يتم التحميل...

القوة الناعمة (تأصيل نظري–تاريخي)

الحرب الناعمة

قبل أن نعرض لظروف نشأة مفهوم الحرب الناعمة، لا بد لنا من تبني تعريف علمي ما، يندرج في جملة تعريفات رائجة في حقل البحوث الإستراتيجية العسكرية والسياسية.

عدد الزوار: 31

قبل أن نعرض لظروف نشأة مفهوم الحرب الناعمة، لا بد لنا من تبني تعريف علمي ما، يندرج في جملة تعريفات رائجة في حقل البحوث الإستراتيجية العسكرية والسياسية. " فالقوة الناعمة مصطلح يستخدم في نطاق نظرية العلاقات الدولية، ليشير إلى توظيف ما أمكن من الطاقة السياسية، بهدف السيطرة على سلوك واهتمامات القوى السياسية الأخرى المستهدفة من خلال وسائل ثقافية وأيديولوجية"1.

لدى مطالعة التعريف المدرج، يمكننا من ناحية أولية استنتاج مغزى القوة الناعمة وما تشمل من أعمال مخططة ومنظمة، الغاية منها تثمير الطاقة السياسية، بهدف الهيمنة على القدرات والمقومات السياسية لدى الآخر المستهدف. بمعنى غزوه ثقافياً وأيديولوجياً، وتحويله إلى بلد مسيطر عليه من دون أن تظهر هوية الفاعل الحقيقي. والمقصود بالفاعل الحقيقي بشكل أساس، الولايات المتحدة الأمريكية، الناظم المولّد لنظرية القوة الناعمة، والأمين على مشروعيتها وإعطائها بعداً" أكاديمياً إستراتيجياً دونما وازع، وتحت عنوان زائف، يزعم تعزيز الخير العام لشعوب الأرض وحماية الديمقراطية من خلال منطق الفهم الأمريكي. إن حرص الولايات المتحدة على السلام العالمي ومسيرة الديمقراطية المزعومة يفترض تمايز عناصر القوة لديها، ولعل أفضل من عبر عن أماني الولايات المتحدة وضرورة تمايز قوتها هو "روبرت غايتس" (Robert M. Gates)، وزير الدفاع الأمريكي الحالي. ففي مؤتمر حول قضايا الدفاع قال "غايتس": إن رسالتي اليوم ليست حول موازنة الدفاع أو القوة العسكرية. رسالتي تتعلق بكيفية مواجهة أمريكا للتحديات الدولية القادمة في العقود المقبلة. وأفترض أن على أمريكا أن تبتكر مظاهر أخرى لقوتها القومية بهدف مواجهة التحديات الخارجية. ووفقاً لخبرتي التي خدمت من خلالها سبعة رؤساء، وكمدير سابق لوكالة الاستخبارات الأمريكية ( CIA )، ووزير دفاع حالياً، أقول لكم إنني أتيت إلى هنا لأعزز فكرة استخدام القوة الناعمة لكي تصبح قوة فاعلة رديفة للقوة الصلبة2.

من الناحية النظرية، يعتبر "جوزيف ناي" (Jozef S. Nay) المنظر الأساس لمفهوم القوة الناعمة. يطرح ناي في مؤلفاته إستراتيجيات بارزة من أجل إنجاح سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في السياسة الدولية. و "ناي"، الذي شغل منصب مساعد سابق لوزير الدفاع الأمريكي، ودرس بدقة تكلفة حروب أمريكا الباهظة في أفغانستان والعراق، وجد أن وزن أمريكا الدولي لم يعد كما كان في السابق، وأن شعبية بلده قد تدنت بشكل حاد في البلدان الإسلامية. انطلق "ناي" من فكرة أن الناس قد عرفوا القوة الصلبة ( المباشرة عسكرياً) والجبروت العسكري والاقتصادي للولايات المتحدة. وأدركوا، بالمقابل، أن استخدام القوة المباشرة والتهديدات الصريحة من شأنه أن لا يحقق النتائج المرجوة. في حين أن استخدام الوجه الثاني للقوة، أي القوة الناعمة، سيجذب الآخرين ويرفع مستوى الإعجاب بالسياسة الأمريكية. فالقوة الناعمة تجعل من الآخر يريد ما نريد من دون إرغام ! كما وإنها العنصر الثابت في السياسة الديمقراطية، والمعين الأساس للقوة الصلبة، التي يفترض الحفاظ على هيبتها، وتخفيف انعكاساتها المعنوية السلبية على الولايات المتحدة3.

من الناحية الإجرائية، تجيز نظرية الحرب الناعمة خطط الحرب غير المباشرة "كاللعب بقواعد الخصم، وخلق حالة من التشكيك في الثوابت والمعتقدات التي يتبناها الخصم. وفي مظهر الحرب الناعمة، يتمظهر الاشتباك مع الخصم الخارجي بلون محلي تماماً، بمعنى أن يتبلور حضور الوكيل المحلي في إطار بيئة حاضنة لأهداف الخصم بطريقة غير مباشرة. وفي هذا السياق يستعير الوكيل المحلي خطاباً وطنياً حماسياً لا يثير أية شبهة من حوله. بل، ومن الأفضل أن يتبنى هو بالكامل مجموعة الثوابت المشكك فيها"4.

يتضمن كتاب " ناي" خمسة فصول يعرض من خلالها للطبيعة المتغيرة للقوة، ويبحث في مصادر القوة الناعمة لدى الولايات المتحدة، مقارناً إياها بمصادر القوة ذاتها لدى الآخرين. وفي فصول كتابه يعرض لأسس استخدام القوة الناعمة، وعلاقتها بالسياسة الخارجية الأمريكية.

تحت عنوان "وراء القوة الناعمة والقوة الذكية: قوة فائقة"، يناقش "ستيف هامونز" (Steve Hammons) أفكاراً ومبادئ مرتبطة بالقوة الصارمة، والقوة الناعمة، أو الذكية، معتبراً أن استخدام هاتين القوتين، يحقق ما يسميه "القوة الفائقة" أو "القوة التجاوزية" (Transcendent Power). ترتكز "القوة الفائقة" برأيه على مجموعة من الموارد، وتستند إلى دمج عناصر الإفادة من مجموعة واسعة من الموارد والأساليب التي تربط بنحو مستديم بين القوة الناعمة والقوة الصلبة. فالقوة الفائقة تتضمن استخدام الدبلوماسية العامة، والموارد الثقافية الأمريكية، والعمليات الإنسانية، وقواعد حفظ السلام، والعناصر الاستخباراتية القائمة على المعلومات البشرية. كما، وتستخدم العمليات ذات التأثير النفسي ( الحرب النفسية )، وسائر العمليات الدفاعية والتكنولوجيات المتقدمة وغيرها من الوسائط الهامة المختلفة5.

أما " ليزلي جلب " (Leslie Gelb)، الباحث الإستراتيجي، وأحد أبرز منظري السياسة الخارجية الأميركية، فيرى من خلال كتابه "قواعد القوة" (Power Rules) أن الحس السليم بإمكانه أن ينقذ السياسة الخارجية الأمريكية من مأزقها، وأن يخفف حدة الاستياء العالمي منها6. وهو، وبالرغم من تسليمه بأن قوة الولايات المتحدة قوة لا تقاوم، وهي مطلقة ولا جدل يقبل حول ذلك، فإنه وجد أن هذه القوة يفترض أن تكون على مستوى من الإتقان، لتصبح مزيجاً من القوة العسكرية والتفاوض الدبلوماسي القائم على الإكراه والإقناع. وفي كتابه يحاول إثبات وجهة نظره من خلال سلسلة من دراسات حالة (Case Studies) تبحث في نجاحات وإخفاقات الولايات المتحدة في العلاقات الدولية أثناء النصف الأخير من القرن العشرين، والعقد الأول من القرن الحالي. وفي استنتاجات "جلب" تظهر هشاشة فعل التهديدات العسكرية وحدها، والتي لاتحل المشاكل برأيه بقدر ما تعقدها. وهو يقترح اتباع نهج الحس السليم، كنتاج إبداعي، يجمع بين إستراتيجيات القوتين، الصلبة والناعمة. ويركز "جلب" في كتابه على عناصر خمسة أساسية هي:

السعي لجعل أمريكا قادرة على استعادة ديناميتها الاقتصادية العالمية.
التأكيد على انتهاج مبدأ الدمج بين القوتين: الصلبة والناعمة لإعادة إنتاج موقع الولايات المتحدة في القرن الواحد والعشرين.
التحديد الواضح للتحديات والمخاطر التي تتهدد الولايات المتحدة، كالإرهاب، والتهديدات الاقتصادية، والمشكلات الصحية والبيئية.

استخدام السبل الوقائية والتعامل مع المشكلات المتوقعة قبل حصولها.
استخدام القوة في ظروف محددة، وأسلوب الإكراه في المواقف التي لا تحقق فيها القوة الصلبة النتائج المرجوة. ويخلص "جلب" في مؤلفه إلى دعوة الولايات المتحدة لانتهاج سياسة اعتدال في العلاقات الدولية، من أجل حماية مصالحها في العالم.

وفي مؤلف "منفعة القوة" (The Utility of Force) يوجه "روبرت سميث" ( Rupert Smith )، وهو أحد جنرالات بريطانيا نقداً لمنهج الحروب التقليدية7، ويرى، أنه لم يعد بإمكان الآلة العسكرية التقليدية منفردة حسم الصراعات وتحقيق الانتصارات، مستنداً إلى أمثلة تاريخية عن تجارب الولايات المتحدة في فيتنام، وفرنسا في الجزائر، محللا نتائجها ونتائج حروب أخرى.

ففي كتابه، لا يدعو إلى استبعاد القوة العسكرية، وإنما يحاول تأكيد فكرة أن أساليب الحروب التقليدية لم تعد كافية، ما يتطلب استخدام منظومة مختلفة عن منظومة المواجهة بين الجيوش التقليدية.

*الحرب الناعمة مقومات الهيمنة وإشكاليات الممانعة , سلسلة الندوات الفكرية , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


1- U.C. Manal ، Dictionary of Public Administration ، Sarup & Sons
2- Secretary of Defense Reports 2006-2008 . Understanding The New Defense Policy Through The Speeches of Robert M. Gates ، US Amazon . com
3- جوزيف ناي، القوة الناعمة وسيلة النجاح في السياسة الدولية، ترجمة محمد توفيق، ص. (4-5 ) بتصرف .
4- جريدة الجريدة،( العدد 1024 )، محمد صادق الحسيني، 30/8/2010.
5- .Title: Beyond Soft Power And Smart Power Transcendent Power .http://epages.wordpress com/2009/02/26
6- Leslie H. Gelb ، How Common Sense Can Rescue American Foreign Policy – Cover Page – Amazon . com
7- Leslie H. Gelb ، How Common Sense Can Rescue American Foreign Policy – Cover Page – Amazon . com.Rupert Smith،The Utility of Force ، Introduction . Bames & Noble ،2008

2015-09-08