يتم التحميل...

خلق آدم عليه السلام

نهج البلاغة

ثمّ جمع سبحانه من حزن الأرض وسهلها، وعذبها وسبخها، تربة سنّها بالماء حتّى خلصت. ولاطها بالبلَّة حتّى لزبت. فجبل منها صورة ذات أحناء ووصول وأعضاء وفصول. أجمدها حتّى استمسكت، وأصلدها حتّى صلصلت.

عدد الزوار: 376

خلق آدم عليه السلام ثمّ جمع سبحانه من حزن الأرض وسهلها

(ثمّ جمع سبحانه من حزن الأرض وسهلها، وعذبها وسبخها، تربة سنّها بالماء حتّى خلصت. ولاطها بالبلَّة حتّى لزبت. فجبل منها صورة ذات أحناء ووصول وأعضاء وفصول. أجمدها حتّى استمسكت، وأصلدها حتّى صلصلت. لوقت معدود. وأمد معلوم. ثمّ نفخ فيها من روحه فمثلت إنسانا ذا أذهان يجيلها. وفكر يتصرّف بها، وجوارح يختدمها، وأدوات يقلَّبها، ومعرفة يفرق بها بين الحقّ والباطل والأذواق والمشامّ والألوان والأجناس. معجونا بطينة الألوان المختلفة، والأشباه المؤتلفة، والأضداد المتعادية والأخلاط المتباينة. من الحرّ والبرد. والبلَّة والجمود).

حول آدم

افتتح الإمام عليه السلام خطبته هذه بحمد اللَّه وتمجيده، ونفي صفات المصنوعين عنه، ثم أشار إلى مبدأ الخلق، وأصل الكون المسبوق بالعدم، ثم إلى خلق الملائكة.. وهو يشير الآن إلى أصل الانسان الأول، من أي شيء خلق وكيف تم خلقه وكما تكلم الناس عن الكون وحقيقته وأصله وعمره وأطواره فقد تكلموا أيضا عن أصل الانسان وكنهه وتطوره، وكم مضى عليه من السنين في هذه الأرض ووضعوا في ذلك الكتب والأسفار، ومع هذا لم يعرفوا عنه إلا القليل.. وصدق من قال: "ان علم الانسان بنفسه ما يزال محدودا، وربما استطاع أن يعرف عن غيره من الكائنات أكثر مما يعرفه عن أسرار نفسه".

ولنفترض - وان بعد الفرض - ان الانسان يستطيع أن يعرف حقيقته على أتمها جسما وروحا فإنه لا يستطيع ولن يستطيع أن يعرف كيف تم خلق أبيه الأول.. وان ادعى ذلك مدعى طالبناه بالدليل وسألناه: هل دليله التجربة وبالبداهة ان التجربة تعتمد وتقوم على المجهر والتحليل الكيماوي، وأين هو الانسان الأول حتى يراه الباحثون على شريحة المجهر، أو يحللوا في مختبراتهم أعضاءه والعناصر التي تألفت منها هذه الأعضاء.. أو ان المدعي يستدل بالعقل.. وليس من شك ان معرفة العقل بأصل الانسان وكيف تم خلقه تماما كمعرفته باسم والدي وحسبه ونسبه، وبقامته طولا وعرضا.

أو يستند المدعي إلى الحفريات.. وقد أعلن أهل الاختصاص أن أحدث الحفريات تقول: ان الانسان كان موجودا على وجه هذه الأرض منذ مليون سنة على التقريب.. وبالبداهة ان هذا شيء، وأصل الانسان شيء آخر.. وحتى الآن ما تجرأ أحد على الزعم بأنه عثر على رفات آدم أبي البشر وحطامه.. أو أن المدعي يعتمد النقل والرواية.. والشرط الأول في النقل أن يروي ما رأت العين وشاهدت، وأية عين رأت خلق جدها وأبيها، بل أية عين رأت خلق نفسها بالذات: "أشهدوا خلقهم - 19 الزخرف".. "أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون - 35 الطور".

وإذن لا سبيل على الاطلاق إلى العلم بأصل الانسان الأول، وكيف خلق إلا الوحي من خالق الانسان، وعلى هذا الوحي وحده اعتمد الإمام عليه السلام عن خلق الانسان وأصله.

والانسان سلسلة متصلة الحلقات، تبتدىء بآدم أبي البشر، ولا ندري بأي مولود تنتهي.. ولا يختلف مؤمن وجاحد على أن الانسان بجميع أفراده، من كان منه ومن يكون، هو من تربة هذه الأرض ومائها وهوائها، وانه يعيش عليها كضيف مؤقت، ثم يعود إليها لا محالة.. أبدا لا خلاف في شيء من ذلك،

وإنما الخلاف: هل كان للإنسان وجود سابق في عالم آخر غير هذه الأرض وكيف وجد عليها هل وجد أول ما وجد على صورته الحالية أو على غيرها ومتى بدأ ظهوره على الأرض وما هي العناصر التي تألف منها ومن الذي أوجده وما هو الهدف من وجوده وهل له رسالة خاصة في هذه الدنيا، أو انه لا رسالة له إلا أن يصنع نفسه على إرادته وحريته وهواه كما يقول الوجوديون.. وأيضا هل يخرج من الأرض بعد موته، ويعود ثانية إلى الحياة.. إلى غير ذلك من الموضوعات والخلافات.

ما أعجب الانسان.. انه يبحث عن نفسه بنفسه، وربما هو الكائن الوحيد الذي امتاز بهذا الوصف.. ومع ذلك قال بعض أفراد الانسان: كان أبوه قردا فتطور، وترقى. وقال آخر: كلا، ان أباه تولد من عفونة القذارات تماما كما تتولد الحشرات.. ولا أدري: هل يدلنا هذا القول وذاك على أن الانسان أنواع وأقسام: منها قرود، ومنها حشرات في صورة الانسان.. وانه يبتعد عن كمال اللَّه كل البعد كما تبتعد النملة عن حقيقة الانسان وكماله.

ومهما يكن فإن ما قاله الإمام عليه السلام هنا عن أصل الانسان هو شرح وتفسير لما جاء في القرآن الكريم.

خلق اللَّه سبحانه آدم من جسم وروح، ولكن بالتدريج لا دفعة واحدة، كمثل الباني يبني حجرا على حجر - المثال للتقريب - فخلق أولا جسما بلا روح وأيضا خلق هذا الجسم على أطوار كما يظهر من قول الإمام عليه السلام. وهذه الأطوار أربعة، وهي: 1 - (ثم جمع سبحانه من حزن الأرض وسهلها، وعذبها وسبخها تربة).

حاكت مخيلة الانسان عن خلقه ووجوده أساطير وخرافات تماما كما حاكتها حول خلق الكون وما فيه، وربما أكثر.. من ذلك ان الانسان كان موجودا في عالم غير محسوس قبل وجوده على هذه الأرض.. ولكن نصوص القرآن تأبى ذلك وتقول: خلق اللَّه آدم من تربة أرضنا هذه، وانه تعالى نفخ فيه من روحه بعد أن خلق جسمه وسواه. قال الكليني في أصول الكافي: سئل الإمام الصادق عن قوله تعالى: "وروح منه" فقال: هي روح اللَّه مخلوقة خلقها سبحانه في آدم.

وقول الإمام: "جمع سبحانه تربة" صريح في أن آدم لم يكن له عين ولا أثر قبل هذه الأرض، وقال تعالى: * ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَه مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَه كُنْ فَيَكُونُ * - 59 آل عمران أي لم يكن في هذه الأرض فكان.. فأبونا آدم من تراب، ونحن أيضا في لحمنا ودمنا من تراب، لأن ما نأكله من اللحوم والحبوب والفواكه والخضار والنبات، كل ذلك كان في الأصل ماء وترابا: "هو الذي خلقكم من تراب - 67 غافر".

أما قوله عليه السلام: (من حزن الأرض وسهلها، وعذبها وسبخها) فهو إشارة إلى أن الانسان كأمه الأرض يجمع في استعداده وغرائزه بين المتناقضات والمفارقات كالطيب والخبيث، والأسود والأبيض، قال الرسول الأعظم (ص): "خلق اللَّه آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على مثل الأرض، منهم الأسود والأبيض والأحمر، وما بين ذلك".

2 - (وسنها بالماء حتى خلصت، ولاطها بالبلة حتى لزبت). يشير بهذا إلى قوله تعالى: * ﴿إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِين * - 71 ص.

وقوله في الآية 11 من الصافات: "من طين لازب".

وتسأل: لما ذا لم يخلق اللَّه آدم بكلمة "كن". وما هي الحكمة لخلقه من تراب أليس اللَّه على كل شيء بقدير الجواب: قال البعض: أراد سبحانه أن يعلَّم الناس الروية والأناة وعدم الاستعجال في أمورهم.. أما نحن فنظن انه تعالى أراد أن يعلم الناس انهم في الخلق سواء، لا فضل لأبيض على أسود، كما قال الرسول الأعظم (ص): كلكم من آدم، وآدم من تراب.. وان يعتبروا بقدرة اللَّه التي خلقت من المادة الصماء إنسانا عاقلا يفعل الأعاجيب، ويومئ إلى ذلك قوله تعالى: * ﴿أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ * - 37 الكهف وأيضا أن يستدل الانسان على النشأة الثانية بالأولى كما تشير الآية 5 من سورة الحج: "يا أيها الناس ان كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب". وقال الإمام: "عجبت لمن أنكر النشأة الأخرى، وهو يرى النشأة الأولى" وعلى أية حال فإن الأرض هي البيئة الطبيعية للإنسان، ومصدر حياته وحضارته وفيها يتعرف على خالقه ويعبده، ومنها يثب إلى السماء والكواكب، واليها يعود، ولا غنى له عنها بحال حدوثا وبقاء، وهي في غنى عنه في كل الأحوال.

3 - (فجعل منها صورة ذات أحناء ووصول، وأعضاء وفصول). ضمير منها يعود إلى التربة، والمراد بالصورة صورة آدم، قال سبحانه: * ﴿وصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُم * - 64 غافر. وفي جسم الانسان أجزاء كالرأس واليدين والصدر والرجلين واليها أومأ بكلمة أعضاء، وفيه أضلاع، واليها أشار بالاحناء، وفيه مفاصل، وهي ملتقى العظام ولولاها لعجز الانسان عن الحركة، وقد عبّر الإمام عنها بالفصول، وفيه عصب يشد الأعضاء بعضها إلى بعض، وهي المقصود من كلمة وصول من الوصل.

4 - (أجمدها حتى استمسكت، وأصلدها حتى صلصلت، لوقت معدود، وأمد معلوم). بعد أن صار الماء والتراب طينا جمد وتماسكت أجزاؤه، وأصبح جسما واحدا، يابسا ومتينا، إذا هبّت عليه الريح سمع له صلصلة، وأسند جمود الطين وصلصلته إلى اللَّه، لأنه هو الذي خلق التراب والماء، ومزجهما حتى صارا طينا.

وبهذه الأطوار الأربعة تم الجسم وكمل، ومع هذا أبقاه سبحانه بلا روح إلى أمد معين، لأن حكمته تعالى قضت أن يكون لكل أجل كتاب1.
 


1  في ظلال نهج نهج البلاغة / العلامة محمد جواد مغنية /44_46.

2015-09-06