وجوه جميلة للبلاء
زاد عاشوراء
هو قانون وسنّة إلهيّة شاملة لكلّ النّاس طالما أنّهم في دار التكليف دار الدّنيا فالإنسان جُعل في دار الدّنيا لا لأجل الدّنيا فإنّ الدّنيا حياة ونشأة من نشآت الوجود الإنسانيّ يعبرها الإنسان في مدّة محدودة وقصيرة ليصير بعدها إلى دار مستقرّه ودار خلوده والدّار التي هي آخر منازله والمملوءة حياة
عدد الزوار: 382قال الله تبارك وتعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾1.
الاختبار والبلاء سنّة إلهيّة:
لقد وردت عبارة
﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾
وما في معناها كثيراً
في القرآن الكريم جاءت لتؤكّد بهذا التكرار أنّ الاختبار والامتحان هو قانون وسنّة
إلهيّة شاملة لكلّ النّاس طالما أنّهم في دار التكليف دار الدّنيا فالإنسان جُعل في
دار الدّنيا لا لأجل الدّنيا فإنّ الدّنيا حياة ونشأة من نشآت الوجود الإنسانيّ
يعبرها الإنسان في مدّة محدودة وقصيرة ليصير بعدها إلى دار مستقرّه ودار خلوده
والدّار التي هي آخر منازله والمملوءة حياة:
﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ
الْحَيَوَانُ﴾2.
ومن طبيعة الدّنيا أنّها حفّت بالشهوات والمكاره، وأنّ كونها كذلك لتلائم الحكمة من
خلق الإنسان.
فهذا النظام الذي اسمه الدّنيا والذي نسمّيه الكون يتّجه إلى نهايته وفنائه، فهو
منذ وجوده كان ليكون مؤقّتاً وإلى أجل مسمّى عند الخالق تعالى، وبعده سيكون عالم
آخر له نظامه المختلف، فهذا العالم غير قابل للبقاء والخلود فأولى أن لا يخلد ولا
يبقى فيه عمّاره وسكّانه والمستخلفون فيه، أمّا العالم الآخر فمعاييره ونظامه
تُلائم كونه دار خلود وبقاء، وعلاقته بهذه الدّنيا علاقة النتيجة بالسبب، فهنا
العمل وهناك الأثر، أي الجزاء الحقيقيّ، فالله قد ربط بين العالمين والنشأتين، من
جملتها أنّه أقام علائق بين العمل في الدّنيا والجزاء في الآخرة.
وعندما نتحدّث عن كون الدّنيا دار عمل وليست دار جزاء حقيقيّ فنعني بذلك أنّ
الدّنيا دار ليحصل الإنسان على أكمل وأفضل نتائج وجوده، فيها يحتاج إلى عمل وجهاد
وصبر وتضحيات ومعاناة وتحمّل ليكون من الرابحين والفائزين والمفلحين، ولعلّ الله
أشار إلى هذا بقوله:
﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا
وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾3.
فلسفة البلاء أو الاختبار الإلهيّ:
قد يتبادر إلى ذهن البعض نتيجة أنسه بالأعمال البشريّة والصفات المحدودة للبشر أنّ
من يختبر يهدف إلى رفع جهله والإبهام. إلّا أنّ ذلك ليس هو المراد عندما ينسب
الابتلاء إلى الله تعالى، لأنّه تعالى لا يعتريه جهل ولا يلفّ شيئاً دونه الغموض
والإبهام، فالأشياء والأفعال حاضرة عنده معلومة كما أنّها موجودة بل حتّى قبل
وجودها، وبالتالي فمعنى الابتلاء الإلهيّ للبشر هو تكليفهم بأمور الغرض منها إخراج
ما في نفوسهم من استعدادات وقابليّات حسنة إلى مقام الفعل أي لتصبح أفعالاً خارجيّة
لهم وصفات فعّالة في نفوسهم.
ولنقرّب المفهوم نقول: إنّ المزارع عندما ينثر البذور الصالحة في الأرض القابلة
للإنبات والصالحة إنّما يلقيها لكي تستفيد هذه البذور ممَّا تكتنزه الأرض من موادّ
تصلح لحياة هذه البذرة وصيرورتها نبتة تستفيد من هذا المخزون لتنمو وتزهر وتثمر،
لكن ذلك لا يحصل ما لم تصارع هذه البذرة كلّ المعوّقات لنموّها ونباتها وتتجاوز
الصعاب وتقاوم الحوادث التي تشكّل تحدّيات لوجودها ولنموّها كالرّياح والبرد
والحرارة المرتفعة.
فالبلاء هو وسيلة لتفجير طاقات البشر وتطوير قابليّاتهم ليترقوا في الدّنيا
ويتطوّروا، وكذلك ليبنوا أنفسهم بما يجعلهم من أهل الخلود في دار النعيم المقيم.
يقول عن ذلك أمير المؤمنين عليه السلام: "... وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم
ولكن لتظهر الأفعال التي بها تستحقّ الثواب والعقاب"4.
آثار وبركات البلاء:
قال تعالى:
﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ
فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾5 فهذه الآية تقول: إنّ البلاء والابتلاء
والاختبار كما يكون بما تكره النفوس وما يؤلمها وهو المفهوم عند النّاس كذلك يكون
بالمحبوب لها والمرغوب عندها من
نعم ومناصب. ولكنّ الله تعالى يقول: إنّ ذلك "فتنة" أي تمييزٌ للنّفوس، إذ إنّ بعض
النّفوس يزلزلها النعيم ويخرجها عن الصراط المستقيم، أو يربّي فيها الشكر ومعرفة
النّعمة والمنعم وأخرى بالعكس، وقد ذكرت الروايات آثاراً وبركات للبلاء والابتلاء
جمعتها الرواية التالية عن الإمام عليّ عليه السلام: "إنّ البلاء للظالم أدب
وللمؤمن امتحان وللأنبياء درجة"6.
ومن الآثار والبركات تفصيلاً:
1- في البلاء ألطاف خفيّة:
عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ بلاياه محشوّة بكراماته الأبديّة ومحنه مورثة
رضاه وقربه ولو بعد حين"7.
2- تربية وعناية إلهيّة لأجل التكامل:
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الله يغذّي عبده المؤمن بالبلاء كما تغذّي
الوالدة ولدها بالّلبن"8.
3- للتذكير به تعالى ولقمع التوثّب للكبر:
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "لولا ثلاثة في ابن آدم ما طأطأ رأسه شيء: المرض
والموت والفقر، وكلّهن فيه وإنّه لمعهن لوثّاب"9.
4- تمحيص الذنوب:
عن الإمام عليّ عليه السلام: "الحمد لله الذي جعل تمحيص ذنوب شيعتنا في الدّنيا
بمحنتهم لتسلم بها طاعتهم ويستحقّوا عليها ثوابها"10.
5 - لعدم الركون إلى الدّنيا والرغبة في لقاء الله تعالى:
عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "يقول الله عزَّ وجلَّ: يا دنيا تمرّري
على عبدي المؤمن بأنواع البلاء، وضيّقي عليه في معيشته ولا تحلولي فيركن إليك"11.
6- موجب لمحبّة الله وعلامة عليها:
عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ الله تبارك وتعالى إذا أحبّ عبداً غتّه بالبلاء
غتّاً وثجّه بالبلاء ثجّاً فإذا دعاه قال: لبّيك عبدي، لئن عجّلت لك ما سألت إنّي
على ذلك لقادر ولكن ادّخرت لك فما ادّخرت لك خير لك"12.
كيف ننجح في اختبار البلاء والمحن:
يحتاج الإنسان في مواجهة محن الحياة وبلاءاتها المتعاقبة إلى جملة أمور نختصرها
بالتالي:
1- عدم الغفلة عن حقيقة الدّنيا وكونها دار بلاء وعمل وليست دار نعيم، فلا يتوقّعنّ
منها غير ما وجدت لأجله.
2- الطمأنينة والثبات وعدم الجزع: قال تعالى:
﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم
مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ
عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُهْتَدُونَ﴾13.وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "نزلت أنفسهم منهم في البلاء كما نزلت في
الرخاء"14.
3- الصبر والتحمّل وصولاً إلى التسليم بل إلى حبّ تدبير الله.
عن الإمام الكاظم عليه السلام: "لن تكونوا مؤمنين حتّى تعدوا البلاء نعمة والرخاء
مصيبة وذلك أنّ الصبر عند البلاء أعظم من الغفلة عند الرخاء"15.
4- حسن الظنّ بالله تعالى: عن صادق أهل البيت عليهم السلام فيما أوصى الله لموسى
عليه السلام: "... وأنا أعلم بما يصلح عليه عبدي فليصبر على بلائي وليشكر نعمائي
وليرض بقضائي أكتبه في الصدّيقين عندي"16.
5- اغتنام الوقت والعمر: قال تعالى:
﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ
الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾17.
خاتمة: قدوة الصامدين:
يروى أنّه لمّا حمل عليّ بن الحسين عليه السلام إلى يزيد بن معاوية فأوقف بين يديه
قال يزيد لعنه الله:
﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ
أَيْدِيكُمْ﴾، فقال عليّ بن الحسين عليه السلام:
"ليست هذه الآية فينا، إنّ فينا
قول الله عزَّ وجلَّ:
﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي
أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا﴾"18.
انظر كيف يحاول الطاغية أن يستغلّ الفرصة لإسقاط الروح المعنويّة للإمام السجّاد
عليه السلام، وكيف يعطينا الإمام درساً في الثبات وعدم السقوط أمام محاولات الأعداء
أن يستغلّوا ما يصيبنا من مصائب ليهزمونا نفسيّاً ويسقطونا معنويّاً. والثبات
المعنويّ والنفسيّ نوع من أنواع الانتصار كما الانتصار المادّيّ.
* كتاب زاد عاشوراء، إعداد معهد سيد الشهداء للمنبر الحسيني، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- سورة الملك، الآية 2.
2- سورة العنكبوت، الآية 64.
3- سورة العنكبوت، الآية 2.
4- نهج البلاغة (الكلمات القصار)، رقم 93.
5- سورة الأنبياء، الآية 35.
6- مستدرك الوسائل، ج 2، ص 438.
7- بحار الأنوار، ج 75، ص 200.
8- بحار الأنوار، ج 78، ص 195.
9- الدعوات للراونديّ، ص 171.
10- بحار الأنوار، ج 64، ص 232.
11- بحار الأنوار، ج 69، ص 52.
12- الكافي، ج 2، ص 253.
13- سورة البقرة، الآيتان 156 و157.
14- نهج البلاغة، خطبة المتّقين.
15- بحار الأنوار، ج 64، ص 237.
16- الكافي، ج 2، ص 62.
17- سورة مريم، الآية 39.
18- سورة الحديد، الآية 22.