الشبهة الأولى: هل تؤمن أيها الشيعي بالقضاء والقدر؟
شبهات وردود حول عاشوراء
إن الحزن والبكاء والتألم على المصيبة لا يتنافى مع الإيمان بالقضاء والقدر، لأن معنى الإيمان بالقضاء والقدر هو الرضا بما كتب الله سبحانه وعدم الاعتراض على ذلك بقول أو فعل، ولذلك نرى الله تعالى يشير إلى أن المؤمن يصيبه الحزن في هذه الدنيا،
عدد الزوار: 508
إن قلت: نعم. سأقول لك لماذا إذاً تضرب نفسك وتجلد ظهرك وتصرخ وتبكي على الحسين؟
وإن قلت: إنك لا تؤمن بالقضاء والقدر، انتهى الأمر باعتراضك على قضاء الله وعدم
رضاك بحكمته.
الجواب:
إن الحزن والبكاء والتألم على المصيبة لا يتنافى مع الإيمان بالقضاء والقدر، لأن
معنى الإيمان بالقضاء والقدر هو الرضا بما كتب الله سبحانه وعدم الاعتراض على ذلك
بقول أو فعل، ولذلك نرى الله تعالى يشير إلى أن المؤمن يصيبه الحزن في هذه الدنيا،
حيث يقول سبحانه حاكياً عن المؤمنين بعد دخولهم للجنة﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾
1. فإذاً
الحزن في هذه الدنيا يصيب حتى المؤمنين بالقضاء والقدر. ومن أمثلة ذلك:
1 - بكاء يعقوب على يوسف:
قال تعالى حاكيا حال نبيه يعقوب ﴿وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى
عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ﴾2.
قال الفخر الرازي في تفسيره: وقوله: (وابيضت عيناه من الحزن ) كناية عن غلبة البكاء.
والدليل على صحة هذا القول، أن تأثير الحزن في غلبة البكاء لا في حصول العمى، فلو
حملنا الابيضاض على غلبة البكاء كان هذا التعليل حسناً).3.
وقال القرطبي: وإنما ابيضت عيناه من البكاء.4.
قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن
كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرً﴾
5.
وكان البكاء على الميت وخاصة الشهيد من سنة الرسول.
2 - بكاء الرسول على زيد وجعفر وابن رواحة:
فقد روى البخاري في صحيحه: أن النبي نعى زيداً وجعفر وابن رواحة للناس قبل أن
يأتيهم خبرهم وقال: «أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذ جعفر فأصيب ثم أخذ ابن رواحة
فأصيب، وعيناه تذرفان...».6.
3 - بكاء الرسول على ابنه إبراهيم:
وفي صحيح البخاري: قال أنس: دخلنا مع رسول الله وإبراهيم يجود بنفسه فجعلت عينا
رسول الله تذرفان فقال له عبد الرحمن بن عوف (رضي الله عنه) وأنت يا رسول الله !
فقال يا ابن عوف إنها رحمة، ثم أتبعها بأخرى فقال: إن العين تدمع والقلب يحزن ولا
نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون... وفي سنن ابن ماجة: «فانكب
عليه وبكى».7.
4 - بكاء الرسول على حفيدة له:
في صحيح البخاري أن ابنة النبي أرسلت إليه: إن ابناً لي قبض فأتنا، فقام ومعه سعد
بن عبادة ورجال من أصحابه فرفع إلى رسول الله ونفسه تتقعقع ففاضت عيناه، فقال سعد
يا رسول الله ما هذا؟ فقال هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده وإنما يرحم الله من
عباده الرحماء.8.
5 - بكاء الرسول على قبر أمه حتى أبكى من حوله:
زار رسول الله قبر أمه فبكى وأبكى من حوله.9.
6 - بكاء النبي على عمه حمزة مع أنه سيد الشهداء:
لقد بكى النبي على عمّه حمزة وحثّ المسلمين على البكاء عليه.
قال ابن سعد: «لما سمع رسول الله بعد غزوة أحد البكاء من دور الأنصار على قتلاهم،
ذرفت عينا رسول الله وبكى وقال: (لكن حمزة لا بواكي له) فسمع ذلك سعد بن معاذ فرجع
إلى نساء بني عبد الأشهل فساقهنّ فدعا لهن. فلم تبك امرأة من الأنصار بعد ذلك إلى
اليوم على ميت إلاّ بدأت بالبكاء على حمزة، ثم بكت على ميّتها».10. ولم يتضمن هذا
الحديث فعل النبي فحسب، وإنما يتضمن تقريره وأمره بالبكاء أيضاً، كما يكتشف منه أن
البكاء على موتى المؤمنين في عصر الرسالة، قد شكّل ظاهرة تعاطاها المسلمون
آنذاك.11.
7 - عائشة تلطم:
هذا مع أن عائشة وبعض الصحابيات لطمن على رسول الله بعد وفاته كما روي ذلك عن عائشة
في مسند الإمام أحمد، أنها قالت: «مات رسول الله بين سحري ونحري، وفي دولتي لم أظلم
فيه أحداً، فمن سفهي وحداثة سنّي أن رسول الله قُبض وهو في حجري، ثم وضعت رأسه على
وسادة، وقمت ألتدم مع النساء، وأضرب وجهي».12.
ومعنى: «قمت ألتدم مع النساء» قمت ألطم وجهي.13.
8 - فاطمة تبكي النبي:
حدثنا موسى عن أبي عوانة حدثنا فراس عن عامر عن مسروق حدثتني عائشة أم المؤمنين
قالت: إنّا كنا أزواج النبي عنده جميعاً لم تغادر منا واحدة، فأقبلت فاطمة تمشي لا
والله ما تخفى مشيتها من مشية رسول الله فلما رآها رحب وقال مرحباً بابنتي ثم
أجلسها عن يمينه أو عن شماله ثم سارّها فبكت بكاء شديداً، فلما رأى حزنها سارّها
الثانية، فإذا هي تضحك. فقلت لها أنا من بين نسائه خصك رسول الله بالسر من بيننا ثم
أنت تبكين، فلما قام رسول الله سألتها عما سارّك قالت: ما كنت لأفشي على رسول الله
سره، فلما توفي قلت لها عزمت عليك بما لي عليك من الحق لما أخبرتني. قالت: أما الآن
فنعم فأخبرتني، قالت: أما حين سارّني في الأمر الأول فإنه أخبرني أن جبريل كان
يعارضه بالقرآن كل سنة مرة، وإنه قد عارضني به العام مرتين، ولا أرى الأجل إلا قد
اقترب فاتقي الله واصبري، فإني نعم السلف أنا لك قالت فبكيت بكائي الذي رأيت، فلما
رأى جزعي، سارّني الثانية قال: يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو
سيدة نساء هذه الأمة؟.14.
9 - حفصة تبكي اباها عمر بصوت مرتفع:
...وجاءت أم المؤمنين حفصة والنساء تسير معها فلما رأيناها قمنا، فولجت عليه فبكت
عنده ساعة واستأذن الرجال فولجت داخلاً لهم فسمعنا بكاءها من الداخل...15.
10 - بكاء النبي على الإمام الحسين:
فقد أخرج الهيثمي في مجمع الزوائد 9/188 عن أم سلمة قالت: كان رسول الله جالساً ذات
يوم في بيتي، قال: لا يدخل علي أحد. فانتظرت فدخل الحسين، فسمعت نشيج رسول الله
يبكي، فاطلعت فإذا حسين في حجره والنبي يمسح جبينه وهو يبكي، فقلت: والله ما علمت
حين دخل، فقال: إن جبريل كان معنا في البيت فقال: أفتحبه؟ قلت: أما في الدنيا فنعم،
قال: إن أمتك ستقتل هذا بأرض يقال لها: كربلاء، فتناول جبريل من تربتها. فأراها
النبي فلما أحيط بحسين حين قتل قال: ما اسم هذه الأرض؟ قالوا: كربلاء، فقال: صدق
الله ورسوله، كرب وبلاء.
قال ابن منظور: النشيج: أشد البكاء
قال الهيثمي: رواه الطبراني بأسانيد ورجال أحدها ثقات.
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: دخلت على النبي (وعيناه تفيضان) قلت يا نبي
الله أغضبك أحد؟ ما شأن عينيك تفيضان؟
قال قام من عندي جبريل قبل فحدثني أن الحسين يقتل بشط الفرات، وقال لي هل لك أن
أشمك من تربته؟ قلت: نعم. فمدّ يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها فلم أملك عيني أن
فاضتا.16.
فالنتيجة: أن الحزن والبكاء وما شابه ليس من الاعتراض على قضاء الله وقدره، بل هو
من المؤمن تسليم مطلق، وإنما ذلك الحزن والبكاء رحمة ورأفة ومحبة، وعدم البكاء
والحزن هو بغض وجلافة وقساوة، قست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة.
1- سورة فاطر، الآية 34.
2- سورة يوسف، الآية 84.
3- التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب «سورة يوسف» قوله تعالى وتولى عنهم وقال يا أسفى
على يوسف وابيضت عيناه من الحزن.
4- الجامع لأحكام القرآن «سورة يوسف » قوله تعالى وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف.
5- سورة الأحزاب، الآية 21.
6- صحيح البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي باب مناقب خالد بن الوليد.
7- صحيح البخاري كتاب الجنائز، باب قول النبي: إنا بك لمحزونون وصحيح مسلم، كتاب
الفضائل، باب رحمته بالصبيان والعيال. وسنن ابن ماجة، كتاب الجنائز، باب ما جاء في
النظر إلى الميت.
8- صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب قول النبي يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه
واللفظ له، وكتاب المرضى، باب عيادة الصبيان.
9- صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب قول النبي يعذب الميت ببكاء أهله عليه، كتاب
الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه.
10- الطبقات الكبرى - الجزء: (2) - رقم الصفحة: (44). وغيره الكثير من المصادر
فراجع مسند احمد ومستدرك الحاكم والمعجم الكبير للطبراني ونيل الاوطار للشوكاني
والسيرة النبوية لابن كثير واسد الغابة والكامل في التاريخ لابن الاثير والسيرة
النبوية لابن هشام وغير ذلك من المصادر.
11- قال ابن عبد البر في ترجمة حمزة من الاستيعاب، لما رأى النبي حمزة قتيلا بكى،
فلما رأى ما مثل به شهق.
12- قال الألباني: وإسناده حسن. (إرواء الغليل 7/86).
13- قال الجوهري في الصحاح 5/2028: ولَدَمَتِ المرأةُ وجهها: ضربته... والْتِدامُ
النساء: ضربهُنَّ صدورهن في النِياحة. وقال ابن منظور في لسان العرب: والتَدَمَ
النساءُ: إِذا ضربْنَ وُجوهَهنّ في المآتم، واللَّدْمُ: الضرْبُ، والتِدامُ النساء
من هذا، واللَّدْمُ واللّطْمُ واحدٌ، والالْتِدامُ الاضْطراب، والْتِدامُ النساء:
ضَرْبهُنّ صُدورَهنّ ووجوهَهن في النِّياحة. (لسان العرب 12/539).
14- صحيح البخاري - كتاب الاستئذان - باب من ناجى بين يدي الناس ومن لم يخبر بسر
صاحبه فإذا مات أخبر به ورواه مسلم في صحيحه - كِتَاب فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ - دعا
فاطمة ابنته فسارها فبكت ثم سارها فضحكت الصحابة يبكون عند موت النبي: راجع البخاري
حيث قال: فنشج الناس يبكون، صحيح البخاري - كتاب فضائل الصحابة - من أنفق زوجين من
شيء من الأشياء في سبيل الله دعي من أبواب يعني الجنة.
15- صحيح البخاري - كتاب فضائل الصحابة - باب قصة البيعة والاتفاق على عثمان بن
عفان وفيه مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
16- رواه أحمد 648 وصححه العلامة أحمد شاكر في تخريج المسند وصححه الألباني وقال
الهيثمي في مجمع الزوائد فقال رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني ورجاله ثقات.