ردّ المظالم
زاد عاشوراء
روي أنّ قائلاً قال بحضرة أمير المؤمنين عليه السلام: استغفر الله فقال له عليه السلام: "ثكلتك أمّك! أتدري ما الاستغفار؟ إنّ الاستغفار درجة العلّيّين وهو اسم واقع على ستّة معان: أوّلها الندم على ما مضى، الثاني العزم على ترك العود إليه أبد
عدد الزوار: 464روي أنّ قائلاً قال بحضرة أمير المؤمنين عليه السلام: استغفر الله فقال له عليه السلام: "ثكلتك أمّك! أتدري ما الاستغفار؟ إنّ الاستغفار درجة العلّيّين وهو اسم واقع على ستّة معان: أوّلها الندم على ما مضى، الثاني العزم على ترك العود إليه أبد، والثالث أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم حتّى تلقى الله سبحانه ليس عليك تبعة، الرابع أن تعمد إلى كلّ فريضة عليك ضيّعتها فتؤدّي حقّه، والخامس أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتّى تلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد، والسادس أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية فعند ذلك تقول: استغفر الله!"1.
ردّ المظالم شرط في قبول التوبة:
قال الله تعالى:
﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ...﴾2.
لقد استخدم الله في هذه الآية صيغة المبالغة من اسم الفاعل تائب وهي توّاب وجعلها
على صيغة جمع المذكّر السالم. فالتوّاب معناه هو المبالغ في توبته الذي قد يكون
كثير التوبة بمعنى كثير الرجوع إلى ربّه عند الذنب طلباً للمغفرة والعفو والستر.
وقد يكون هو المبالغ بمعنى الشديد التحرّي لأعماله والشديد الطلب لوجوه التوبة منها،
فيتوب من صغيرها وكبيرها، ويكون في توبته متحرّياً أن تكون تامّة وكاملة بمعنى
واحدة لجميع شرائط الصحّة والقبول بل حتّى الكمال، وذلك لتكون تامّة الأثر من حيث
محوها للذنوب وإيجابها العفو والمغفرة بل إيجابها أكمل ثمارها وهي التحوّل من
مبغوضيّة المذنب على الله إلى درجة المحبوبيّة منه تعالى.
ولن يكون ذلك إلّا بفعل ما يمحوها من صحيفة الأعمال، ويزيلها من نفسه ومن نفوس
النّاس.
ولذا كان إضافة إلى ركنيها وهما: النّدم على الذنوب والعزم على تركها وعدم العود
إليها أبد، شرائط كمال وشرائط قبول ومن شرائط القبول منضمّاً إلى أداء حقّ الخالق
أداء حقوق المخلوقين.
فقد يكون الذّنب المُرتَكَب هو مظلمة أوقعها الإنسان على أخيه الإنسان، فعليه
الخروج من هذه المظلمة بأداء حقّ المخلوق إليه.
لماذا علينا ردّ المظالم؟
والجواب إضافة إلى كونه شرطاً في قبول التوبة هو أنّ ظلم الإنسان لأخيه الإنسان من
الذنوب التي لا يغفرها الله، بل هي موكولة إلى صاحبها فإمّا أن يسامح فتغفر أو أن
لا يسامح فتبقى ويكون الاقتصاص يوم القيامة يوم ينادي الله تعالى الخلق: "أنا الله
لا إله إلّا أنا الحكم العدل الذي لا يجور، اليوم أحكم بينكم بعدلي وقسطي، لا يظلم
اليوم عندي أحد، اليوم آخذ للضعيف من القوي بحقّه ولصاحب المظلمة بالقصاص من
الحسنات والسيّئات وأثيب على الهبات ولا يجوز هذه العقبة عندي ظالم ولا أحد عنده
مظلمة إلّا مظلمة يهبها صاحبها وأثيبه عليها، وآخذ له بها عند الحساب فتلازموا
أيّها الخلائق واطلبوا مظالمكم عند من ظلمكم بها في الدّنيا وأنا شاهد لكم بها
عليهم وكفى بي شهيداً..."3.
فإذاً علينا أن نتخلّص من هذه المظالم قبل ذلك الموقف خصوصاً أنّها من الذنوب التي
أوكل أمرها إلى أصحابها روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: أنّه عندما سئل أن يبيّن
الذنوب المغفورة من غيرها قال: "أمّا الذنب المغفور فعبد عاقبه الله تعالى على ذنبه
في الدّنيا، فالله أحكم وأكرم من أن يعاقب عبده مرّتين، وأمّا الذي لا يغفر فمظالم
العباد بعضهم لبعض، إنّ الله تبارك وتعالى إذا برز لخلقه أقسم قسماً على نفسه فقال:
وعزّتي وجلالي لا يجوز في ظلم ظالم، ولو كفّ بكفّ ولو مسحة بكفّ... فيقتصّ الله
للعباد بعضهم من بعض حتّى لا يبقى لأحد عند أحد مظلمة، ثمّ يبعثهم إلى الحساب...
وأمّا الذنب الثالث، فذنب ستره الله على عبده ورزقه التوبة، فأصبح خاشعاً من ذنبه
راجياً لربّه، فنحن له كما هو لنفسه نرجو له الرحمة ونخاف عليه العقاب"4.
أنواع المظالم:
يمكن لنا أن نقسّم الظلم الواقع من بعضنا على بعضنا الآخر إلى قسمين رئيسيّين هما:
أ- المظالم المعنويّة:
والتي قد يسمّيها بعضهم نفسيّة، ومن أمثلتها الإهانة والتحقير والاستخفاف وإدخال
الحزن والأسى إلى الآخرين من خلال الألفاظ المسيئة والألقاب السيّئة والعبارات
النابية والجارحة، وأحياناً يكون ذلك بالمواقف السلبيّة كاللامبالاة وعدم القيام
بآداب ولياقات العلاقات الإنسانيّة، التي ندب إليها الإسلام أو أقرّها العرف وقد
ذكر القرآن منها التنابز بالألقاب والسخرية وغيرهما وهتك الأستار وكشف الأسرار
والتعيير وغير ذلك ولذا جاء في الروايات أنّه "من كسر مؤمناً فعليه جبره"5.
فتصحيح هذا اللون من الظلم يكون بردّ الاعتبار إلى المظلوم والاعتذار إليه وطلب
السماح والعفو.
ب - المظالم الماديّة:
وهي المظالم التي ينال بها البعض من مال غيره سواء بالسرقة أو الغصب ومنها حبس الحقّ
عنه والاستئثار عليه كما يحصل بين الشركاء في الإرث، وقد يكون بالحيلولة بين المرء
وماله، ومن مصاديق التعرّض لمال الآخرين إعابته بكسر أو غير ذلك ممّا يقلّل قيمته
أو يفقده فائدته.
ومنها التعرّض لجسد الإنسان الآخر ولو بخدش أو لطم سواء أوجد لوناً أو غيره، فإنّ
لذلك أثرين أحدهما نفسيّ ملحق بالأوّل، لأنّ في الضرب إهانة، أضف إلى الأثر الجسديّ
الذي قد يكون له دية ولا بد من لَفْتِ النظر إلى أنّ المظالم خصوصاً الماديّة
المتعلّقة بالمال تتعلّق بذمّة الإنسان حتّى ولو كان عند ارتكابه لها صغيراً دون سنّ
التكليف، فصحيح أنّه غير مكلّف ولا عقاب عليه من هذه الجهة إلّا أنّ ذمّته عندما
يبلغ تظلّ مشغولة لكونه ضامناً لما أتلف أو أعاب فلا بدّ له من ذلك.
بادر إلى ردّ المظالم:
على الإنسان الذي يريد أن يكون من زمرة التوّابين الذين يحبّهم الله أن يجدّ ويجتهد
في أداء حقوق النّاس، وردّ المظالم، فليعمد كلّ واحد منّا إلى أن يخلو بنفسه ليحاول
أن يحصي ما ظلم به غيره، ومن هم الذين ظلمهم من النّاس، فإن عرف المقدار والشخص
حاول إيصال الحقّ إليه، وإن عرف الشخص ولم يعرف المقدار عمل على التسامح منه
وإرضائه، وإن عرف المقدار ولم يعرف الشخص تصدّق بالمقدار عن نيّة صاحبه، وإن جهل
الأمرين حاول التخلّص بما يضمن به براءة ذمّته، ولذا نجد أنّه في ثقافتنا أنّ
الوصايا عادة ما تشتمل على بند يحمل عنوان ردّ المظالم، وهذا يحتاج إلى إذن الحاكم
الشرعيّ لأنّه من مجهول المالك.
خاتمة:
أحياناً قد يصعب علينا الاتصال بصاحب الحقّ لإعطائه حقّه أو طلب المسامحة منه لوجود
محذور يؤدّي إلى أمور خطيرة كإيجاد فتنة ما أو إيجاب قطيعة رحم فيمكن حينها البحث
عن وسيلة توصل حقّه إليه دون أن يتعرّف صاحب الحقّ على غاصب حقّه، وقد يكون أحياناً
سبب ذلك هو الخشية على المنزلة الاجتماعيّة للغاصب وكون ذلك موجباً للفضيحة والهتك
أمام النّاس، فحينها على الإنسان أن يوازن بين الأمرين ليرى أيّ الأمور أهمّ وأخطر.
لكن لنضع نصب أعيننا أنّه مهما كانت فضائح الدّنيا فإنّ فضيحة الآخرة أعظم، فضلاً
عن أن نجعل تواضعنا باعترافنا وإقرارنا للمظلوم بظلمنا له واعتذارنا له وذلّ موقفنا
أمامه وسيلة نربّي فيها أنفسنا ونريها عبره مآل ظلمها وتجاوزها حتّى لا تعود إلى
الظلم أبداً.
* كتاب زاد عاشوراء، إعداد معهد سيد الشهداء للمنبر الحسيني، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- نهج البلاغة، الموعظة رقم 417.
2- سورة البقرة، الآية 222.
3- الكافي، ج8، ص 104.
4- الكافي، ج 2، ص 443.
5- الكافي، ج 2، ص 45.