بناء البصيرة
زاد عاشوراء
حدّثنا أمير المؤمنين عن البصير من النّاس فقال: "فإنّما البصير من سمع فتفكّر، ونظر فأبصر، وانتفع بالعبر، ثمّ سلك جدداً واضحاً يتجنّب فيه الصرعة في المهاوي"
عدد الزوار: 522
حدّثنا أمير المؤمنين عن البصير من النّاس فقال: "فإنّما البصير من سمع فتفكّر،
ونظر فأبصر، وانتفع بالعبر، ثمّ سلك جدداً واضحاً يتجنّب فيه الصرعة في المهاوي"1.
أصحاب الحسين أصحاب البصائر:
ولقد شهد بذلك لهم أحد قادة جيش ابن سعد وابن زياد وهو من ألدّ أعداء الحسين عليه
السلام وأصحابه ألا وهو عمرو بن الحجّاج الزبيديّ حيث خاطب أصحابه قائلاً: أتدرون
من تقاتلون؟! تقاتلون فرسان المصر، وأهل البصائر، وقوماً مستميتين، لا يبرز لهم أحد
منكم إلّا قتلوه على قلّتهم2. فمن خصائص أصحاب الحسين عليه السلام أنّهم أصحاب
بصائر.
وقد أشار عدوّهم إلى أثر ذلك بأنّهم لا يهزمون بسرعة، بل يقاتلون حتّى الشهادة، وقد
أورثهم ذلك عزماً وقوّة بحيث لا يبرز إليهم أحد إلّا قتلوه!
وتجلّى ذلك كذلك في سقوط هيبة العدوّ وعدده وعدّته في أعينهم، فلم يعد مؤثّراً في
عزائمهم وعلوّ هممهم.
وكذلك هان الموت عليهم في سبيل المبدأ والقضيّة التي يقاتلون لأجله، لدرجة أنّ
أحدهم وهو عابس بن شبيب الشاكريّ يلقي درعه ومخفره لعلّ القوم يقدمون على منازلته
بعد أن أحجموا عن ذلك غير عابئ بسهام الأعداء ولا بحجارتهم ليستشهد بعدها بما أصابه
منها.
ما معنى البصيرة؟
البصيرة هي قوّة عند الإنسان توجد نوعاً من الرؤية الواضحة للأمور حسنها وقبيحها
جيّدها ورديئها صحيحها وسقيمها، وهي نظرة تنكشف بها للمتبصّر عواقب الأمور فيرى ما
وراء الأعمال نتيجة إعمال الفكر فيصبح على يقين منها كمن يعاينها، فإذاً البصيرة هي
قدرة على الرؤية الصحيحة التي يساعد في تشكلّها العقل والتجربة والتربية والعلم
والثقافة والتي يصطلح على تسميتها في هذا الزمن بالوعي.
فالذي يفقد البصيرة كالذي يفقد البصر، لأنّ من يفقد البصيرة يقع في ضعف بل الخطأ في
تشخيص الأمور، ولذا يخدعه الخادعون ويدلّس عليه المدلّسون، ويوقعه في الشبهات
المشبِّهون، فإذا كان فاقد البصر أعمى العين، فإنّ فاقد البصيرة أعمى القلب، وماذا
ينفع البصر مع عمى البصائر، قال الله تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ
وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾3.
كيف تُبنى البصيرة؟
هناك عدّة عوامل تسهم في بناء بصيرة الإنسان وتساهم كذلك في زيادة قوّتها
وفعاليته، ومنها:
1- قوّة العقل:
وهذا يحصل أوّلاً وبالذّات بالتعلّم والاستفادة من التجارب، والحجج والبيّنات
لإجراء عمليّة التفكّر بالاستفادة من العلم والتجربة. والحقيقة أنّ ما يقوّي العقل
هو إدامة التفكّر والتأنّي والتدبّر قبل أيّ عمل وبعده، أمّا قبله لمعرفة عواقبه
وإمّا بعده لحفظ التجربة ووعيها للاستفادة منها في المستقبل كتغذية راجعة للعقل
والفكر.
ولذا جاء عن الاستفادة من التجربة: "المؤمن لا يلدغ من جحر مرّتين"4.
2- التفقّه في الدّين:
عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام: "تفقهوا في دين الله، فإنّ الفقه مفتاح
البصيرة، وتمام العبادة والسبب إلى المنازل الرفيعة، والرتب الجليلة في الدّين
والدّنيا، وفضل الفقيه على العابد كفضل الشمس على الكواكب، ومن لم يتفقّه في دينه
لم يرض الله له عملاً"5.
والتفقّه في الدّين معناه معرفة العقائد الحقّة وأدلّتها التي تورث اليقين إضافة
إلى تعلّم الأحكام الشرعيّة. فإنّ ذلك يوسّع آفاق الإنسان ويقوّي عقله بقوّة يقينه.
3- المعرفة بالزمان وأهله:
لا شكّ أنّ جهل الإنسان بأخلاق وطبائع وعادات وأعراف أهل زمان ما ومكان ما قد يكون
سبباً في انخداع الإنسان، أو تشوّش الصورة عنده، والتباس الأمور عليه، بينما معرفة
الإنسان بالنّاس وعاداتهم وثقافاتهم وحتّى مفردات تخاطبهم وأفكارهم ومذاهبهم
الفكريّة والسياسيّة والعقائديّة وغير ذلك يحميه من الانخداع، وفي الحديث عن الصادق
عليه السلام: "العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس"6.
فاللوابس يقصد بها الأمور المبهمة والملتبسة التي تحصل نتيجة عدم وضوح الرؤية وغياب
القدرة على التشخيص، فإذا علم الإنسان بطبيعة الزمان وأهله، أي بالعصر ولغته
وثقافته وإيقاعه اتّضحت الرؤية وزال ما يشوب المشهد من ضباب، وانجلت أمام العقل
والفكر الصورة.
4- تعويد النّفس على التعامل مع الأدلّة والبراهين:
ذلك أنّ أصحاب البصائر يفترض أن يكونوا أصحاب عقول لا يحكمون إلّا عن دليل ولا
يتحرّكون إلّا عن وعي وفهم، ولذا لا يسلّمون ولا يقبلون بكلّ مقولة إلّا بعد الدليل
والبرهان، ولذا اشتهر على ألسنة علماء الشيعة وفي مدوّناتهم القول: "نحن أتباع
الدليل كيف ما مال نميل".
5- عدم الانخداع ببريق الأسماء ورنين البيان:
على الإنسان لكي يكتسب البصيرة أن لا يؤخذ بأسماء القائلين ولا بسحر البيان وخصوصاً
أساليب الترويج الذي يعتمده الإعلام المضلّل في هذا الزمان. وكلّ ذلك يمكن استفادته
ممّا روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "لا يعرف الحقّ بالرّجال، اعرف
الحقّ تعرف أهله"7.
6- تقوية الصلة بالله تعالى:
إذ إنّ الله تعالى هو مصدر كلّ النّعم ظاهرها وباطنها، صغيرها وجليلها والذي يقوّي
صلته به تعالى ويوثّقها يعني أنّه اقترب من مصدر كلّ خير وكلّ نعمة، وممّا لا شكّ
فيه ولا ريب أنّ من كان قريباً منه تعالى يفيض الله عليه من بركاته، وليس أفضل من
البصيرة معيناً للإنسان في دنياه وفي آخرته، فإنّ الإنسان في الدّنيا بالبصر وفي
الآخرة وأمورها بالبصيرة.
ومن جملة تقوية الصلة بالله تعالى، كلّ ألوان العبادة، والدعاء، والمناجاة، والحكيم
هو من قرن بين تقوية الصلة به تعالى وطلب أن يكون الأثر هو البصيرة في العبادة وفي
غيره، وهذا ما علّمنا إيّاه الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام إذ
إنّه كان من دعائه: "اللهمّ وثبّت في طاعتك نيّتي، وأحكم في عبادتك بصيرتي"8.
خاتمة: البصيرة ضمان حسن العاقبة:
ذلك أنّ البصيرة ترشد صاحبها إلى أن يسعى ليختم عمره بأفضل طريقة وأسلوب لتسلم له
الآخرة بعد أن ترشده البصيرة إلى السلامة من الدّنيا وهذا بعينه حسن العاقبة.
فما أشقى الإنسان الذي يعيش عمره وهو لا يبالي على أي جهة يكون وجهه حين مغادرته
لهذه الحياة وإلى أي جهة يساق، وقد حدّثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن
ذلك فقال: "لا يزال المؤمن خائفاً من سوء العاقبة، لا يتيقّن الوصول إلى رضوان الله
حتّى يكون وقت نزع روحه وظهور ملك الموت له"9.
فالبصيرة ضمان أن لا تزلّ قدم الإنسان إلى ما يوجب سوء الخاتمة والعاقبة.
* كتاب زاد عاشوراء، إعداد معهد سيد الشهداء للمنبر الحسيني، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- نهج البلاغة، الخطبة رقم 153.
2- بحار الأنوار، ج 45، ص 19.
3- سورة الحجّ، الآية 46.
4- بحار الأنوار، ج 19، ص 346.
5- بحار الأنوار، ج 75، ص 321.
6- الكافي، ج 1، ص 27.
7- بحار الأنوار، ج 40، ص 126.
8- الصحيفة السجّاديّة، دعاء التوبة، رقم 31.
9- مستدرك سفينة البحار، ج7، ص297.