مصادر التشريع (البيان الشرعي والإجماع)
علم الأصول
تقدّم أنّ عمليّة الاستنباط تتألّف من عناصر مشتركة وعناصر خاصة، وأنّ علم الأصول هو العلم بالعناصر المشتركة في علميّة الاستنباط، حيث تُدرس فيه هذه العناصر وتحدّد وتنظم. وما دام علم الأصول هو العلم الذي يتكفّل بدراسة تلك العناصر فمن الطبيعيّ أن يبرز هذا السؤال:
عدد الزوار: 328
تمهيد:
تقدّم أنّ عمليّة الاستنباط تتألّف من عناصر مشتركة وعناصر خاصة، وأنّ علم الأصول
هو العلم بالعناصر المشتركة في علميّة الاستنباط، حيث تُدرس فيه هذه العناصر وتحدّد
وتنظم. وما دام علم الأصول هو العلم الذي يتكفّل بدراسة تلك العناصر فمن الطبيعيّ
أن يبرز هذا السؤال:
ما هي وسائل الإثبات التي يستخدمها علم الأصول، لكي يثبت بها حجيّة الخبر أو
حجيّة الظهور العرفيّ، أو غير ذلك من العناصر المشتركة في عمليّة الاستنباط؟
وبعبارةٍ أخرى، ما هي الأدوات وما هي المصادر التي يعتمد عليها الأصوليّ لإثبات
القواعد العامّة والمشتركة في عمليّة الاستنباط؟
وسائل الإثبات أو مصادر التشريع:
يستخدم علم الأصول وسيلتين رئيستين، وهما:
1- البيان الشرعيّ (الكتاب والسنّة).
2- الإدراك العقليّ.
ولا يمكن لأيّ قاعدةٍ أن تكتسب صفة العنصر المشترك في عمليّة الاستنباط، ما لم يمكن
إثباتها بإحدى هاتين الوسيلتين الرئيستين، فإذا حاول الأصوليّ مثلاً أن يدرس حجيّة
الخبر لكي يدخله في عمليّة الاستنباط- إذا كان حجّة- يطرح على نفسه السؤال التالي:
هل يمكن إثبات هذا العنصر المشترك ببيانٍ شرعيٍّ أو بإدراكٍ عقليٍّ؟ وبعبارةٍ أخرى،
هل يوجد بيانٌ شرعي أو عقليّ يدلّ على حجيّة الخبر؟
ويحاول الأصوليّ الإجابة على هذا السؤال وفقاً للمستوى الذي يتمتّع به من الدقّة
والانتباه، فإذا لم يجد وسيلةً شرعيّةً ولا عقليّة يثبت بها حجيّة الخبر، فهذا يعني
أنّه استبعد الخبر عن نطاق الاستنباط، حيث لم يثبت أنّه عنصرٌ مشتركٌ. وأمّا إذا
وجد وسيلةً واستطاع إثبات حجيّة الخبر ببيانٍ شرعيٍّ أو عقليٍّ، فهذا يعني دخولها
في عمليّة الاستنباط بوصفها عنصراً أصوليّاً مشتركاً.
والمتتبّع للعناصر المشتركة والقواعد الأصوليّة يجد أنّ بعضها قد تمّ إثباته بوسيلة
البيان الشرعيّ، من قبيل حجيّة الخبر، وحجية الظهور العرفيّ، وبعضاً آخر قد أُثبت
بالإدراك العقليّ، من قبيل القانون القائل: "إن الفعل لا يمكن أن يكون واجباً
وحراماً في وقتٍ واحدٍ".
الوسيلة الأوّلى، البيان الشرعيّ:
البيان الشرعيّ هو إحدى الوسيلتين الرئيستين لإثبات العناصر التي تساهم في
عمليّة الاستنباط. ونقصد بالبيان الشرعيّ ما يلي:
1- الكتاب الكريم: وهو القرآن الذي أنزل بمعناه ولفظه على سبيل الإعجاز
وحياً على أشرف المرسلين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم. ولا تنحصر الآيات
القرآنيّة بالأحكام الشرعيّة، بل تطرّق القرآن الكريم إلى مئاتٍ من المواضيع
المتنوّعة والمختلفة. وقد أحصى العلماء الآيات القرآنيّة الخاصّة بالأحكام فبلغت
خمسمائة آيةٍ تقريباً، اشتهرت بآيات الأحكام. وقد صنّف العلماء كتباً عديدةً حول
هذه الآيات، أشهرها كتاب (كنز العرفان) للفاضل المقداد السيوريّ المتوفي سنة 826
هـ.
وكتاب (زبدة البيان في تفسيرآيات الأحكام) للمقدّس الأردبيليّ المتوفي سنة 993 ه-،
كما صنّف علماء السنّة كتباً حول هذه الآيات أيضاً.
والقرآن الكريم يعتبر المصدر الأساس للأحكام الشرعيّة، وللقواعد العامّة والعناصر
المشتركة التي يتمسّك بها الأصوليّ والفقيه في عمليّة الاستنباط، عند جميع
المسلمين، ما عدا فرقةٍ واحدةٍ عُرفت بالأخباريّين، فإنّها لم تجِز رجوع عامّة
الناس إلى القرآن الكريم1، ويأتي الحديث عنهم إن شاء الله.
2- السنّة: وهي كلّ بيانٍ صادرٍ من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو أحد
الأئمّة المعصومين عليهم السلام. والبيان الصادر عنهم ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
أ- قول المعصوم: وهو الكلام الذي يتكلّم به المعصوم عليه السلام.
ب- فعل المعصوم: وهو كلّ فعلٍ يصدر عن المعصوم عليه السلام.
ج- تقرير المعصوم: وهو سكوته عليه السلام عن وضعٍ معيّنٍ، بنحوٍ يكشف عن رضاه بذلك
الوضع وانسجامه مع الشريعة.
ويجب الأخذ بكلّ هذه الأنواع من البيان الشرعيّ. وإذا دلّ شيءٌ منها على عنصرٍ
مشتركٍ من عناصر عمليّة الاستنباط، ثبت ذلك العنصر المشترك واكتسب طابعه الشرعيّ.
الخلاف في السنّة:
لم يقع أيّ خلافٍ في حجيّة السنّة النبويّة، قولاً وفعلاً وتقريراً، وإنّما وقع
الخلاف بين مدرسة الخلفاء ومدرسة أهل البيت عليهم السلام في السنّة المرويّة عن أهل
البيت عليهم السلام، حيث ذهب أتباع هذه المدرسة للتمسّك بالسنّة المرويّة عن أهل
البيت عليهم السلام أيضاً، مستندين في ذلك إلى بعض الآيات القرآنيّة، والأحاديث عن
الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم المتواترة من الطرفين، منها قوله: " إنّي
تاركٌ فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إنْ تمسّكتم بهما لن تضلّوا
بعدي أبداً"2.
كما أنّ السنّة المرويّة عن المعصوم عليه السلام على نحوين:
قطعيّة وظنيّة، أما القطعيّة فلم يقع فيها خلافٌ، وإنما الخلاف وقع في السنّة
الظنيّة. وقد اصطلح على هذا النحو الأخير من السنّة بالخبر الواحد. ووقع خلافٌ في
أنّه هل يجوز الاعتماد على السنّة الظنيّة؟ وبعبارةٍ أخرى هل أخبار الآحاد حجّة؟
وبمجرّد القول بصحّة الاعتماد على هذه الأخبار، تطرح أسئلةٌ كثيرةٌ، من قبيل إلى
أيّ مدى يصحّ الاعتماد عليها؟ فهل يعتمد على الحديث الصحيح فقط، أو الموثق أيضاً،
أو الضعيف كذلك؟ ومن هنا يفتح باب علم الرجال على مصراعيه لدراسة ومعرفة أحوال
الرجال، الواقعين في سلسلة سند الحديث، ومعرفة العادل منهم، والثقة، والضعيف، وغير
ذلك3.
الإجماع:
وهو يعني اتفاق آراء علماء المسلمين على مسألةٍ، فهل يمكن أن يعتبر الإجماع- بهذا
المعنى- وسيلة إثباتٍ للعناصر المشتركة في عمليّة الاستنباط؟ وهل يمكن أن يعتبر
أيضاً مدركاً ومصدراً للأحكام الشرعيّة؟
والخلاف في الإجماع كان شديداً للغاية، حيث ترى مدرسة الخلفاء أصالةً للإجماع بما
هو إجماعٌ، لأنّ اتفاق أهل الحلّ والعقد على مسألةٍ، يعني أنّهم قد أصابوا الصواب،
ولا يمكن لهم جميعاً الخطأ. نعم لو لم يكن هناك إجماعٌ فإمكان الخطأ واردٌ بحقّ
البعض، وأمّا لو اتفق جميع علماء المسلمين فلا يتصوّر في حقّهم جميعاً الخطأ، لذلك
تتعامل هذه المدرسة مع الإجماع معاملة الوحي المنزل، وكأنّ حكم المجمعين هو حكم
الله الذي لا يقبل الخطأ.
بينما مدرسة أهل البيت عليهم السلام، لا ترى للإجماع- بنفسه أيّ بما هو إجماعٌ- أيّ
أصالةٍ واعتبارٍ وأهميّةٍ. نعم لقد اعتبروا الإجماعَ حجّةً، ويمكن الاعتماد عليه،
اتفاقهم هذا يكشف عن تلقّيهم للمسألة المتّفق عليها من قبل المعصوم عليه السلام،
فلا خصوصيّة للإجماع بما هو إجماع، وإنّما العبرة برأي المعصوم عليه السلام الذي
يكشف عنه الإجماع، وبعبارةٍ أخرى، يمكن القول: إنّ الإجماع يكشف مضمون روايةٍ عن
المعصوم عليه السلام غير مكتوبةٍ، ولكن قد مارسها المسلمون عمليّاً، فهي موجودةٌ في
سلوكهم، ومُعاشةٌ في تصرّفهم.
ففي كلا المدرستين يعتبر الإجماع حجّةً، لكنّ الفارق بينهما جوهريٌّ، فمدرسة
الخلفاء تقول إنّ الإجماع أصالةً هو الحجّة، وأمّا مدرسة أهل البيت عليهم السلام
فتقول: إنّ الإجماع أصالةً ليس حجّةً، وإنّما هو حجّةٌ لكاشفيّته عن رأي المعصوم4
عليه السلام.
* علم الاصول، سلسلة مداخل العلوم ، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1- يقول الأخباريّون
بأنّه لا يجوز لعامّة الناس الرجوع إلى ظواهر القرآن؛ لأنّه لا يفهمه إلا من خوطب
به وهو المعصوم عليه السلام ، وعلى عامّة الناس أن يرجعوا إلى الأخبار والأحاديث
الواردة عن المعصوم عليه السلام فقط.
2- راجع: مسند أحمد بن حنبل (ت: 241 هـ)/ دار صادر، بيروت ـ لبنان/ ج3 ص 14 و 17.
وج 4 ص 371. وج 5 ص 182 و 189. عبد الله بن بهرام الدارميّ (ت: 255 هـ): سنن
الدارميّ/ مطبعة الاعتدال، دمشق ـ سوريا/ ط. 1349 هـ/ ج 2 ص 432.ومسلم النيسابوري:
( ت: 261): صحيح مسلم/ دار الفكر، بيروت ـ لبنان، ج 7 ص 123.
3- وأمّا الأخباريّون: فلأجل أنّ كلّ اعتمادهم على الحديث والروايات لم يرق لهم
تقسيم الحديث إلى صحيحٍ وضعيفٍ وموثّقٍ، بل اعتبروا أنّ جميع الأحاديث معتبرةٌ، لا
سيما الموجودة في الكتب الأربعة: (الكافي، ومن لا يحضره الفقيه، والتهذيب،
والاستبصار).
4- وأمّا الأخباريّون فلم يعتبروا الإجماع من مصادر التشريع، ولم يعوّلوا عليه،
ورفضوا الاعتماد عليه؛ لأنّه من مبتدعات أبناء العامّة.