يتم التحميل...

القـــدوة ضرورتهــــا وتحولاتهــــا

الحرب الناعمة

لم تترك القدوة الإنسان وحيداً. فما ان يتفتح وعيه منذ سنواته الأولى حتى يجد أمامه قدوة هي الوالدين ينشدّ إليها ويتأثر بها ويعتقد أنها أفضل ما يراه وما يبحث عنه. ومن خلال هذه القدوة تتشكل الصور الأولى للطفل عن العالم فيراه هانئاً منسجماً أو قاسياً مضطرباً.

عدد الزوار: 31

الدكتور طلال عتريسي*
لم تترك القدوة الإنسان وحيداً. فما ان يتفتح وعيه منذ سنواته الأولى حتى يجد أمامه قدوة هي الوالدين ينشدّ إليها ويتأثر بها ويعتقد أنها أفضل ما يراه وما يبحث عنه. ومن خلال هذه القدوة تتشكل الصور الأولى للطفل عن العالم فيراه هانئاً منسجماً أو قاسياً مضطرباً. لذا توافقت كل الدراسات التربوية والنفسية على أهمية وجود الأسرة بالنسبة إلى الإنسان،في حين تقدم الإسلام خطوة إضافية في هذا المجال عندما أكد على ربط وجود هذه الأسرة بشروط اختيار الزوجين،وليس كيفما اتفق، (تخيروا لنطفكم..إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه...).

ولا يختلف الباحثون حول أهمية الأسرة وأهمية ما يجري فيها وتأثيراته القوية على شخصية الإنسان اللاحقة. لكن قدوة الوالدين المهمة جداًبالنسبة إلى الطفل،لا تبقى غالباً على حالها في مراحل العمر اللاحقة.

فمن المؤكد أن الإنسان عندما يصبح اكبر سناًً وأكثر تجربة وأوسع اطلاعاًً ستتغير نظرته إلى القدوة، والى شروطها ومواصفاتها، التي كان يتطلع إليها. فالطفل الذي يتخذ والديه أول قدوة له في سنوات عمره الأولى سينتقل لاحقاًً إلى قدوة أخرى قد تكون معلم المدرسة أو رفيق الصف، أو أي شخصية أخرى رياضية أو سياسية وفقاًً للبيئة التي سيعيش فيها أو يتأثر بها...كما أن هذا الاختيار قد يتغير أيضاًً في مراحل "النضجًً الأخرى بحيث تصبح القدوة فكرة أو عقيدة، أو حزباًً ينتمي إليه الإنسان... ما يزيد من أهمية "القدوةًً ومن ضرورة متابعة تحولاتها وتأثيراتها المختلفة على الإنسان في مراحل عمره المختلفة وفي أدواره المتعددة في المجتمع.مع الالتفات إلى أهمية هذه القدوة والى أهمية تأثيراتها بحسب كل مرحلة من مراحل العمر.

ولذا لا يمكن أن يقتصر الاهتمام بالقدوة كما يحصل عادة على البعد التربوي فقط على الرغم من أهمية هذا البعد خصوصاًً في طفولة الإنسان...بل يفترض أن يكون هذا الاهتمام أكثر اتساعاًً وشمولاًً من خلال الدراسات الدينية والسياسية والاجتماعية والفلسفية والثقافية والانتروبولوجية التي يمكن أن تقدم زوايا نظر مختلفة ومهمة ومتعددة لدور القدوة ولتأثيراتها على مستوى بناء الفرد التربوي وعلى مستوى تشكيل اتجاهاته الفكرية والاجتماعية والسياسية... وصولاًً إلى أدوارها المحتملة على بنية المجتمع وتأثيرها على مصادر قوته وتماسكه...

تشترك معظم الدراسات الغربية التي تناولت موضوع القدوة ومعها الأدبيات العربية المترجمة عنها أو المتأثرة بها،في أهمية القدوة وفي تأثيراتها على الإنسان خصوصاًً في مرحلتي الطفولة والمراهقة. لكن قلة هي الدراسات التي التفتت إلى شروط القدوة ومواصفاتها.ويكاد هذا الأمر يقتصر على الاتجاه الديني الذي اهتم كثيراًً بالجوانب الاخلاقية للقدوة منذ مراحل العمر الأولى.لذا دعا الاسلام على سبيل المثال الى تجنب رفاق السوء والابتعاد عن مواضع التهم ومصاحبة اهل العلم خصوصاًً في مرحلة الشباب انطلاقاًً من المعرفة الأكيدة بصعوبة تغيير ما نكتسبه في هذه المرحلة.ولذا نلاحظ ان معظم العلماء وخصوصاًً اهل العرفان منهم يؤكدون على التمسك المبكر بالفضائل وعلى الابتعاد عن المعاصي حتى الصغيرة والبسيطة وعلى عدم تأجيل هذا الأمر الى المراحل اللاحقة من العمر لأن القدرة على تغيير العادات والسلوك تصبح أكثر صعوبة نظراًً لتمكن هذه العادات من نفوسنا وطباعنا... اي ان المنظور الاسلامي للقدوة لا يكتفي بالحض على بعدها الايجابي فقط، بل يريد في الوقت نفسه ان نتجنب السلبيات التي قد تنجم عن القدوة السيئة.لأن الانسان بحسب الرؤية القرآنية المعروفة هو على استعداد للانحراف مثل ما هو على استعداد للرقي والتكامل. وهذا الأمر منوط بالبيئة التي يعيش فيها وبالتربية التي يتلقاها فإما ان تأخذه هذه التربية ومعها القدوة المرتبطة بها بعيداًً نحو الانحراف واما ان تدفعه قدماًً نحو الرقي والتقدم والتكامل...

القدوة فكرة
من المهم ان نلاحظ ان القدوة ليست دائماًً شخصاًً نقتدي به، قد يتغير بحسب الظروف والمراحل. فهي قد تكون ايضاًً فكرة دينية أو سياسية يحملها الانسان ويتأثر بها ويحاول تقليدها والعيش وفقاًً لمقتضياتها. وقد يتبناها الانسان ثم يتخلى عنها الى فكرة أخرى، فيغير طريقته في التفكير،وفي التصرف.من ذلك على سبيل المثال من يقتدي بالفكرة السياسية التي تدعو الى الاحتجاج السلمي والى التظاهر والى المشاركة في الانتخابات وغير ذلك مما نعرف عن معظم الأحزاب والحركات السياسية في عالمنا المعاصر.وما يشيع في اوساط المنتمين الى هذه الحركات من عادات مشتركة ومن زي متشابه ومن طريقة في السلوك وفي العلاقات بين الجنسين وفي احياء المناسبات السياسية والاجتماعية... وبين من يقتدي باتجاهات سياسية اخرى دينية او غير دينية تدعو الى العنف او الى التكفير وتفرض على اتباعها العزلة عن المجتمع وزياًً خاصاًً يتمايز به اتباع هذه القدوة عن غيرهم... وقد تكون القدوة بيئة ثقافية غير محددة المعالم،(يبدو التعرف عليها اكثر صعوبة واكثر تعقيداًً) مثل ما تفعل وسائل الاعلام التي تبث طوال اليوم ومن دون توقف كل ما يمكن ان يشكل عناصر هذه البيئة الثقافية بمضامينها الفنية والاخلاقية والترفيهية والاجتماعية وسواها...وهي بيئة يصعب حصر اولها من آخرها وضبط ما يدور فيها...اذاًً القدوة ليست دائماًً شخصاًً أو نموذجاًً محدداًً يمكن ان نتعرف عليه ونشير الى مواصفاته المحددة،على الرغم من أهمية الشخص/القدوة ودوره التاريخي في كل المجتمعات دون استثناء.بل هي أكثر من ذلك ايضاًً. فهي فكرة وهي بيئة وهي اطار يحيط بالانسان.وما يزيد من اهمية ومن خطورة هذه الفكرة او هذه البيئة انها باتت بفضل وسائل الاعلام الحديثة غير محددة المعالم تماماًً،وتتوجه الى أكثر من جيل، والى اكثر من فئة اجتماعية في وقت واحد...فباستطاعة وسائل الاعلام اليوم ان تتوجه الى كل افراد الاسرة في وقت واحد. وهي تتوجه اليهم في كل ساعات اليوم.وبات بمقدور الاغنياء والفقراء ان يشاهدوا الافلام والمسلسلات نفسها والنماذج القيمية والثقافية التي تبثها الفضائيات ومواقع الانترنت المختلفة من دون تمييز بين من يقدر على تقليد ما يدور فيها وبين من لا يجد قوت يومه لاشباع عياله... ما يجعل "القدوةًً التي تبثها تلك الوسائل "قدوة عالميةًً على مستوى الزي والأفكار والثقافة والسلوك والعلاقات...تتجاوز الخصوصيات الثقافية والاجتماعية لهذا البد أو ذاك..بحيث نشهد الاعلانات نفسها حول مساحيق التجميل وحول عروض الازياء والعلاقات بين الجنسين والفنانيين والممثلين..من الولايات المتحدة الى الصين وصولاًً الى بنغلادش وأفريقيا وباقي الدول الاسلامية...

المراهقة والقدوة
تختلف ما اصطلح على تسميته مرحلة "المراهقةًً عن ما سبقها من مراحل لاسباب معروفة في الادبيات التربوية والنفسية،خاصة ما يتعلق بالادوار الجديدة التي يتوقعها المجتمع من المراهق والتي يتوقعها المراهق من نفسه...إن المهم هنا هو كيف سيتعامل المجتمع مع هذه المرحلة وكيف سيقبل التغيرات التي يمر بها الانسان في هذه المرحلة. لأننا نعتقد ان المشكلة ليست في التغيرات الفيزيولوجية نفسها،بل في استعداد المجتمع أو في عدم استعداه لتوفير الفرص لدمج المراهق من دون أي تأخير أو تردد... عندما يخرج المراهق من نطاق العائلة الى نطاق المجتمع يجد امامه خيارات كثيرة: القدوة التربوية تتحول تدريجاًً من الوالدين الى شخصيات اخرى. لماذا يختار المراهق قدوة له،شخصاًً لم يلتق به ولم يسبق ان تحدث اليه مباشرة؟ ولماذا يتعلق بشخص موجود في بلد آخر. قد يذهب الى قدوة سياسية او دينية او فنية او رياضية... ما يجعل القول بمواصفات نهائية للقدوة في مرحلة المراهقة امراًً صعباًً. فقد يعتبرالبعض ان الاسلام هو القدوة التي يبحث عنها،فيحاول ان يقتدي بالرسول عليه الصلاة والسلام وبسواه من الائمة والمصلحين. وقد يعتبر آخر ان فكرة العدالة أو مواجهة الظلم او الاحتلال التي تنادي بها حركات سياسية او اجتماعية هي تلك القدوة.فيقلد رموز وقادة تلك الحركات... هكذا سيكون غاندي الزعيم الهندي رمزاًً يٌقتدى به وبحركته السلمية في مواجهة الاحتلال والظلم. كما سيكون المناضل غيفارا الذي عاش في الغابات في اميركا اللاتينية وقاتل القوات الاميركية رمزاًً وقدوة لكثير من الشباب في الزي وفي السلوك..في حين سيجد كثيرون في بطولات المقاومة لبنان او في فلسطين التي عبر عنها الشهداء أو تجلت في الانتصارات،قدوة تثير الاعجاب والتقدير...وهذه مسألة مهمة جداًً في واقعنا المعاصر،بحيث لا نستطيع ان نفصل غالباًً بين الفكرة وبين من يعبر عنها.

ما يمكن ملاحظته ايضاًً ان الشخص نفسه قد يكون قدوة في جوانب مختلفة من شخصيته.فهذا يتخذه قدوة بسبب وسامته وآخر لشجاعته وثالث لدماثة اخلاقه،أو لأفكاره ونظرياته، وهكذا... ونادراًً ما تجتمع مواصفات عدة في شخص واحد. وهو ما يطلق عليه "الكاريزماًً التي تلخص حضور هذه الشخصية الطاغي والمحبب في جوانبها كافة. الجانب الآخر لهذه المسألة الذي لا يقل خطورة وأهمية هو ما نسمية القداسة التي تسبغ على القدوة التي يتخذها الانسان نموذجاًً له بحيث يفقد في هذه الحالة أي حس نقدي تجاهها، بحيث لا يرى لتلك القدوة أي خطأ، ولا يرى في سلوكها أي نقص. من هنا ذلك التأثير القوي للقدوة على اتباعها.ومن هنا ضرورة الاهتمام بالقدوة المناسبة التي يفترض الاقتداء بها.

القدوة التربوية
لا شك ان التدخل التربوي او التوجيهي من جانب الاهل أوالمربين يفترض اعتماد الطريقة الملائمة وفي الوقت المناسب لتقديم "القدوة الايجابيةًً او التمهيد للإبتعاد عن "القدوة السلبيةًً. والاسلوب المعروف هو الحوار والاقناع.وما ينبغي مناقشته هنا هو الاسلوب التربوي الشائع في كثير من المؤسسات التربوية والعائلية حتى قبل مرحلة المراهقة.إذ ينبغي بالنسبة لنا ان ندمج بين الحوار مع الطفل او حتى المراهق وبين الحزم لتنفيذ ما يطلب منه. لأن الحوار في مرحلة الطفولة هو لتنفيذ الأمر تحت سقف الحزم وليس تحت سقف استمرار الحوار الى ما لا نهاية،حتى يقتنع الطفل بما سيقوم به.فماذا نفعل على سبيل المثال لو لم نتمكن من إقناع الطفل بالقيام بما ينبغي؟ الحزم هو الذي سيساعد على تنفيذ الأمر في هذه المرحلة كما سيساعد على تقبل التوجيه نحو القدوة الايجابية في مرحلة لاحقة. لذا نحن لا نستطيع ان نترك المراهق يفعل ما يشاء او ان ينجرف خلف تجربة كل شئ. التدخل ضروري لمنع هذه الانجراف من جانب الاهل ومن جانب كل من هو في موقع المسؤولية والقدوة.

يمكن ان نلاحظ ايضاًً على المستوى التربوي كيف تتشكل القدوة كفكرة او كمثال اعلى من خلال ما هو مألوف من تشجيع الاهل والمعلمين الابناء والتلاميذ على الاقتداء بالناجحين.لأن ما يريده هؤلاء في هذه المرحلة من العمر هو النجاح المدرسي والتفوق. وهذا أمر ايجابي ولا يمكن الاعتراض عليه او مخالفته. لكن الوجه الآخر لهذه المسألة لا يكمن فقط في احتقار الفشل والابتعاد عنه بل في ما يدعو اليه البعض من احتقار الفاشلين انفسهم الذي لم يتمكنوا من النجاح والتفوق. في هذه الحالة تخسر قدوة النجاح الكثير من مضمونها الاخلاقي.لأن المطلوب في حالة مماثلة ان يفهم الابناء والطلاب شروط النجاح وان يعرفوا شروط الفشل. وأن يطمحوا الى ان يكونوا من الناجحين وان يبذلوا الجهد حتى لا يكونوا من الفاشلين. لكن ذلك لا يفترض ان يؤدي الى احتقار الفاشلين على المستوى الانساني والاخلاقي. فللفشل اسباب كثيرة قد تكون خارجة عن ارادة الانسان،مثل الفقر والمشاكل العائلية وضعف القدرات الذهنية،وسواها... ولذا ينبغي ان نربي الاولاد ليس فقط على قيم النجاح بل وعلى قيم مد يد العون لمن هوبحاجة الى المساعدة لأنه لم يتمكن من النجاح مثلنا. وهذه الفكرة هي قدوة نضعها امام ناظري الابناء والتلاميذ.وبهذا المعنى ان ما تفعله الكثير من المدارس حول اعلان نسب النجاح التي تبلغ عادة نسبة المائة في المائة هي حافز وقدوة سواء للمدارس الأخرى في إطار التنافس الايجابي وفي اطار تشجيع الطلاب على النجاح كقيمة وقدوة لا يمكن التفريط بها في المراحل الدراسية كافة. لكن الوجه السلبي لهذه القدوة هو ما يجري في بعض تلك المدارس عندما تقوم بمنع الطلاب ذوي المستويات المتوسطة من تقديم الامتحانات الرسمية مع اقرانهم المتفوقين.او عندما تعزل هؤلاء في صفوف خاصة وتفصلهم عن رفاقهم الذين قضوا معهم سنوات طويلة خلال المراحل الدراسية.بحيث نصبح امام تمييز واضح بين القوي والضعيف. فنعزل الضعيف ونترك القوي في مواقعه.القدوة هنا هي في هذا السلوك الذي تقوم به المدرسة التي تساهم من حيث لا تدري في وأد روح التعاون بين المستويات المعرفية-الدراسية المختلفة (المتفوق والمتوسط والضعيف...).أي ان على القوي –المتفوق- بحسب هذا المنطق الا يلتفت الى الضعيف والا ينتظره والا يفكر بما سيفعله لأنه لن يراه امامه.فما هي القدوة التي نربي الاولاد عليها في مثل هذه الحالة ؟ هل هي قدوة التفوق فقط ام هي ايضاًً وفي الوقت نفسه قدوة الترفع والتعالي والابتعاد عن الضعيف وعن من يحتاج الى مد يد المساعدة؟ فأي قدوة يقدم الصف ومن خلفه ادارة المدرسة لتلامذته في هذه الحالة؟وماذا يمكن ان نتوقع من هؤلاء ان يفعلوا في المجتمع؟ سوف يكونوا على الارجح الى جانب الاقوياء وسوف يبتعدوا عن الضعفاء بدلاًً منأن يكون نجاحهم وتفوقهم فرصة لمساعدة الآخرين ولمد يد العون الى الضعفاء والى الوقوف بجانبهم. إن القدوة التي تقدم في هذه الحالة ليست شخصاًً او فرداًً بل هي فكرة وهي بيئة من التصرف ومن الممارسة وهي قيم سلبية نربي الاولاد عليها،ولكن تحت راية وقدوة النجاح والتفوق...! وهذا احد اوجه القدوة بوجهيها السلبي والايجابي من الناحية التربوية.ولعل ما يجري على هذا المستوى متأثر بتلك القدوة /الفكرة المهيمنة التي نشرتها العولمة المعاصرة والتي جعلت البقاء للأقوى ثم تحولت عنه الى البقاء للأسرع. بمعنى اننا نقتدي هنا بفكرة القوة التي لا ترحم والتي تسحق من هو اضعف والتي لا تعترف بأي بعد أخلاقي أو بأي رحمة في العلاقات بين الناس أو بين القوي والضعيف... القدوة الفكرة أكثر خطورة لأننا لا نرى من نقتدي به. في حين ان القدوة الشخص أكثر وضوحاًً، ويمكن ان ننتقل منه الى شخص آخر عندما يخيب أملنا من هذا الشخص. لكن القدوة الفكرة أكثر تعقيداًً وليس من السهل ان نلاحظ كيف تصبح هذه الفكرة قدوة لنا،ولا كيف تمارس نفوذها علينا، ولا كيف يمكن التخلص منها والانتقال الى سواها...

إن خطورة القدوة واهميتها في الوقت نفسه تكمن في مرحلة الشباب. ففي الطفولة على سبيل المثال ستقتصر القدوة على الوالدين،ثم على المدرسين لاحقاًً. ونادراًً ما يتعرض الطفل لقدوة سلبية في هاتين المرحلتين الأسرية والمدرسية.وحتى عندما يحصل ذلك فإن الأثر السلبي سيقتصر غالباًً على الطفل نفسه.أما في مرحلة الشباب فإن التعرض للقدوة بوجهيها السلبي والايجابي هو أوسع بكثير واحتمالاته متنوعة ومتعددة: من الأصدقاء الى المؤسسات التعليمية ومن المؤسسات الثقافية والسياسية،الى المؤسسات الدينية والفنية وغيرها...بحيث يتجاوز أثر القدوة الفرد الشاب الى المجتمع بأسره، خصوصاًً وان الشباب هم أهم قوة تغيير في أي مجتمع من المجتمعات...

القدوة السلبية:
تتشكل هذه القدوة غالباًًمن خلال البيئة التي تحيط بالشاب، ومن خلال القيم التي ترتبط بهذه البيئة.فمن المعلوم ان كل بيئة مهما كان نوعها سياسية او دينية او فنية او رياضية تنتج غالباًً قيماًً خاصة بها.

وتتحول هذه القيم الى قدوة يلتزم بها اعضاء هذه البيئة او المؤيدين لها. بهذا المعنى قد يكون للمراهق اكثر من قدوة في وقت واحد. ومن الملاحظ ايضاًً في مجال الدراسات ذات الصلة بالمراهقين والشباب في هذه المرحلة شدة تأثرهم برفاقهم وبمن حولهم...لذا قد يلتحق المراهق بنموذج سلبي في السلوك وفي التفكير وفي العلاقات مع نفسه ومع الآخرين. ومن المؤكد ان أغلب حالات الانحراف مثل الادمان والجنوح وحتى السرقة وسواها لا تتم الا في بيئة جماعية. بمعنى ان الانحراف او تعاطي المخدرات لا يمكن تفسيره من خلال البعد الفردي فقط (أي من خلال مشكلة نفسية او عائلية...) بل ينبغي الالتفات ايضاًً الى بيئة الرفاق والى الجماعة التي يمضي فيها الشاب أوقات فراغه وتسليته بعيداًً من رقابة الاهل او مؤسسات المجتمع الأخرى.ما يعني ان الانحراف هو حالة جماعية وهو نتيجة لقدوة سلبية تشكلت في بيئة جماعية من الرفاق الذين يشجعون على تعاطي المخدرات او على التدخين او على السهر بعيداًً عن المنزل او على ترك المدرسة والذهاب معاًً الى اماكن اللهو أو التسلية وسواها...إذاًً القدوة السلبية هي نتاج بيئة جماعية.وهذا يفترض في كثير من الاحيان ان نبدأ بتغيير هذه البيئة، وتفكيك القيم والقدوة المرتبطة بها،قبل تغيير سلوك الافراد انفسهم.

عندما يكون البيت قدوة سلبية (مشاكل بين الزوجين، اضطراب العلاقات العائلية...) سيهرب المراهق الى قدوة اخرى.قد تكون غالباًً قدوة سلبية لأنها ستكون مجرد بديل من دون التدقيق في محتوى هذا البديل اذا كان ايجابياًً او سلبياًً. كما ان الشاب او المراهق قد لا يملك القدرة او حتى الاستعداد للتمييز بين السلبي والايجابي في القدوة اذا كا الهدف هو الهروب من قدوة عائلية...لذا هو يحتاج دائماًً الى الاهتمام والمتابعة والرعاية.

القدوةً الناعمةًً
والمقصود بذلك هو القدوة التي تتسلل الينا بهدوء وتدريجاًً ومن دون أي ضجيج من خلال وسائل الاعلام التي لا تتوقف عن البث طوال ساعات اليوم وطوال ايام السنة. هذه القضية من اهم واصعب القضايا التي تؤثر بشكل كبير على القدوة التي تقدم الينا.أولاًً لأنها لا تتوجه الى مرحلة عمرية محددة بل الى كل مراحل عمر الانسان. وثانياًً لأنها لا تقدم القدوة غالباًً بشكل مباشر، بل تتشكل عناصر هذه القدوة من خلال التكرار والايحاءات والصور التي تتحول بمرور الوقت الى قدوة. ومصدر هذه الخطورة هو في ما يمكن ان نسميه التسلل الهادئ والناعم للأفكار وللنماذج التي تتحول بمرور الوقت ومن خلال التكرار الى قيم جديدة نقتدي بها فتغير ليس فقط من طريقة تفكيرنا وبل من طريقة تصرفنا في الحياة. بحيث لا ننتبه في معظم الاحيان الى ان مواقفنا تجاه هذه القضية او تلك قد تغيرت. او ان اعجابنا بهذه الفكرة قد تبدل الى فكرة أخرى جديدة لم نكن نقبل بها سابقاًً.

قبل نصف قرن لم يطرح هذا السؤال. هذه الوسائل تقدم نماذج تصبح قدوة تكون غالباًً قدوة سلبية. لأن هذه الوسائل تفرض علينا طوال ساعات طويلة في اليوم... هنا علينا ان نحد من تأثير هذه الوسائل. أن نختار ما نرى، لا ان نكتفي بتلقي كل ما يعرض علينا من دون توقف.

ثمة أمثلة كثيرة تفسر لنا هذا التشكل "الناعمًً للقدوة على مستوى السلوك والأفكار.فالصور التي لا تتوقف معظم الفضائيات ومواقع الانترنت عن تقديمها عن الشباب ( من الذكور والاناث) الذي يعيش منفرداًً بعيداًً من اهله ومن دون أي رقابة اجتماعية، ويتنقل من هذا العمل الى ذاك ومن هذه العلاقة الى تلك...ولا يكترث للروابط الاسرية، ولا للعادات او التقاليد...سوف يشكل هذا النموذج –الفكرة- قدوة لشباب وشابات العالم الآخرين،خصوصاًً في المجتمعات الاسلامية، الذي يشاهدون هذا النمط من الحياة ويقارنون بينه وبين حياتهم حيث الضوابط الاخلاقية والدينية والسلوكية والاسرية المختلفة. بحيث يتوق الشاب او الفتاة الى تقليد ذلك النموذج ويطمح الى الاقتداء بما يراه. وهذا الأمر هو أحد اهم اسباب تلك الرغبة الجامحة لدى الكثير من الشباب في البلدان الاسلامية لمغادرة بلدانهم الى الغرب ظناًً منهم بأن ما يرونه في السينما وفي الفضائيات هو حقيقة سهلة يمكن الحصول عليها بمجرد ان تطأ اقدامهم تلك البلاد... وهكذا يتحول الغرب الى "قدوةًً.يعبر الشباب عن التعلق بها من خلال الرغبة في الهجرة التي تزداد نسبة ارتفاعها يوماًً بعد آخر، وعاماًً بعد عام.وصولاًً الى ما يطلق عليه البعض "نزيف الادمغةًً.وهذه الظاهرة تثير القلق على مستويات عدة خصوصاًً وان فرص جذب "العمالة الماهرةًً من العالم النامي إلى الغرب المتقدم رفعت أعداد المهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين من 175 مليوناً إلى نحو 190 مليوناً في العقد الأخير. ويقدر أن ما يزيد على 80% من هؤلاء المهاجرين هم من بلدان نامية نحو أوروبا وأميركا وكندا. كما أن ثلث تدفقات المهاجرين من البلدان النامية تتراوح أعمارهم بين 12 و 24 عاماً.

إن ما يحصل على هذا الصعيد ان نظاماًً جديداًً من القيم يحل تدريجاًً محل نظام آخر.ونظام القيم هو مجموعة من العادات والافكار ومن المفاهيم ذات الصلة بثقافة المجتمع.وعندما يختار الشاب الغرب قدوة له فإن الأمر سيؤدي تدريجاًً الى الالتحاق بنظام القيم المرتبط بهذا النموذج. ولأن هذا الانتقال لا يحصل بسهولة ولأن الانسان لا يتخلى ببساطة عن نظامه القيمي الذي تربى عليه وعاش في ظله سنوات فإننا نشهد حالات كثيرة من الارتباك ومن القلق لدى الكثيرين حتى بعد اختيارهم الغرب قدوة ونموذجاًً لهم. ليس فقط لأنهم قد يكتشفوا ان هذه القدوة لم تكن كما توقعوا بل لأن الانتقال نفسه من قدوة الى أخرى ومن نموذج قيمي الى آخر يترافق مع مخاض صعب يتأرجح فيه الانسان بين هذا وذاك قبل ان يستقر في مرحلة لاحقة على قدوة محددة، وقد يبقى في مثل هذا التأرجح النفسي والقيمي سنوات طويلة من دون أي استقرار...

الاستهلاك هو نموذج آخر "للقدوة الناعمةًً. وهو الذي يتحول الى طريقة في التفكير،والى سلوك يقود تصرفاتنا. الاستهلاك هو الرغبة في الشراء وفي اقتناء الاشياء المختلفة حتى لو لم نكن بحاجة اليها. ونقيض الاستهلاك بهذا المعنى هو ان نشتري ما نحتاج. أي ان المواجهة هي بين الرغبة وبين الحاجة. الرغبة عادة لا حدود لها. أما الحاجة فمحدودة. الاستهلاك يحرض الرغبة التي لا حدود لها بحيث يندفع الانسان الى الاقتناء والى الشراء حتى لو يكن بحاجة الى ما سيشتريه...هكذا تنشأ عادات وقيم جديدة تصبح بمرور الوقت والتكرار مثابة قدوة في التعامل مع الذات و مع الآخرين... ومن هنا تنشأ قيم التباهي وقيم التملك بحيث تصبح القدوة هنا هي النماذج التي تنسجم مع تلك القيم.

وهذا بدوره يفترض المزيد من الشراء ومن الاستهلاك طالما ان الاسواق تضخ من دون تدفق السلع التي يرتبط الحصول عليها بالمكانة الاجتماعية.عندما يتحول الاستهلاك الى سلوك او عادة والى وسيلة للترقي الاجتماعي يصبح قدوة "ناعمةًً تمارس نفوذها من دون أي صخب أو ضجيج.

وربما يصعب ان نفصل بشكل واضح بين القدوة التي نريد ان يقتدي بها الانسان في أي مرحلة من مراحل العمر وبين المثال الأعلى الذي يتخذه قدوة له يحاول ان يفعل مثله ويقتدي به ويسير على هدي سلوكه وافكاره...والمثال الأعلى هو غالباًً شخص محدد ولكنه قد يكون،كما أشرنا،فكرة في الوقت نفسه. بمعنى ان المثال الأعلى الذي يفترض الاقتداء به قد يكون نمط حياة أونموذج للعيش أوطريقة في السلوك او في الاستهلاك او حتى طريقة في التفكير وفي التعامل مع الآخرين...

لذا تثير قضية الشباب اهتماماً مشوباً بالقلق في معظم بلدان العالم، نظراً للدور المتزايد لهذه المرحلة في التغيير السياسي والاجتماعي؛ وفي التأثير على مستقبل أي أمة في مشروعاتها وخططها للتنمية من جهة،أو لحماية نفسها من الاخطار أو التهديدات المختلفة.التي قد تواجهها. و يعتبر الشباب من مصادر القوة الاستراتيجية في أي مجتمع، يحرص على تعزيزها، وعلى عدم التفريط بها أو خسارتها... لذا كان الشباب على الدوام موضع اهتمام الاحزاب والحركات السياسية والاجتماعية في معظم المجتمعات قديماًً وحديثاًً. وقد انصرفت الكثير من المؤسسات البحثية ومراكز الدراسات إلى الاهتمام بهذه القضية على المستويات النّظرية والعملية ومن جوانبها النفسية والاجتماعية والأنتروبولوجية... لكن التفاوت في هذا الاهتمام، يعود إلى ما يريده أو ما يتوقعه كل مجتمع من الشباب.

ففي حين تشكو أوروبا على سبيل المثال تراجع أعداد هؤلاء الذين سيجعلونها "قارة عجوزًً في العقود القليلة المقبلة. تبحث دول أخرى عن الحلول الاقتصادية والتنموية والسياسية لمعالجة ارتفاع نسبة الشباب التي تجاوزت أكثر من نصف عدد السكان كما هي الحال في كثير من البلدان العربية والإسلامية وفي أفريقيا...

ولا شك أن "الثورة التكنولوجيةًً التي يشهدها عالم اليوم جعلت قضاياه ومشاكله أكثر ترابطاً وتأثيراتها متبادلة أكثر من أي حقبة أخرى في التاريخ. حتى ان تطلعات الشباب في كثير من بلدان العالم تأثرت بشكل أو بآخر بأنماط حياة الشباب في الغرب، بعد ان تعرفوا عليها عبر وسائل الاتصال وتحولت الى قدوة لهم يريدون تقليدها والتشبه بها. وفي مقابل ذلك فشلت معظم حكومات البلدان العربية والاسلامية في تقديم نفسها او سياساتها منذ الاستقلال في منتصف القرن الماضي إلى اليوم "قدوةًً لشبابها او حتى لمواطنيها في تحقيق التنمية المنشودة، المستقلة والمتوازنة، وفي تقديم نموذج لتداول السلطة وللحريات او للديمقراطية، أو حتى لمواجهة التحديات الخارجية او لبناء الاقتصاد القوي... ما جعل العلاقة بين هذه الحكومات المتعاقبة وبين أجيال الشباب علاقة أزمة وعدم ثقة، ونموذج للقدوة السلبية التي تنفجر مواجهات مختلفة بين حين وآخر... وتشير أرقام اليونيسف على سبيل المثال إلى أن نحو 50% من السكان في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هم تحت سن 24 سنة. ما يعني أن 160 مليون منهم (من أصل 300 مليون) سوف يحتاجون إلى العمل في عام 2010. كما يشير تقرير آخر إلى أن الشباب ما بين 15-24 سنة في المنطقة العربية يقعون تحت ضغط الإحباط والتوقعات التي تحدثها بشكل جزئي مؤثرات الإعلام والتكنولوجيا والديناميكيات التحولية في البنى الأسرية، بالإضافة إلى الصراعات السياسية والأزمات المستمرة التي يعيشها معظم بلدان المنطقة... ولا يفوت التقرير نفسه الإشارة إلى تأثير العولمة على الشباب الذين نشأوا على مفردات جديدة تختلف عن تلك التي تعرفت عليها الأجيال السابقة – ما يزيد من صعوبة التواصل بين الجيلين،بحيث نجد انفسنا امام ما يمكن ان نسميه "القدوة الملتبسهًً. ولعل هذا الالتباس في نموذج القدوة هو ما يواجهه شباب اليوم، ومعهم المجتمع الذي ينتمون اليه. خصوصاًً وأن التداخل بين القيم وبين الثقافات وبين مرجعيات السلوك الغربية والشرقية بات امراًً شائعاًً الى حد الصعوبة في التمييز بين ما ينتمي الى هنا وما ينتمي الى هناك.وليس من الصعب ان نواجه يومياًً في مجتمعاتنا العربية والاسلامية من يطرح من الشبان والشابات اسئلة كثيرة في لحظات محددة عن مصدر القيم التي تؤثر على سلوكهم وعلى خياراتهم وعلى طريقتهم في التفكير تجاه انفسهم وتجاه الآخرين في المجالات كافة.

العنف قدوة
إذا كانت هذه الأزمات التي يعيشها الشباب في مجتمعاتنا العربية، دفعت ببعضهم إلى اليأس أو الإحباط، والرغبة في الهجرة وترك البلاد، (الغرب ونمط الحياة الغربية قدوة جديدة مفترضة) فإنها دفعت بالبعض الآخر إلى محاولة تغيير الواقع باليد، وليس فقط بأضعف الإيمان (القلب) أو بالكلمة.كما فعل أولئك الذين التحقوا بما عرف بظاهرة التطرف والعنف التي شهدتها البلدان العربية والإسلامية منذ مطلع الثمانينيات إلى اليوم، وهؤلاء ذهبوا تارة بدافع من عقيدتهم الدينية إلى قتال "الاحتلال الكافرًً في افغانستان، وطوراً إلى مواجهة "الأنظمة الكافرةًً في بلدانهم والتي "لا تحكم بما أنزل اللهًً وفقاًً لرؤيتهم لها. وقد أتاحت التكنولوجيا الحديثة التي وفرته العولمة التواصل اليسير وحتى غير المكلف مع كل ما يجري في العالم، (عبر الأنترنت) والتعرف إلى أنماط ثقافية جديدة غيرت في بعض مفاهيم الشباب حول التقاليد وسلطة الأهل والعلاقات بين الجنسين والرغبة في الهجرة إلى "مكان افضلًً.

لكن هذه الوسائل أتاحت في الوقت نفسه التعرف الى المشاكل التي يعيشها الشباب امثالهم في البلدان العربية والإسلامية الأخرى. وأن يشاهدوا بأم أعينهم المآسي الإجتماعية والظلم وعمليات القتل التي يتعرض لها الفلسطينيون، والعراقيون واللبنانيون... ما أثار النقمة والغضب في نفوس هؤلاء الشباب، ليس فقط على من يتسبب بهذا القتل وتلك المآسي (الولايات المتحدة وإسرائيل...) بل وعلى الحكومات التي لا تفعل شيئاً لمنع ذلك... وساعدت وسائل الاتصال الحديثة الجيل الشاب على تجاوز القيود المعرفية والإعلامية التي تفرضها عليه معظم الحكومات التي يعيش في ظلها. وبات يشعر بأنه يمتلك قوة المعرفة التي تحولت لدى قسم من هؤلاء الشباب إلى "معرفة القوةًً بعد أن ارتبطت معرفتهم بالبعد الديني – الأيديولوجي الثابت الذي لا يتبدل... والتي أفضت إلى الالتحاق بنموذج تطبيقي عملي يجسد تلك القوة وتلك المعرفة الدينية المرجعية على أرض الواقع من خلال تنظيمات دينية قامت بممارسة العنف في أكثر من اتجاه وعلى أكثر من ارض عربية واسلامية وغربية..هكذا صار العنف في موقع القدوة التي تجاوزت ما عداها من وسائل ومن اساليب ومن افكار في التعامل مع الواقع...

ولعل أي مراجعة لأدبيات المنظمات الإسلامية التي شغلت الناس، وبرامج الفضائيات، وأقلقت الحكومات، مثل "تنظيم الجهادًً، و "القاعدةًً، و "فتح الإسلامًً، وسواها... تكشف لنا هذا البعد العنفيًًالتكفيريًً لهذه المنظمات لبناء "إمارة إسلامية نقيةًً... وما يفترض أن يثير انتباه الباحثين، وليس فقط الأجهزة الأمنية، أو العسكرية، إن ظاهرة العنف/القدوة، التي ارتبطت "بالسلفية – الجهاديةًً، لم تجذب إليها، الفقراء واليائسين من الشباب فقط. (وفقاً للفرضية التي تربط الإرهاب والتطرف بالفقر والحرمان). بل جذبت أيضاً من ينتمي من الشباب إلى الطبقات الوسطى، وحتى إلى الطبقات الميسورة خاصة في بعض بلدان الخليج مثل المملكة السعودية وغيرها...وهذا نموذج "للقدوة/ الفكرةًً التي اشرنا اليها.هكذا بات "الشيخ أسامةًً (أسامة بن لادن) الشخص، قدوة وحافزاًً لكثير من الشباب في العالمين العربي والاسلامي.لأنه تحول الى رمز "متخفًً في مواجهة الغرب والقوات الاميركية...مثلما تحولت المقاومة الاسلامية في لبنان الى فكرة وقدوة وتحول رمزها وقائدها السيد حسن نصر الله قدوة جذابة ومحط اعجاب وتقدير ليس للشباب فقط بل لاجيال مختلفة وجدت فيه نموذجاًً للقائد الذي يحقق الانتصارات بعدما ارتبط تاريخ القادة العرب المعاصرين بالهزائم... ان القائد الشخص هنا لا يقل أهيمة على الاطلاق عن الفكرة القدوة. لا بل هو الذي يعطي لتلك الفكرة/القدوة صدقيتها وقوتها اذا تمكن من التعبير الفعلي قولاًً وعملاًً عن تلك الفكرة التي يحملها ويدافع عنها ويدعو اليها...

القدوةً الملتبسةًً

إن الجانب الأشد خطورة في ما نطلق عليه "القدوة الملتبسةًً، ليس تلك الصلة بين شباب اليوم وبين تقنيات الاتصال الحديثة التي جعلت قدوتهم المرجعية في جوانب كثيرة من حياتهم غير واضحة تماماًً. بل تكمن الخطورة في حصول ذلك الالتباس في مجتمعنا نفسه عندما نقدم نموذجاًً فكرياًً او سياسياًً او دينياًً او سلوكياًً ولا نلتزم تماماًً بما يفترضه هذا النموذج.أي اننا نكون في هذه الحالة مثل الذين يسألهم القرآن الكريم "لم تقولون ما لا تفعلونًً؟.وقد شهدت حركات سياسية ودينية واجتماعية كثيرة عبر التاريخ في بلدان الشرق والغرب مثل هذه القدوة الملتبسه التي ادت الى خسارة تجربتها والى تراجع النموذج الذي قدمته تلك الاحزاب والحركات في مرحلة معينة.بمعنى ان قادة هذه الحركات الذين كانوا قدوة في الزهد او التواضع أو التضحية على سبيل المثال تحولوا الى حب التملك وحب الشهرة والى التعلق بالمكانة الاجتماعية. لكنهم استمروا في الحديث مع الناس وفي الكتابة عن فضيلة الزهد وعن قيمة التواضع.

ولعل من المفيد في هذا المجال ان نذكر "التجربة الأفغانيةًً التي تحول فيها بعض قادة المجاهدين الى البحث عن الثروة والمكانة وًًحب الدنياًً بعدما كانوا "قدوةًً الجهاد في أودية افغانستان وجبالها قبل سنوات. وبحسب بعض التقارير،(الحياة 10/9/2009) يتحدث الناس بحسرة عن "ثروات تقدر بمئات الملايين من الدولاراتًً كدسها قادة أحزاب "المجاهدينًً الذين تصدوا للغزو السوفياتي في ثمانينات القرن العشرين. هؤلاء القادة تحولوا بغالبيتهم الى إقطاعيين جدد، يمتلكون كثيراً من المجمعات السكنية..

وتعتبر ضاحية "وزير أكبر خانًً أرقى أحياء العاصمة كابول. واستولت أحزاب "المجاهدينًً على منازل الحي أول مرة بعد دخولها كابول عام 1992، علماً ان لهذه المنازل مالكين اصليين يحتفظون بأوراق ملكيتهم القانونية. واستولى أحد قادة "المجاهدينًً على أكثر من مئة منزل في حي "وزير أكبر خانًً، إضافة إلى عدد من الفنادق والأسواق التجارية، مع أن هذا القائد لا يكف عن انتقاد الغرب والدول المجاورة لتدخلها في أفغانستان.

ويقدر البعض ثروة قائد آخر لـ "المجاهدينًً بما لا يقل عن بليون ونصف بليون دولار،علماًً بأن هذه الثروة لم تجمع كلها من أموال "الجهادًً فحسب، بل أيضاً من تجارة الأحجار الكريمة.

ينطبق ما تقدم،أي مبدأ "تقولون ما لا تفعلونًً في التجربة الأفغانية،على الشخصيات الدينية ايضاًً التي تتحدث عن فضائل الآخرة وهي احرص الناس على الدنيا وما فيها. وعلى الهيئات المدنية التي ترفع شعار محاربة الفساد،وتحوم حولها الشبهات والتهم. إن الالتباس ينشأ من التداخل الذي يحصل بين "الصح والخطأًً او بين الحق والباطل. بين ما يدعو اليه هؤلاء من حق وبين ما يمارسونه من باطل او من خطأ.ًً بين ما يقولون وبين ما يفعلونًً في الوقت نفسه... وحتى بين ما يقوله بعضهم وما يفعله البعض الآخر في الجمعية نفسها، أوفي التنظيم الحزبي نفسه،او في الهيئة الاجتماعية نفسها. عندما تبلغ القدوة هذه الحالة تصبح "قدوة ملتبسةًً،وتفقد تدريجاًً البريق الذي كان لها،ولكن من دون ان تفقد تماماًً الاقتداء بها.وهذا جوهر الالتباس المقصود.أي التساؤل عن مدى استمرار صدقية تلك القدوة، وفي الوقت نفسه استمرار الالتزام بها وتأييدها كشخص أو كفكرة.ويشير الامام الخميني في كتاب " الجهاد الأكبرًً الى هذه الظاهرة عندما "يفقد العلماء ثقة الأمةًً.أي عندما "لا يكون توجههم الى الله،وعندما يهتمون ببهارج الدنيا، وعندما يكون همهم المصالح الشخصية كما يفعل الآخرون،...ويقول الآمام لهؤلاء العلماء:أن الأمة اذا رأتكم متنازعين على الدنيا ومتخاصمين من اجل اهوائكم واتخذتم الدين دكاناًً ومتجراًً..فإن الأمة ستنحرف...وتسئ الظن بكم،وأنتم المسؤولون حينئذ عن ذلك كله.ًً(ص 29).اي ان الأمة ستكف عن اعتبار العلماء قدوة لها.وقد تتخذ رموزاًً أخرى قدوة بديلة.

إن التجارب السابقة كلها في بلاد الشرق والغرب من دون استثناء،تقول لنا بأن القدوة كشخص، أوكفكرة، وخصوصاًً كبيئة من السلوك ومن القيم، تفقد بريقها وًًقدسيتهاًًمتى تعرضت للتساؤل عما "يقولون وعما يفعلونًً. أو عندما تعجز تلك القدوة عن تحقيق الاهداف التي وضعتها لنفسها،أو عندما تهتز الصورة التي تشكلت عن تلك القدوة من خلال تجربتها "الملتبسةًً، كما في نموذج بعض المجاهدين الأفغان...وفي نماذج أخرى كثيرة. هذا ما حصل عبر التاريخ وهذا ما سيحصل في المستقبل،حيث ستخلي مثل هذه القدوة ورموزها مكانها ومكانتهم لقدوة أخرى....

*القدوة الأهمية وتحولات الدور، سلسلة الندوات الفكرية، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


* استاذ علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية.

2015-09-28