يبق بعده مال يملكه غيره لضيقه وانحصاره. واما العلم فلا نهاية له، ومع ذلك لو ملك انسان بعض العلوم لم يمنع ذلك من تملك غيره له.

فظهر ان الحسد انما هو في التوارد على مقصود مضيق عن الوفاء بالكل، فلا حسد بين العارفين ولا بين اهل العليين، لعدم ضيق ومزاحمة في المعرفة ونعيم الجنة، ولذا قال الله سبحانه فيهم: ﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ 13. بل الحسد من صفات المسجونين في سجن السجين.

فيا حبيبي، ان كنت مشفقا على نفسك، طالبا لعمارة رمسك، فاطلب نعمة لا مزاحمة فيها، ولذة لا مكدر لها. وما هي الا لذة معرفة الله وحبه وانسه، والانقطاع الى جناب قدسه، وان كنت لا تلتذ بذلك، ولا تشتاق اليه، وتنحصر لذاتك بالامور الحسية والوهمية، فاعلم ان جوهر ذاتك معيوب، وعن عالم الانوار محجوب، وعن قريب تحشر مع البهائم والشياطين، وتكون مغلولا معهم في اسفل السافلين. ومثلك في عدم درك هذه اللذة، مثل الصبى والعنين في عدم درك لذة الوقاع. فكما ان هذه اللذة يختص بادراكها رجال اصحاء، فكذلك لذة المعرفة يختص بادراكها: ﴿رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ14.

و لا يشتاق غيرهم اليها، اذ الشوق بعد الذوق، فمن لم يذق لم يعرف، ومن لم يعرف لم يشتق، ومن لم يشتق لم يطلب، ومن لم يطلب لم يدرك، ومن لم يدرك كان مطرودا عن العليين، ممنوعا عن مجاورة المقربين، محبوسا مع المحرومين في اضيق دركات السجين.﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ‏15.

علاج الحسد

لما علم ان الحسد من الامراض المهلكة للنفوس، فاعلم ان امراض النفوس لا تداوى الا بالعلم والعمل. والعلم النافع لمرض الحسد ان تعرف انه يضرك في الدين والدنيا، ولا يضر محسودك فيهما، بل ينتفع به فيهما.

و مهما عرفت ذلك عن بصيرة وتحقيق، ولم تكن عدو نفسك لا صديق عدوك، فارقت الحسد.

واما انه يضر بدينك ويؤدى بك الى عذاب الابد وعقاب السرمد فلما علمت من الآيات والاخبار الواردة في ذمه وعقوبة صاحبه، ولما عرفت من كون الحاسد ساخطا لقضاء الله تعالى، وكارها لنعمه التي قسمها لعباده، ومنكرا لعدله الذى اجراه في ملكه. ومثل هذا السخط والانكار لايجابه الضدية والعناد لخالق العباد، كاد ان يزيل اصل التوحيد والايمان فضلا عن الاضرار بهما. على ان الحسد يوجب الغش والعداوة بالمؤمن، وترك نصيحته وموالاته وتعظيمه ومراعاته ومفارقة انبياء الله واوليائه في حبهم الخير والنعمة له، ومشاركة الشيطان واحزابه في فرحهم بوقوع المصائب والبلايا عليه، وزوال النعم عنه. وهذه خبائث في النفس، تاكل الحسنات كما تاكل النار الحطب.

واما انه يضرك في الدنيا، لانك تتالم وتتعذب به، ولا تزال في تعب وغم وكد وهم، اذ نعم الله لا تنقطع عن عباده ولا عن اعدائك، فانت تتعذب بكل نعمة تراها لهم، وتتالم بكل بلية تنصرف عنهم، فتبقى دائما مغموما محزونا، ضيق النفس منشعب القلب، فانت‏باختيارك تجر الى نفسك ما تريد لاعدائك ويريد اعداؤك لك. وما اعجب من العاقل ان يتعرض لسخط الله ومقته في الآجل، ودوام الضرر والالم في العاجل فيهلك دينه ودنياه من غير جدوى وفائدة. واما انه لا يضر المحسود في دينه ودنياه فظاهر، لان النعمة لا تزول عنه بحسدك. اذ ما قدره الله من النعم على عباده لا بد ان يستمر الى وقته ولا ينفع التدبير والحيلة في دفعه، لا مانع لما اعطاه ولا راد لما قضاه: "لكل اجل كتاب‏". "و كل شي‏ء عنده بمقدار".

ولو كانت النعم تزول بالحسد، لم تبق عليك وعلى كافة الخلق نعمة، لعدم خلوك وخلوهم عن الحسد، بل لم تبق نعمة الايمان على المؤمنين، اذ الكفار يحسدونهم، كما قال الله سبحانه: "ودت طائفة من اهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون الا انفسهم وما يشعرون‏".

ولو تصورت زوال النعمة عن محسودك بحسدك، وعدم زوالها عنك بحسد حاسدك، لكنت اجهل الناس واشدهم غباوة. نعم، ربما صار حسدك منشا لانتشار فضل المحسود، كما قيل: واذا اراد الله نشر فضيلة، اتاح لها لسان حسود فاذا لم تزل نعمته بحسدك، لم يضره في الدنيا، ولا يكون عليه اثم في الاخرة.

واما انه ينفعه في الدين، فذلك ظاهر من حيث كونه مظلوما من جهتك، (لا) سيما اذا اخرجك الحسد الى ما لا ينبغي من القول والفعل كالغيبة، والبهتان، وهتك ستره، وافشاء سره، والقدح فيه، وذكر مساويه. فتحتمل بهذه الهدايا التي تهديها اليه بعضا من اوزاره وعصيانه وتنقل شطرا من حسناتك الى ديوانه، فيلقاك يوم القيامه مفلسا محروما عن الرحمة، كما كنت تلقاه في الدنيا محروما عن النعمة. فاضفت له نعمة الى نعمة، ولنفسك نقمة الى نقمة.

واما انه ينفعه في الدنيا، فهو ان اهم اغراض الناس مساءة الاعداء وسوء حالهم، وكونهم متالمين معذبين. ولا عذاب اشد مما انت فيه من الم الحسد. فقد فعلت‏ بنفسك ما هو غاية مراد حسادك في الدنيا. واذا تاملت هذا، عرفت ان كل حاسد عدو نفسه، وصديق عدوه. فمن تامل في ذلك، وتذكر ما ياتي من فوائد النصيحة وحب الخير والنعمة للمسلمين، ولم يكن عدو نفسه، فارق الحسد البتة.

واما العمل النافع فيه، فهو ان يواظب على آثار النصيحة التي هي ضده، بان يصمم على ان يكلف نفسه بنقيض ما يقتضيه الحسد من قول وفعل، فان بعثه الحسد على التكبر عليه، الزم نفسه التواضع له، وان بعثه على غيبته والقدح فيه، كلف لسانه المدح والثناء عليه، وان بعثه على الغش والخرق بالنسبة اليه، كلف نفسه بحسن البشر واللين معه، وان بعثه على كف الانعام عنه، الزم نفسه زيادته. ومهما فعل ذلك عن تكلف وكرره وداوم عليه، انقطعت عنه مادة الحسد على التدريج. على ان المحسود اذا عرف منه ذلك طاب قلبه واحبه، واذا ظهر حبه للحاسد زال حسده واحبه ايضا، فتتولد بينهما الموافقة، وترتفع عنهما مادة المحاسدة وهذا هو المعالجة الكلية لمطلق مرض الحسد. والعلاج النافع لكل نوع منه، ان يقمع سببه، من خبث النفس وحب الرئاسة والكبر وعزة النفس وشدة الحرص وغير ذلك مما ذكر، وعلاج كل واحد من هذه الاسباب ياتي في محله.

تنبيه

القدر الواجب في نفي الحسد

اعلم ان مساواة حسن حال العدو وسوء حاله، وعدم وجدان التفرقة بينهما في النفس، ليست مما تدخل تحت الاختيار. فالتكليف به تكليف بالمحال. فالواجب في نفي الحسد وازالته هو القدر الذي يمكن دفعه، وبيان ذلك-كما اشير اليه-ان الحسد:

(اولا) اما يبعث صاحبه على اظهاره بقول وفعل، بحيث‏يعرف حسده من آثاره الاختيارية، ولا ريب في كونه مذموما محرما، وكون صاحيه عاصيا آثما، لا لمجرد آثاره الظاهرة التي هي الغيبة والبهتان مثلا، اذ هي افعال صادرة عن الحسد، محلها الجوارح، وليست عين الحسد، اذ هو صفة للقلب لا صفة للفعل، ومحله القلب دون الجوارح، قال الله سبحانه: "و لا يجدون في صدوهم حاجة مما اوتوا". وقال: "و دوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء". وقال: "ان تمسسكم حسنة تسؤهم‏".

فلو كان الاثم على مجرد افعال الجوارح، لم يكن اصل الحسد الذى هو صفة القلب معصية، والامر ليس كذلك، فيكون عاصيا لنفس الحسد الذي فى قلبه ايضا، اعني ارتياحه بزوال النعمة مع عدم كراهة ذلك من نفسه. والاثم حقيقة على عدم كراهته وعدم مقته وقهره على نفسه لهذا الارتياح الذي يجده منها، لكونه اختياريا ممكن الزوال، لا على نفس الارتياح والاهتزاز، لما اشير اليه من انه طبيعي غير ممكن الدفع لكل احد فهذا القسم من الحسد اشد انواعه، لترتب معصيته على اصله، واخرى على ما يصدر عنه من آثاره المذمومة.

(ثانيا) اولا يبعثه على اظهاره بالآثار القولية والفعلية، بل يكف ظاهره عنها، الا انه بباطنه يحب زوال النعمة من دون كراهة في نفسه لهذه الحالة. ولا ريب في كونه مذموما محرما ايضا، لانه كسابقه بعينه ولا فرق الا في انه لا تصدر منه الاثار الفعلية والقولية الظاهرة، فهو ليس بمظلمة بحسب الاستحلال منها، بل معصية بينه وبين الله، لان الاستحلال انما هو من الافعال الظاهرة الصادرة من الجوارح.

(ثالثا) اولا يبعثه على الاثار الذميمة الظاهرة، ومع ذلك يلزم قلبه كراهة ما يترشح منه طبعا من حب زوال النعمة، حتى انه يمقت نفسه ويقهرها على هذه الحالة التي رسخت فيها. والظاهر عدم ترتب الاثم عليه اذ تكون كراهته التى من جهة العقل في مقابلة الميل من جهة الطبع، فقد ادى الواجب عليه. واصل الميل الطبيعي لا يدخل تحت الاختيار غالبا، اذ تغير الطبع بحيث‏يستوى عنده المحسن والمسي‏ء، وعدم التفرقة بين ما يصل منهما اليه من النعمة والبلية، ليس شريعة لكل وارد. نعم من تنور قلبه بمعرفة ربه، واشرقت نفسه باضواء حبه وانسه، وصار مستغرقا بحب الله تعالى مثل الشكران الواله، واستشعر بالارتباط الخاص الذي بين العلة والمعلول، والاتحاد الذي بين الخالق والمخلوق، وعلم انه اقوى النسب والروابط، ثم تيقن بان الموجودات باسرها من رشحات وجوده، والكائنات برمتها صادرة عن فيضه وجوده، وان الاعيان الممكنة متساوية في ارتضاع لبان الوجود من ثدى واحدة، والحقائق الكونية غير متفاوتة في شرب ماء الرحمة والجود من مشرع الوحدة الحقيقية-فقد ينتهى امره الى الا تلتفت نفسه الى تفاصيل احوال العباد، بل ينظر الى الكل بعين واحدة، وهي عين الرحمة، ويرى الكل عبادا لله وافعاله، ويراهم مسخرين له، فلا ينظر الى شي‏ء بعين السخط والمساءة، وان ورد منه ما ورد من السوء والبلية، لانه ينظر اليه من حيث هو حتى يظهر التفاوت بل من حيث انتسابه اليه سبحانه، والكل فى الانتساب اليه سواء.

ثم من الناس من ذهب الى انه لا اثم على الحسد ما لم تظهر آثاره على الجوارح، وعلى هذا ينحصر الحسد المحرم في القسم الاول. واحتج على ما ذهب اليه بما ذكرناه من قوله-صلى الله عليه وآله-: "ثلاث لا ينفك المؤمن عنهن: الحسد... "، وبقوله-صلى الله عليه وآله-: ثلاث في المؤمن له منهن مخرج، ومخرجه من الحسد الا يبغي‏" والصحيح ان تحمل امثال هذه الاخبار على القسم الثالث، وهو ما يكون فيه ارتياح النفس بزوال النعمة طبعا مع كراهة له من جهة العقل والدين، حتى تكون هذه الكراهة في مقابلة حب الطبع. اذ اخبار ذم الحسد تدل بظاهرها على ان كل حاسد آثم، والحسد عبارة عن صفة القلب لا عن الافعال الظاهرة. وعلى هذا المذهب، لا يكون اثم على صفة القلب، بل انما يكون على مجرد الافعال الظاهرة على الجوارح.

ففد اتضح بما ذكر، ان الاحوال المتصورة لكل احد بالنسبة الى اعدائه ثلاثة: الاولى: ان يحب مساعتهم، ويظهر الفرح بمساءتهم بلسانه وجوارحه، ويظهر ما يؤذيهم قولا وفعلا، وهذا محظور محرم قطعا، وصاحبه عاص آثم جزما. الثانية: ان يحب مساعتهم طبعا، ولكن يكره حبه لذلك بعقله، ويمقت نفسه عليه، ولو كانت له حيلة في ازالة ذلك الميل لازاله. وهذا معفو عنه وفاقا، وفاعله غير آثم اجماعا. الثالثة: وهى ما بين الاوليين: ان يحسد بالقلب من غير مقته لنفسه على حسده، ومن غير افكار منه على قلبه، ولكن يحفظ جوارحه عن صدور آثار الحسد عنها، وهذا محل الخلاف. وقد عرفت ما هو الحق فيه.

* جامع السعادات / العلامة النراقي _ فصل في الحسد.


1- النساء، الاية: 53.
2- البقرة، الآية: 109.
3- آل عمران، الآية: 130.
4- في بعض نسخ (الكافي): "ليتاذى‏" وفي نسخ (جامع السعادات) "لياتي باي‏" ورجحنا نسخة (الوسائل) و(البحار) كما في المتن.
5- (البحار): 3 مج 15 131-132باب الحسد. (الكافي): باب الحسد. (سفينة البحار): 1 250.
6- هذا الخبر في (مصباح الشريعة): الباب 51، وصححناه عليه.
7- المطففين، الآية: 26.
8- النساء، الآية: 31.
9- الزخرف، الآية: 31.
10- يس، الآية: 15.
11- المؤمنون، الآية: 48.
12- المؤمنون، الآية: 34.
13- الحجر، الآية: 47.
14- النور، الآية: 37.
15- الزخرف، الآية: 36.

2016-01-12