يتم التحميل...

سورة الحشر

تفسير الكتاب المبين

سورة الحشر

عدد الزوار: 27

(1): ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ... : المخلوقات بالكامل تسبِّح لخالقها بدلالتها عليه، وتقدم بالحرف الواحد في أول سورة الحديد.

(2): ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ: نزلت هذه السورة في يهود بني النضير، وكانوا في حصونهم بضاحية المدينة، ولما هاجر النبي (ص) إليها صالحوه على أن يقفوا على الحياد، لا له ولا عليه، ثم نقضوا العهد، فحاصرهم النبي (ص) وضيَّق عليهم الخناق حتى صالحوه على أن يخرجوا من حصونهم وديارهم، فخرجوا منها وتفرقوا في البلاد ﴿لِأَوَّلِ الْحَشْرِ: أي هذا أول جلاء وطرد لليهود من المدينة﴿مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُو: ما توقعتم أيها المسلمون أن يخرج بنو النضير من ديارهم، ويتركوها لأعدائهم﴿وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ: وأيضًا ما دار في خلد بني النضير أن يقهروا لكثرة عدتهم ومنعة حصونهم ﴿فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُو: وكثيرًا ما يؤخذ المتحصِّن من حصنه والآمن من مأمنه ﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ: من هيبة رسول الله وعظمته، فاستسلموا لأمره رهبة وجزعًا من غير قتال ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ: هدم يهود بني النضير ما بنوا قبل الجلاء والرحيل ظنًا به على المسلمين، أما نسبة الهدم إلى المؤمنين فلأنهم السبب الموجب له وللجلاء ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ: بهذا المصير فإن دائرة السوء لا بد ان تدور على رأس من لجَّ في الغي وتمادى في البغي.

(3): ﴿وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء: على يهود بني النضير النفي من ديارهم لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَ: بالقتل الإستئصال كما فعل بيهود بني قريظة، أما عذابهم في الآخرة فهو أشد وطأة وتنكيلًا.

(4): ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ: ما عذب سبحانه اليهود في الدنيا، ويعذبهم في الآخرة إلا لأنهم يعاندون كل حق، ويرفضون كل خير إلا أن يكون لهم وحدهم غير شريك.

(5): ﴿مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ: اللينة: النخلة، قطع المسلمون بعضًا من نخيل بني النضير للتضييق عليهم، فقالوا للنبي(ص): انك تنهى عن الفساد، فنزلت هذه الآية، ومعناها أن ما قطع من النخيل نكاية بالناكثين وما ترك منها من غير قطع فهو بأمره تعالى ليغيظ به من عاند وتمرد.

(6): ﴿وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ: أي من الكفار المحاربين للإسلام والمسلمين، و(ما) في قوله تعالى:وما أفاء الله- اسم موصول ﴿فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ: (ما) في قوله: فما أوجفتم عليه- نافية، ومعنى أوجفتم عليه عملتم عليه، والمراد بالركاب الإبل، وقد بيَّن سبحانه وحدد في كلامه هذا معنى الفيء في دينه وشريعته بأنه المال الذي يؤخذ بلا قتال وجهاد، من الكفار المحاربين للإسلام والمسلمين، وأموال بني النضير هي من الفيء، ولكن لها حكم خاص وهو ان تكون خالصة لرسول الله (ص) وحده ولا تقسم على الجيش كالغنائم التي تؤخذ بقتال وجهاد، أما الفيء من غير أموال بني النضير فله حكم آخر، ويتضح بقوله تعالى:

(7): ﴿مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ: المراد بأهل القرى هنا غير بني النضير، والمعنى أن الذين كفروا - من غير بني النضير- إذا أعلنوا الحرب على الإسلام والمسلمين، ثم استسلموا من غير قتال - فلا تقسم أموالهم على الجيش قسمة الغنيمة بل هي فيء، خالصة لله ورسوله وقرباه من مؤمني بني هاشم، أما اليتامى والمساكين وابن السبيل وهو المنقطع عن وطنه- فقال الأمامية: المراد بهم من كان من بني هاشم دون غيرهم، وعند المذاهب الأربعة العموم والشمول لبني هاشم وغيرهم ﴿كَيْ لَا يَكُونَ: مال الفيء ﴿دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ: أي متداولًا فيما بينهم ولا يصل منه شيء إلى الفقراء كما كانت الحال في الجاهلية حيث كان الأمراء والأغنياء يتصرفون في الفيء بمحض الشهوات والأهواء ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُو: يقول سبحانه: اعملوا بالقرآن، فإن لم تجدوا فيه النص على ما تريدون فارجعوا إلى السنة النبوية، والشرائع الوضعية على هذا المبدأ، قال السنهوري في شرح القانون المدني: (نصت المادة الأولى على أنه إذا لم يوجد نص شرعي حكم القاضي بمقتضى العرف، فإذا لم يوجد فبمقتضى المبادئ الإسلامية، فإذا لم توجد فبمقتضى مبدأ القانون الطبيعي وقواعد العدالة).

(8): ﴿لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ: من مكة إلى المدينة نصيب من فيء أهل القرى أيضًا لأنهم ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ: لا لشيء إلا لوقوفهم مع الحق وإعلان كلمة الإسلام وتضحيتهم في سبيله ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ: إيمانًا وقولًا وعملًا، وبهؤلاء المهاجرين وأمثالهم من الأنصار استقام الإسلام، وانتشر في شرق الأرض وغربها، ولا بدع فإن قائدهم محمد، ولن تكون الأمة فاسدة وقائدها صالحًا، كما لا تكون صالحة وقائدها فاسدًا، وإذا وجدت فئة فاسدة في عهد الحاكم الصالح فاعلم أن الكلمة لأهل الصلاح، والعكس بالعكس، هذا إذا كان الحكم للحرية والإختيار لا للحديد والنار.

(9): ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ: المراد بالذين الأنصار، وتبوؤا: سكنوا، والدار: دار الهجرة وهي المدينة، والإيمان مفعول لفعل محذوف أي وأخلصوا الإيمان، ومن قبلهم أي من قبل أن يهاجر إليهم المهاجرون، وقد أثنى سبحانه على الأنصار بأنهم ﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُو: قدم المهاجرون من مكة إلى المدينة، فأحسن الأنصار استقبالهم في الحب والبذل والمساواة، وكان النبي (ص) يخص المهاجرين بالغيمة كلاَّ أو بعضًا، لأنهم غرباء في المدينة، ولا يملكون شيئًا على الإطلاق، وكان الأنصار يرضون عن ذلك، ولا يجدون في أنفسهم أي شيء بل ويرونه حقًا وعدلًا ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ: فاقة، والمعنى يفضلون غيرهم على أنفسهم في الشيء الذي يحتاجون إليه أشد الحاجة وبتعبير الآية 8 من الإنسان (ويطعمون الطعام على حبه) ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ: الشح لغة: أشد البخل، والمراد به هنا البخل بالخير والمعروف، لأن كلمة الشح في الآية جاءت بعد الإشارة إلى الذين يؤثرون على أنفسهم، وفي الحديث: لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدًا.

(10): ﴿وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا... : جاء في التفاسير أن المراد بالذين جاءوا من بعد الصحابة، التابعون لهم بإحسان أخدًا بقرينة السياق، ومع هذا فإن الثناء يعم ويشمل كل من سار بسيرة الصحابة إلى يوم القيامة.

(11): ﴿أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا... : هذه الآية نزلت في رأس المنافقين عبد الله بن أُبي وجماعته حيث بعثوا إلى يهود بني النضير، وقالوا لهم: اثبتوا في قتال محمد والصحابة، ونحن عليهم معكم، وإن جلاكم محمد عن المدينة نزحنا عنها ولا نفارقكم، ولن نسمع من أحد يأمرنا أو ينصحنا بالتخلي عنكم ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ: إن المنافقين ﴿لَكَاذِبُونَ: في قولهم هذا.

(12): ﴿لَئِنْ أُخْرِجُو: يهود بني النضير ﴿لَا يَخْرُجُونَ: المنافقون ﴿مَعَهُمْ: بل يقبعون في بيوتهم ﴿وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ: إذا وقعت الحرب بين المؤمنين ويهود بني النضير فالمنافقون يخذلون هؤلاء حتى ولو قاتلوا معهم فستكون الهزيمة للإثنين معًا لا محالة.

(13): ﴿لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ: اليهود والمنافقون يخافون من القوة ويفهمون بلغتها فقط، ولا يخافون من الله وعذابه في اليوم الآخر، لأنهم أجهل الناس بالله وعظمته، وعلى أساس الخوف منكم ومن قوتكم أيها المؤمنون تستر المنافقون بكلمة الإسلام وإعلانها.

(14): ﴿لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ: أو من وراء جدار، اليهود جبناء في الحرب لا ينازلون المسلمين وجهًا لوجه، بل يلوذون بالجدران والحصون، ويرشقون بالنبال والأحجار ﴿بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى: إنهم منحلون متخاذلون، وإن تظاهروا بالإلفة والمحبة.

(15): كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ: إن حال يهود بني النضير الذين نصبوا العداء لرسول الله تمامًا كحال غيرهم من أعدائه حيث انتهوا إلى الخزي والهوان.

(16): ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ: قال المنافقون ليهود بني النضير: قاتلوا محمدًا، ونحن معكم في القتال والجلاء، ولما نزل بهم البلاء اختفى المنافقون في أوكارهم تمامًا كالشيطان يغري الإنسان بالرذيلة حتى إذا فعلها تنكر له وأنكر عليه، وتقدم في الآية 48 من الأنفال.

(17): ﴿فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَ: عاقبة الخادع والمخدوع في جهنم وساءت مصيرًا.

(18): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ: بفعل ما أمر وترك ما زجر، بخاصة كف الأذى عن الناس ﴿وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ: لا تُقدم نفس على ربها نقية ومرضية إلا بمغالبة الهوى والكف عما نهى ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ: وأشقى الناس إطلاقًا من فرح بما خفي من عيوبه، والله خبير بها وعليم.

(19) - (20): ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ: وهم الذين يذكرونهم بألسنتهم، ويعصونه بأعمالهم ﴿فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ: نسوا ما أمرهم الله به، وأمنوا ماحذَّرهم منه، فصرفهم عن كل عمل يعود عليهم بالخير والصلاح، فجاء الجزاء من جنس العمل (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين- 5 الصف).

(21): ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ: وكان له حس وشعور ﴿لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ: هذا كناية عن عظمة القرآن في عظته، وقسوة الإنسان في غلظته، ومن لا يتأثر بنصيحة الله فبأي شيء يتأثر؟ ولا شيء أوضح في الدلالة على عظمة القرآن من الذي أنزله جلَّ وعزَّ.

(22) - (24): ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ: وحده المعبود الحق ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ: يعلم ما غاب عن الخلق وما شاهدوه ﴿هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ: من الرحمة والإحسان ﴿الْمَلِكُ: غني في ذاته وصفاته، ولا غنى لغيره عنه ﴿الْقُدُّوسُ: تنزه عما لا يليق بالخالق الرازق ﴿السَّلَامُ: والأمان للصالحين المخلصين﴿الْمُؤْمِنُ: من الإيمان بمعنى التصديق مثل (وما أنت بمؤمن لنا أي بمصدق، والله سبحانه يصدق عباده المؤمنين ما وعدهم من الثواب ﴿الْمُهَيْمِنُ: بالإشراف على كل شيء ﴿الْعَزِيزُ: الذي لا يُقهر ﴿الْجَبَّارُ: تنفذ مشيئته بالقهر والإجبار ﴿الْمُتَكَبِّرُ: له الكبرياء والعظمة ﴿الْبَارِئُ: الخالق على غير مثال كما قيل﴿الْمُصَوِّرُ: خالق الصور والأشكال ﴿لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى: كل ما ينسب إليه تعالى ويحكي صفة من صفاته الجلى فهو حسن وجميل وعظيم وجليل. وتقدم في الآية 180 من الأعراف.


* التفسير المبين / العلامة الشيخ محمد جواد مغنية.

2015-12-10