يتم التحميل...

القدوة ضرورة ونجاة

الحرب الناعمة

أمام ما يحيط بنا من تردّ، وأمام هذه الهجمة الشرسة على أمتنا، وفي ظل هذه الحراك الشعبي والثورات المناهضة للأنظمة الهرمة والمهترئة في عالمنا العربي، أضف إلى الانقسامات الفكرية التي تعصف بالعقول، والتي ربما تكون نتيجة لسياسة

عدد الزوار: 43

الدكتورة باسمة زين الدين *
أمام ما يحيط بنا من تردّ، وأمام هذه الهجمة الشرسة على أمتنا، وفي ظل هذه الحراك الشعبي والثورات المناهضة للأنظمة الهرمة والمهترئة في عالمنا العربي، أضف إلى الانقسامات الفكرية التي تعصف بالعقول، والتي ربما تكون نتيجة لسياسة " الباب المفتوح " وعلى مصراعيه أمام الأفكار المعلّبة الجاهزة الغربية عن قيمنا وتقاليدنا وأعرافنا، كما الترويج لها عبر الضخ الإعلامي من خلال الحشد الهائل والزخم الكبير للفضائيات والانترنت في تقديم وجبات سريعة، إن للصغار أو للكبار في محاولة لإعادة برمجة الأدمغة وسوقها إلى حيث تشاء نكون أو لا نكون، حيرة أم عجز.

كيف السبيل؟ بل أين المفر؟
زمن يعيش فيه شبابنا وشاباتنا من أبناء الجيل في مأزق كبير وحيرة أكبر، أو ربما هو شعور بالعجز أو الضعف. هذه الحيرة في تحديد الأولويات أو حتى المهمات، أو الحيرة في تحديد مطالب الحاضر وكيفيّة التعامل معه، ناهيك عن النظرة إلى المستقبل، وهل بالإمكان الوصول إليه في ظل هذا الواقع المتردي المعاش؟


حجر نلقيه في حضن الكبار من أبناء أمتنا الذين نُعيب عليهم هذا التساقط الذليل، هذا العري الملتصق بالمخادعة للواقع في محاولة بائسة منهم لتغطية هذا العري بالنقوش، بالوشم، بالانزواء أو بالخوف من مواجهة الشمس. ولكن أي حجر،لا بل أية حجارة نرميها في دم متخثر، وهذا هو السؤال الذي يواجه الشباب والشابات، كيف يمكن أن ننقذ ما تبقى من إنساننا ومجتمعنا؟ وهل بإمكانًً القشةًً أن تنقذ الغريق؟

تجربة نخوض غمارها في الحياة، ونحاول الخلاص كي لا نمعن في الغرق، وكي لا يبقى الموت يحمل سكينه ويتهدد الأحياء، نفتش عن مفردات الحياة وعناصر البقاء، ربما يتطلب الأمر معجزة من السماء أو مخلصاً يعيد تركيب الأشياء، أو أنموذجاً ولو في الهواء، حلماً نعيشه ولو في العراء،من هنا نبحث عن حل،عن الخلاص، عن نور في نهاية الدهليز نريد أن نصل إليه ولو بعد عناء!.

غريزة فطرية وطبيعة بشريّة، ملحة في كيان الإنسان التي تدفعه نحو التقليد والمحاكاة، وخاصة الأطفال، فهم أكثر تأثراً لأنهم يعتقدون أنّ كلّ ما يفعله الكبار صحيحاً، فقد ورد في موسوعة العناية بالطفل:ًً "يبدأ الطفل في سن الثالثة يدرك بوضوح أكثر أنه من الذكور، وأنه سيصبح يوماً ما رجلاً كأبيه، وهذا ما يحمله على الشعور بإعجاب خاص بأبيه وبغيره"1.

من هنا فالإنسان لا يستطيع أن يبدأ من الصفر، بل لا بد من الإفادة ممن سبقوه في الحياة، وكانت لهم تجارب وخبرات يتوسم فيها من عرفها طموحه، ويلبي حاجاته ومن ثمة ينطلق.

إذن هي الحاجة التي تدفع بالإنسان العاقل لأن يتخذ أنموذجاً ومثالاً كاملاً وراقياً وواقعياً في آن معاً يُعجب به إما في حياته كلها أو في جزء منها، كأن تجد في الحياة من يمكن أن يُقتدى به في إنجاز معين، أو تطور ما، أو خبرة محددة، أو صفة من الصفات المحببة، كأن يقال مثلاً: فلان قدوة في البذل والتضحية، ولكنه لا يتصف بالعلم مثلاً، ويقال إن فلاناً قدوة في طلب العلم دون الشجاعة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما يقال إن هذه السيدة قدوة في الأدب واللباقة ولكنها ليست على قدر من العلم.أما الموفق فهو من ضرب من كلّ خير بسهم فيكون له باع في كلّ فضيلة وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

إذن الحياة بالنسبة للإنسان تعتبر تجربة جديدة، لأنه يأتي إليها لسفرة واحدة فقط، غير قابلة للتكرار، ويواجهها دون سابق خبرة أو معرفة، لذا فإن الفشل في تجربة الحياة لا يمكن تداركه أو تعويضه، وكما يقول القرآن الكريم: ﴿ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِين2 ولكن كيف يُنجح الإنسان تجربته الواحدة والوحيدة في هذه الحياة، وهو يواجهها كمتاهة واسعة، مزروعة بالألغام، مليئة بالشهوات والمغريات، تتشعب فيها الطرق، وتتعدد الخيارات؟

إنه بأمس الحاجة إلى خريطة واضحة المعالم، تدله على طريق النجاة، وتنبهه على مناطق الخطر، هذه الخريطة تتمثل بذلك المخلص من المتاهة، أو ذاك النور المضيء وسط الظلام، أو ما نسميه بعبارة أخرى المرشد والدليل الذي نتتبع خطواته بدقة وحذر داخل حقل ألغام ومتفجرات.

إنها القدوة سبيلنا للوصول حيث الأمن والطمأنينة، فهي التي تشعرنا بالثقة وتحثنا نحو الخير وتدفعنا لتجنب العقبات ومحاولة الخروج من مهالك ومتاهات تعترض طريقنا وتخرب حياتنا. هذه القدوة التي نختارها بملء إرادتنا لا بانصياع أعمى، وقد يختلف بعضنا عن الآخر في اختياره القدوة وذلك حسب ميوله، فمنا من يجعل اللاعب الرياضي الفلاني قدوته لأن اهتمامه بالرياضة ومنا من يختار الفنان الكذا قدوته لأن اهتمامه بالفن كبير، ومنا ومنا القليل القليل من يعش دون قدوة.

نحن بشر والبشر بحاجة كي ترتقي وتتقدم، ليس إلى قيم مجرّدة، أو صور صامتة، أو حكايات خياليّة، أو نصوص شعريّة، أو حتى أغاني ثوريّة، بل نحن بأمس الحاجة إلى نماذج حيّة من البشر، يصح التماهي بها والاستنارة بهديها.

نحن البشر، بحاجة إلى بشر مثلنا، يجسدون القيم ويثبتون أنها قيم ملموسة ومعيوشة، وفي متناول الجميع، أما إذا لم يعشها بشر مثلنا، من لحم ودم، فإنها تبقى مفاهيم مبهمة غامضة، وتبدو نظريات غير واقعيّة، وهذا لا يعني إلغاء أو مصادرة لرأينا وإرادتنا، أو ممارسة لضغط ما علينا، بل يجب أن يصاحب هذا التتبع والاهتداء قناعة وتصميم ووعي وإرادة وعزم.

وإذا كان تعريف القدوة أتباع شخصية تُحدث انبهاراً وتترك آثاراً لتجذبك نحوها بفعل أفعالها وجمال أقوالها وحسن سيرها وسلوكها.
هذا ما دفعني إلى اتخاذ تجربة المقاومة مثالاً أجده الأقرب إلى الواقع، محاولة تقديم ثلاثة نماذج بشرية من تلك الروح الجهادية التي صدقت القول بالفعل لينطبق عليها قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: "الموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين"3 .

مثال حي من واقعنا اللبناني، حيث نقرأ المعاناة والظلم والقتل والموت حياة جديدة تفتح أمامنا بوابة كبيرة لها ألف باب وباب، وكلّ باب يدخلنا على ما هو أرحب وأغنى. إنها تمثل التجربة الحيّة الميدانية، بما تحمل من التزام بالقضيّة وتمسك بالقيم والمبادئ وتحقيق الأهداف النبيلة الساميّة، تجربة تحكي قصة قلة قليلة من الذين صدقوا العهد لأنهم آمنوا بربهم ونذروا النفس للفعل المغيّر المقاوم وما بدلوا تبديلاً.

نمر على معقل من معاقلهم لنربط جسور الحوار والتواصل، حوار ينفض غبار الموت والهزيمة، ويكتفي بمعانقة النصر بلغة الصمت والعزيمة.
الحديث عنهم تجده يسعى إليك ولا تسعى إليه،لذلك فهو يتدفق كالشلال قصيدة،والقصيدة لا نختار لها موعداً ولا نختار لها مكاناً،هي تحل متى تشاء وأنى تشاء،هي تحل في أي وقت وفي أي مكان،ولذلك ليس لدينا إلا أن نؤرخ حروفها بحبر العناق،وإلا فتنفلت وتذوب حيث الفراغ.

هؤلاء فتية تجمعوا في وديان الجنوب وقرى البقاع،حملوا الأيام ولم تحملهم الأيام، جسومهم مثقلة بالهم والأسى والمعاناة داخل بحر متلاطم الأمواج يريدون الوصول حيث الشاطئ شاطئ غربة ووحشة في حياة رصيدها ذكريات وأي ذكريات؟

في الزمن الصعب،لا بل في الزمن الأزرق الذي تُعقد فيه الصفقات، وتُباع في سوقة الكرامات ويتم فيه التنازل بسهولة عن كلّ القيم، عن كلّ المبادئ عن كلّ الشعارات، يبقى هؤلاء في كهوفهم، في عزلتهم التي أبعدتهم قسراً عن الأحبة والأصدقاء، عن متاع الدنيا يخترقون بإيمانهم الفرق السوداء ويكتبون بجهادهم ودمائهم لغة السماء،فهم أصدق من على الأرض،لأنهم تحولوا بفعل إيمانهم من أحياء إلى عالم الشهداء....

وسأكتفي في دراستي هذه وكما أشرت سابقاً بنموذج الشهداء، دون الأحياء لأن المقام لا يحتمل، فالشهداء ذهبوا لأجلنا ولأنهم وبإرادتهم ما تحملوا الحياة ذليلة، مستباحة، معطلة، بل أكثر من ذلك واجهوا الموت بابتسامة وإقبال لاعتقادهم بأن الموت يصنع الحياة، وأية حياة هي، إنها الحياة العزيزة الحرّة.

الموت الذي تحقق بفعله انتصار القيم والمبادئ.
الموت الذي جعلنا نثق بقدراتنا وإراداتنا وعزمنا وتصميمنا.
الموت الذي أكد فعلنا ودورنا وتأثيرنا في الحياة.
الموت الذي رفعنا من أسفل درك إلى أعلى الدرجات
هذا الموت ألم يعطي معنى للحياة؟

ألا يستحق الشهيد أن يكون قدوة وبلا منازع هذه القدوة التي اتخذت لدورها قدوة وأية قدوة.

" ولكم في رسول الله أسوة حسنةً ًهذا النبي الأمي الذي قرأ ونطق بما لم ينطق به أحد، وجاء بما لم يستطع أحد أن يأت به ولو اجتمعت الجن والأنس أو كان بعضهم لبعض ظهيراً"، هذا النبي القائل:ًً "إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي ابدا"ً. ونحن نقول: نعم لقد تمسكوا بهما وساروا في الأرض وتفكروا في خلق الله وعرفوا سُبل الصراط. كيف لا وهم يقدمون لنا أغلى ما عندهم في سبيل إحقاق الحق وإزهاق الباطل .

هذا الشهيد الذي قدّم حياته رخيصة على مذبح الكرامة ، وهو لم يفعل هذا الأمر لأنه مستهتر بالحياة، أو لأن الحياة لا تعنى له شيئاً بدليل أن بين صفوف الشهداء نجد من هم في الطليعة، فمنهم من يحمل الإجازات الجامعية، ومنهم من كان يعمل في أماكن مهمة ويحملون ألقاب كبيرة ومنهم من ترك بيته وعائلته وهم أحوج ما يكونون إليه.

إننا نقارب حالة إنسان ترفّع وسمى وصار في الدرجات العلى، ولم يعد باستطاعة نظرنا اللحاق به، أو النظر إليه، ولا يسعنا إلا أن نقول في ذلك لأهل الشهداء لا تحزنوا على من فقدتم، إنما الحزن لأن الكثير من الجهلة والأغنياء ما زالوا أحياء!

لقد حاول الأعداء وعملائهم استغلال الفرص وانتهازها ليعطلوا الذاكرة، في محاولة لكتابة تاريخ جديد بأصابع غريبة مأجورة تشحن النفوس حقداً وضغينة لتضيع القضية، ولكن أنى لهم ذلك وفي الأمة ﴿رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً4 .

عندما ندخل عالم الشهداء،لا بد أن نسرع ويسرع الزمان ليلحق بخطواتهم، فهم استمرار فاعل ومتفاعل صعوداً في حركة التاريخ وحتى الجغرافيا. لو أردنا الاطلاع على مسالك دربهم لتقاسمنا مثلهم العليا، وأول ما يستوقفك إخلاصهم والوفاء " العمل بلا إخلاص ولا اقتداء كالمسافر يملأ جرابه رملاً ينقله ولا ينفقهًً"5 وهي صفة ملازمة أبداً لشخوصهم، وهي صفة تحمل كلّ الصفات، إن في العمل الذي أختصر مسافات ومسافات في العطاء والتضحيّة، وإن في عقولهم وتفكيرهم النّير العبقري نسخة مفردة،كفاءات وقدرات وهم وعزائم شباب التحموا في دائرة واحدة وكتبوا بأيديهم الشعار ليرسموا فيما بعد بدمائهم الزكيّة خريطة الوجود الإنساني المستحق فعلاً للعيش والبقاء فهم يبعثون اليقظة في الغفلة، ويفجرون الثورة في أعمق الأعماق: إنهم فعلاً أهل العطاء..

والسؤال: كيف نقرأ فيهم احتياجاتنا، وكيف نتوسم فهم طموحاتنا، وهم على ما هم عليه من الزهد والابتعاد عن كلّ ما يمت إلى هذه الدنيا بصلة، لإلى هذا العالم الدنيوي الذي يلتصق واحدنا به وكأنه باق أبد الدهر.

الجواب إن ما أذهب إليه في عرض هذه التجربة، هو أننا لا يجوز أن ننتظر ممن لم يُحسنوا تربية أنفسهم ودعوتها للعطاء والبذل وترويضها لجميل العمل وسمو التواصل مع الآخرين، لا يجوز أن ننتظر من هؤلاء الذين لم يُحسنوا لأنفسهم أن يُحسنوا لغيرهم ، لأن " فاقد الشيء لا يعطيه ً".

إنه لمن البديهي القول إن أخطر الناس وأشيدهم ضرراً للأمة أولئك الذين ساءت تصرفاتهم وأفعالهم، لدرجة أنهم فقدوا الإحساس والشعور بالآخرين واضعين نُصب أعينهم ذواتهم وأنفسهم الضالة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً،إنهم فقراء الأخلاق، فقراء حقاً ويستحقون منا الشفقة والدعاء لهم لأنهم، وكما جاء في القرآن الكريم: ﴿.الأخْسَرِينَ أَعْمَالاً6 . وهذا لا يعني حتماً أننا نعطيهم الحق فيما يذهبون إليه أو نبرر أفعالهم، أبداً إنما هو محاولة إرجاعهم إلى جادة الصواب، والمحاولة يجب أن تتبعها محاولات، كنقطة ماء تستمر تساقطاً على صخرة ، وهو الدور المنوط بنا لإنقاذ هذا الجزء المريض من جسمنا،لأن المنطق يحتم علينا ذلك فنحن وهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.

إن تجربة السادة الشهداء لا ندرسها وإن بشكل مختصر من أجل عرض بطولات أو سرد أحداث حصلت في لبنان، ولا من أجل المعرفة التاريخيّة لحقبة زمنّية من تاريخ هذا الوطن، ولا محبة وعشقاً في دراسة سير العظماء والأبطال. ذلك النوع من الدراسة سطحي وينم عن جهل بأصل مبدأ الإتباع والاهتداء والاقتداء، وعدم الإدراك بأن هذا من لوازم المحبة، وإما لعدم إدراك مواضع الاقتداء فهم لضعف الملكة في الاستنباط أو لقلة العلم، والاطلاع على جملة الدروس التي يمكن استخراجها واستنباط الفوائد والعظات منها واستخلاص العبر من درسها، كي نفهم كيف نتصرف أمام العقبات والصعوبات، وكيف نتخذ المواقف الصحيحة أمام الشدائد والفتن. وهنا لا بدّأن أذكر أن الكثير من سير عظماء التاريخ أصبحت أضحوكة على مر السنين، فأين النمرود الذي قال لإبراهيم النبي عليه السلام ﴿أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ7 .

وأين جبروت فرعون وشأنه العظيم والذي قال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى8.
وقال: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي9.

إن هؤلاء العظماء في زمانهم يسخر منهم اليوم الصغير قبل الكبير، والجاهل قبل العالم ، فإذا كانوا قد داسوا على أقوامهم في زمنهم، واستخفوا بهم فأطاعوهم كرهاً وقهراً، فقد افتضح أمرهم بعد هلاكهم، وأصبحوا محل سخريّة واستهزاء على مدار الزمن.

إنّ دراسة تجربة المقاومة من الأهمّية بحيث أنها تجسّد صورة عمليّة تطبيقيّة فعليّة، وسير هؤلاء الأبطال سواء من بقي منهم على قيد الحياة، أو من تمرّغ في العذابات والقهر داخل سجون الطغاة من أسرى، أو من رحل بالجسد حيث العلى شهيداً، تاركاً أُسر وعائلات تُعطي أفضل الصور عن معنى وجوهر الحياة، هذه السير لا بد أن يستقي منها العطشى أساليب العيش لكل مراحل الحياة....
ويستقي منها الدعاة وكل منظمي حقوق الإنسان...
ويستقي منها المربون طرق التربية ووسائلها...
ويستقي منها القادة نظام القيادة ومنهجها...
ويستقي منها الزهاد معنى الزهد ومقاصده...
ويستقي منها التجار مقاصد التجارة وأنظمتها وطرقها...

ويستقي منها المبتلون أسمى درجات الصبر والثبات, وتقوى عزائمهم على السير على نهجهم والثقة التامة بالتسديد والنصر من الله تعالى لأنه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ10 إنّ القدوة في التربيّة على الشهادة، تؤدي إلى فعاليّة التأثير والبنيّ لنهج الشهادة.11

وهكذا انطلقت مسيرة المقاومة، لينطلق الركب، وعلى رأسه قيادة حكيمة تجمع في شخصها بين اثنتين:إرادة قويّة لا تصدّ ولا تردّ لأنها انعكاس اليقين، ولأنها مستمدة من القوة الإلهيّة العليا التي بها تؤمن، وثانيها منهج متكامل حدّد الهدف وسمع تماماً لصوت العقل الراجح والراشد.

وهنا لا بد من فتح المزدوجين لأقول: هذا العقل الذي قرّر المصير، ووفر الإدراك الحقيقي للمعطيات الفعليّة تقرير المصير، وأمّن لنا الحكمة السياسيّة بل الحكمة الإنسانيّة ببساطة، وتبين في نفس الوقت كلّ التعقيدات والشوائب، ولذلك لا بدّ من أن نعي الصلة الحركيّة العضويّة بين الفكر والحياة وبين المفهوم والسلوك.

إن عقلاً كهذا شُرف به الإنسان عن سائر المخلوقات، يجب أن يكون موضوعياً ويعتمد الأسلوب الأخلاقي في غاياته، حتى تكون نتائجه يقينيّة، يربط الأسباب بمسبباتها، ويعتمد الحجج والبراهين والمقدمات ثم الأدلة والبراهين.

هذا العقل الذي يُلزم صاحبه بمسؤولية كبيرة تجاه نفسه وتجاه مجتمعه على اعتبار أنه خليفة الله تعالى على الأرض، وفي هذا السياق عبّر الإمام المغّيب السيد موسى الصدر بالقول:ًً إن الإنسان خليفة الله في الأرض بالعلم والإرادة فالوصول إلى هذا المقام المنشود، والتصرّف في الكون، والتسخير لقواه لا يمكن إلاّ بمعرفة الأسباب وتعلّم الأسماء ( على حدّ تعبير القرآن)،وكلّ خطوة في سبيل معرفة الحقائق، واكتشاف قوانين الكون، في أي حقل من الحقول، خطوة نحو الهدف المقدس المهيّأ للإنسان، وتحقيق الغاية التي خلق الإنسان لها، وأداء لواجبه الكوني.وقد كلف الله الإنسان السير في هذا الخط في مراحل ثلاث: بالفطرة، بدعوة الأنبياء، بالمصائب والمحن الناتجة عن تقصيره وقصورهًً. 12

إذن العلم هو الشرط الأول من شروط المسؤول والقائد، هو العلم الذي ينير ويضيء لا العلم الذي يهدم ويدمّر، فلا بد أن نضع مقاييس ومعايير ضمن دائرة الخير والتي لا تخدم إلا الخير ولا يمكن أن تصدر إلا عن خيريين. وتأتي بالدرجة الثانية الإرادة لأن حياتنا ليست صدفة ولم نخلق عبثاً، بل نحن نعيش مجموعة من الأقدار التي ترسم الكثير منها بأيدينا، وعليه فكل إنسان لديه إرادة مع أن هناك الكثير ممن يتحدثون في العلن أنهم لا يملكون إرادة وكأنهم يفتخرون بذلك، مع أنهم لو فكروا قليلاً لوجدوا أنهم بحديثهم هذا يقتلون العملاق الذي في داخلهم،يدمرونه، ويقتلون بالتالي الأمل.

الأمل بيت القصيد،هذا المناخ الإيجابي الذي تركت آثاره الأعمال البشريّة على كلّ ما يحيط بها من مكونات وجودّية، هذا الأمل، هذا المناخ مطالبة به القيادة والتي نعود إليها بعد المزدوجين لنبّين عظمة القيادة والتي اتخذناها قدوة كأنموذج بشري كان حياً في وقت من الأوقات، وعاش مرحلة عصيبة من الزمن، قصدت شخص الأمين العام السابق سماحة السيد عباس الموسوي ( رضوان الله تعالى عليه)، هذه الشخصيّة العالمة المسرعة في خطواتها وليست متسرعة في استيعابها للمرحلة بكل مناخاتها وشروطها، رغم أن مناخاتها كانت أشكال وألوان، وشروطها كانت قاسية وصعبة،إضافة إلى أمراض مركبة ومتداخلة فحسبها التآكل الأخلاقي والإنساني في الممارسات التي كان يسود الأوساط، هذا فضلاً عن التشنجات الطائفيّة والصراعات الحزبيّة اللاموضوعيّة، ولعبة الثقافة المشبوهة والتي تمثل حرباً على الأصالة، ناهيك عن الهيمنات الخارجيّة، أو الحروب التي أرادها البعض على أرضنا ولأرضنا، لنعيش في وطن الغربة أو في غربة الوطن. كما أنه لم يغب عن بال هذه القيادة الحكيمة عند انطلاقة مسيرة المقاومة أن مثل هذه الخطوة ستعترضها مصاعب وعقبات ومطبات لا يمكن حصرها الآن في بعض من الصفحات، كما أنه لم يثن هذه القيادة فشل عمليّة هنا أو إخفاق في رد عدوان هناك، أو ما يصوّب إليها من سهام إلا أن تقف كوقفة ملهمها ومرشدها وباعث النور فيها الإمام الحسينعليه السلام عندما وقف وحيداً فريداً ليس له ناصر ولا معين يتلقى بجسده الطاهر السهام والحراب، وهو يتضرع إلى الله تعالى ويتوسل إليه القبول بكلمة: "أو رضيت يا رب"13.

هذه حكمة القيادة وهذا دليل صبرها وتحملها، والحكمة تقتضي تحمل ما اتخذته من قرار مناسب في وقت مناسب، وحكمة اعتماد الموقف المناسب أيضاً في الزمن المناسب، وهي قضية أساس نثيرها من وراء انطلاقة المقاومة، ولا نثيرها إثارة كلاميّة بل إثارة وجوديّة، وهي دعوة مفتوحة للتحوّل من صناعة الكلمات الرنانة والكبيرة إلى صناعة الأشياء، وصناعة الوجود بإقامة الحدود العادلة والقويّة.

هذا وقد كان مسيطراً في تلك الحقبة من التاريخ حالة من الإحباط والشعور بالعجز إزاء الأخطار المهددة والخوف من مواجهتها مواجهة قديمة سببها الإخفاق الكبير وتتالي النكسات والنكبات التي أصابت وفي المقتل الأمة العربيّة لتتركها أسيرة الهزيمة وتأطرها بإطارها.

هذا وقد نفضت هذه القيادة الواعيّة والثابتة رغم كلّ المحاولات والتغييّرات والمخاطر، نفضت عنها غبار الماضي السحيق لترى وتحيا حركة الصيرورة المتدفّقة عبر الماضي والحاضر والمستقبل، لا أن تتخبط وراء وجهات نظر متخفيّة أو ضائعة، بل كانت تسابق إلى رؤية الحقيقة وتلتزم صناعة جديدة خالية من التوهّمات والترسّبات،والتي هي وليدة دخان الماضي أكثر مما هي من نار الحق.

لقد كان على هذه القيادة أن تدفع عنها وعن مجموعها المقاوم هذه الغشاوة لتستمر في عملياّتها الاستكشافيّة للواقع الحقيقي ضمن إطار العمليّة الكاملة والمتكاملة حيث فرضت في أولوياتها مستلزمات عدة منها: منهجيّة المسار، وقيميّة الفعل، وقيادّية المرحلة، وبنيويّة القاعدة، وتربويّة الخط، وإعلاميّة الدفاع، لتقارب هذه الأمور مقاربة واحدة ولو بدت للوهلة الأولى متباعدة فإنها في حقيقتها متكاملة ومتلازمة.

لقد كانت هذه القيادة المخلصة للخط والنهج، والتي قدّمت خبرتها وتجربتها كأنموذج يُحتذى به، كيف لا، والسيد الأمين يدعو ربه بأن يُمزق جسده إرباّ إرباً، وكان له ما أراد. هذا السيد الشهيد كان مثال العالم الديني التقي الورع والقيادي المخلص والسياسي اللبق.

تدخل إلى شخصه الكريم فلا تجد سبيلاً للخروج ،وذلك في كلمته النابعة من علمه وإيمانه العميق وبشاشة وجهه وضحكته المتوسمة الأمل ونورانيّة قسماته، ثم خطابه الذي تتلمس بين سطوره الفائدة والحكمة والإيمان الصلب والعزم الوثيق، ثم تُختم رحلته المباركة بشهادة قلّ نظيرها،تبين صغر العدو وضعفه وقذارة أساليبه، لينقض بطائراته الحاقدة على موكبه وكأني به تألم لفراق حبيبه وصديقه الشهيد الشيخ راغب حرب في مناسبة استشهاده، والذي ذهب السيد الشهيد جنوباً ليحييها فيتعلق القلب بالقلب، وتصافح الروح تلك الروح التي رفضت أن تصافح العدو ووقفت وقفتها الأبيّة عند شيخ الكلام حيث قال: " الموقف سلاح والمصافحة اعترافً"14.

نعم في مناسبة الاستشهاد ، استشهد السيد الأمين ليترك لنا تجربة زاخرة في مشروع مقاومته التي لم تتوقف بها الطريق وإن كثرت الأشواك والعقبات وزادت، فالمسافة الزمنّية الواعيّة والمتحرّكة الفاعلة والمتفاعلة كفيلة بالإقناع والاقتناع وكفيلة بالتعليم والتعلّم.

أما الحديث عن نشاطات هذا السيد الشهيد وموضوعات بحثه، فالعقيدة كانت عنده قطب الرّحى ، وقد تمثلت حضوراً شاخصاً بين الناس انتهت إلى حركة نوعيّة ومستجدة في أرضنا، حاول كفكفة الجراح وبلسمة الآلام وهو القائل: " سنخدمكم بأشفار العيونًً"15.

لقد كان منبره المعلم الذي يزرع في كلّ قرية صوتاً رافضاً "إسرائيل الشر المطلقًً" 16،وان التعامل معها حرام، وقد اعتمد في محاضراته وندواته منهجيّة علميّة انسحبت زيارات يتفقد فيها كلّ مظلوم ومقهور ومعذب، وكلّ محروم، ولم تك في حساباته منطقة محددة أو قرية معينة، بل كان لبنان كله في لائحة مشروعة المتجوّل.

لقد استوعب مرحلة يصعب هضمها ، ويصعب التعامل معها بكل عقدها وغموضها وحساسياتها. لقد أدرك الداء وراح يشرح خطورة المرض وخطر استفحاله في جسد الأمة، وميزته لسانه الذي كان في قلبه ووعيه وكما يقالًً السهل الممتنعًً.

إنه النموذج في موضوعيته وتناميه، وحتى في استشهاده، حيث تحضر واقعة الطف بكربلاء من خلال مشاركة عائلته الكريمة الحاجة أم ياسر وابنه حسين، فهو كجده الحسين الذي شاركته عائلته والأطفال المصاب الجلل. لقد آمن بالدين قولاً وعملاً، وأخلص للنهج رؤية وممارسة لتتحول لحظة وداعه انتفاضة وثورة جعلت العدو ولو للحظة يندم على ما أقدم عليه، لأن الدماء الزكّية لا زالت متصلة بعضها ببعض من كربلاء الحسين حتى مجزرة الاستشهاد، لتعيد للأمة نبضها الحي حرارة في قلوب المؤمنين لن تبرد أبداً.

أفلا يستحق مثل هذا العظيم أن يُتبع ويُدرس في تفاصيل حياته الصغيرة بدءاً من ولادته المباركة وحتى يوم استشهاده؟ أليس حري بنا أن نجعله قدوة فنقتدي بهدية ونسير على دربه ونلتزم خطاه؟هذا على مستوى النموذج البشري الذي قدمته المقاومة في القيادة السياسيّة، أما على المستوى العسكري فالحديث يطول ولكن لا نستطيع الخوض في تفاصيل غير مسموح لنا الخوض فيها ، ولا نعرف دقائقها لأنها ملك فقط لأصحابها وهذا سر من أسرار النجاح.

إننا نقف عند قمة من قمم الشموخ، عند رجل جاء من أقصى المدينة يسعى، عند شاب فتح عينيه على قلب فلسطين وحب الوطن، عند هذا النموذج الفريد في عطائه وكفاحه،عنده وعنده فقط يحار الكلام ويعجز القلم وتختلط العبارات وتأخذها الدموع دونما قصد حيث كربلاء فتغُسل الذنوب وتُصفى القلوب وتخف المعاناة.

عرفناه عندما ودع الحياة، عرفناه بعد طول انتظار، عرفناه بعدما طاف بين الهضاب، يتسلل من دشمة هنا ليصل موقعاً هناك، يعرفه الظلام بدراً ينير كلّ دروب المجاهدين والأبطال، فهو قد خرج للتو من غربة الدنيا وعاش مناهج الأحرار ، صفع الغرور صفعة المختار وفاز بكبرياء الأحرار، هجر الاستقرار والأمن لينعم بالقلق الهادئ مطارداً حفنة من الأشرار.

آمن بالحريّة مذهباً ولم يخف في الله لومة لائم، سُجل أسمه في لائحة الإرهاب، وطُورد طويلاً حيث حيّر بتخفيّه كلّ أجهزة المخابرات والموساد، كلّ الظلام، مشى الطرقات بغير لون، بغير جواز سفر، لم تقيده بطاقة هويّة ولم تسقطه مسافة كونّية، راكب هو موج البحار، لم يقبل عن الوطن بديلاً ورفض الانتحار، ظلّ في عمقه مأسوراً مقيماً بعشق الأرض وبصدق الانتماء، يخلع عن وطنه تخوم الجغرافيا ليصبح تاريخاً لا تحدّه تضاريس مكان، فهو نبض لقلب حي، يعرف أوتار الحريّة بأجمل الأنغام.

إنه وباختصار شديد: الحاج عماد مغنيّة، هذا الرجل المحب للحياة، وخاصة الحياة الأسريّة، وإن أُبعد عنها قسراً، لكنه عاشها أملاً يتساقط على جنبات روحه، ليعيدها وعداً عصيّاً على الموت، حيث جسّد من خلاله طقساً من طقوس المعاناة في فيض من الآلام والمرارات حتى كأنني بسرمديّة حب البقاء ولم ولن تبددها أو تلفيها المسافات وكثرة الجراحات.

إنها القناعة العصيّة على الاضمحلال والعناء، مدعومة بحشد من العقائد والممارسات، والتي تتدثّر بدثار المنطق، لإثبات رسوخ هذا المبدأ وهذا الحلم المتأجج الذي لا يستطيع المرء منه فكاكاً، ويرى جمره برداً وسلاماً لأن فيه عزوف نحو رب السماء أمناً والتجاءاً.

إنه عالم لا يدخله إلا الأصحاء، الأتقياء، إلا النجباء، ولا يمشيه إلا نخبة من العرفاء الأوفياء، فهو بجملته فضاء رحب واسع من الانعتاق تارة، وقيداً آسراً طوراً تحكمه المحبة والإخلاص والصدق والوفاء.

هذا هو عالم هذا الرجل الذي كان يتحكم بمسار اللعبة العسكريّة وكان وسط الميدان، يعمل على نقاط ضعف العدو ليزيد منها رصيد قوة المقاومة ويقرأ نقاط القوة عند أعدائه بكلّ جرأة وشجاعة فيحصن درع المقاومة ويشغل فكره وفكر إخوانه ليل نهار لمواجهتها والتصدي لها، ما أدى إلى هذا النصر الذي كسر شوكة الصهاينة الأعداء ورفع راية الدين عالية في مسيرة جهاديّة طويلة اختصرت شهادته عبارة واحدة قالها سيد الكلام:ًً بشارة النصر القادمًً 17.

هذه القيادة العسكريّة النموذجيّة دفعت العدو لتبديل كلّ استراتيجياته وخططه وخرائطه وكلّ منظومته العدائيّة تلك، ليستفيد هو من المقاومة، فتعطيه دون إرادة منها دروساً قد يفهم قسماً منها وبالتالي هو يعجز.

هذه القيادة النموذجيّة العسكريّة دفعت العدو لتبديل كلّ استراتيجياته وخططه وخرائطه، وتغييرها، وليس هذا فحسب، بل عمل جاهداً على الخوض في التفاصيل للاستفادة من الأخطاء ومن ثمة يسعى للتدقيق

في كلّ تحركاته، وهكذا تنقلب المعادلة ويختلف الأمر بحيث تصبح القوة القاهرة قوة مقهورة بإذن الله تعالى وبسالة جنده وأكثر من ذلك، تصبح تخاف وتخشى الهجوم وتحذر التهديد، بعد أن كانت تهجم في الوقت الذي تريده وتحدده دونما وازع أو مانع، ويصبح الخوف ملازماً لقياداتها وجندها أينما اتجهوا وحلوا، هذا فضلا عن رأي المستوطنين تلك المبعثرات التي جمعها الحقد في بقعة من الأرض مستباحة سمّوها أرضهم وموطنهم، لكن عبثاً فعلوا فالأرض لله تعالى ولمن استخلفه بالحق وستعود إليهم إن عاجلاً أو آجلاً بإذنه تعالى.

لقد تحولت شهادة الحاج عماد مغنيّة( الحاج رضوان) إلى شبح يطارد هؤلاء القتلة المجرمين في كلّ مكان وزمان، لتنغص عليهم عيشهم وأمنهم الذي يزعمون، فهم على موعد معه، ينتظرون قيامته في كلّ لحظة، فهو الآن يخيفهم أكثر من قبل، وهذه نقطة قوته التي ما استطاع العدو قتلها رغم قتله.

أليست هذه القيادة النموذجيّة مدرسة يجب على الأجيال القادمة التأسي بخطواتها وبمناهجها وتعاليمها؟
وأخيراً وليس آخراً، ننتقل حيث العطاء نهراً لا ينضب، والكرم يد مفتوحة وباب مشرع وبيوت طعامها ليس لها، وقوتها ينتظر سائلاً أو ماراً وهي تقدّمه بكل حب وحياء ثم تحزن لصغر ما تُقدم وضعف الحيلة، وهذا إن دل ّ على شيء فهو يدل على أهميّة المدرسة التي تخّرج منها هؤلاء، والتعاليم التي شربوها مع الماء طهراً وطهارة، ثم الممارسة العمليّة التي سوف يعجز علماء الأخلاق والقيم عن بحثها ومن ثمة جمعها لكثرتها وأهميتها.

نحن هنا لا نقول شعراً، ولا نكتب إنشاء نتغنى فيه بمجد أو شعار أو غير ذلك، نحن هنا أمام أمة فهمت ذاك الداء الذي جاهد من أجله العلماء والقادة والشهداء الذين كانوا من قلب هذه الأمة وعصارة نخبتها، وبحمد الله تعالى تركوا آثاراً لن يستطيع حقد طيران العدو ودباباته أو قذائفه محو معالمها أبد الدهر.

هؤلاء هم شعب المقاومة وجمهور المقاومة الذين فتحوا قلوبهم وعقولهم قبل أن يفتحوا بيوتهم للمجاهدين والأبطال، والذين منهم خرج عديد المقاومين الشرفاء ليتشرفوا بالشهادة. من هنا خرج المقاوم الشهيد، هذا الأصل والأساس الذي يمثل القاعدة والتي عليها سيقوم البناء السليم لأن القاعدة سليمة معافاة وهذا فضل من الله تعالى وبركة.

فالماء لا يحفظه إلا الوعاء، فكيف إذا كان الوعاء نظيفاً طاهراً، لذا كان العمل في المقاومة يسعى إلى تنظيم الجماعة والعمل على كلً عضو من أعضائها والتي تشكل بمجموعها مقاومة، والتي بدورها تحفظ وتساعد وتساند الجبهة العسكريّة وتقف وراء القيادة السياسية الشرعيّة وبذا تكون قد حافظت وحفظت الوصيّة كما أوصاها السيد الشهيدًً الوصية الأساس حفظ المقاومةًً 18.

كان العمل على دعم هذه المقاومة من خلال تطوير المكونات والعناصر الأساسيّة فيها، فالأب الفاعل والمتفاعل مع أسرته، كما الأم المربية والزوجة الصالحة والمرأة المجاهدة تقف وراء عظمة وقوة هذه الأسرة، وبالتالي وراء قوة وعظمة المجتمع، والتي تربي بدورها الجيل الصاعد مستقبل الأمة، ثم المعلم الذي يكّون تلامذته بتدريسهم نهج الإباء ومناهج العزة والكبرياء ويدربهم على أهمية الولاء، والغلام الذي يحرث أرضه ويحرص على أن لا يحرث أراضي الآخرين، وأن يعمل لنمو هذه الأرض وعدم التفريط ولو بحبه تراب واحدة، والعامل الذي يتحرّك في مصنعه كأفضل ما يكون ويسخّر كل طاقته لتقدم هذه المصنع وتطوره.

أما الباحث الذي يُعمل العقل والفكر في استنباط النظرّيات القابلة للاختبارات والتجارب العمليّة، وأخيراً الفدائي الذي استرجع في عقله الوطن والحريّة والإباء، واستبق النظريّة بالفعل، وأسرع للتطبيق وأسرعت النتيجة وكان النجاح حليفه، لأنه من مجموع ما تقدّم شكّل فكرة الاستشهاد وقدّم نفسه طوعاً واختباراً ليحفظ هذا الوجود بأجمعه من كلّ الأعداء.

لقد صنع بموته المادي وجوداً وحياة غير قابلة لذلة هنا أو ضعف هناك، فأعطى من دمه فكراً أحمراً يرفض الانصياع ويرسم سلوكاً غير قابل للتلون أو الانحراف أو التبدل.

لقد برهن بأنه يثق بقابليّة جمهوره لكلّ تقدّم ينشده للحاق والتحضّر لكلّ التحديات، هذه التحديات التي تفرض خروجاً من الذات، من حدود قناعات هشة، وتفرض إزالة تامة لكلّ الفسادات والترسّبات حتى يعانق الكلّ الحياة، وحتى يتمكن الكلّ من تقبّل التغيرات شريطة أن يلازم هذا العناق وهذا التقبل الوعي والتبصر والتطور المدروس والمنظم.

لقد أمّن هذا العقل المقاوم للاستشهاديين والشهداء من أبناء المقاومة الغرّاء الحلّ الأفضل للأمة، وساعدها على توفير مقوّمات الغد الذي لا يشوبه القلق والأرق والتقوقع في دائرة عزلة الماضي وانطوائية الحاضر والرهبة في المستقبل.

لقد حمل هذا الفعل المقاوم للشهداء الطابع الإنساني وخدم قيم الإنسانيّة، وحمل في طيّاته الأمن والطمأنينة التي لم تقف يوماً لتعرقل مسيرة الإنسان.
لقد حمل لواء الحريّة ودق أبوابها بيدًً مضرّجة بالدماءًً، وترك الباب مفتوحاً لكلّ إبداع يعلو فوق العُقم ليخلق بالاختبار والابتكار والتجريب ويعطي ثماره المرجوّة ضمن مخطط مرسوم لإستراتيجية دفاع يقود زمامها سيد هُمام علم بأنه الحق من ربك، فلم يكترث إن وقع الموت عليه أو هو وقع على الموت.

وهنا لا بدّ أن ننهي باستحضار الخطاب الذي قطع أنفاس العالم للحظة، وكأن على رؤوس الأشهاد الطير، فنطق بكلام حوّلته الساحات إلى تراتيل صلاة. كيف لا ونصر الله هو القائد ينبري رغم القصف والقتل ورائحة الموت للتعبد في محراب العشق والمودة حيث يلثم جباهاً علت فوق قمم الجبال، ويقبل أيادٍ تضغط على الزناد، ثم ينحني وهو حفيد محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليقبل تلكم الأقدام الراسخة، الثابتة، وبهذا يختم إشارة منه لموضع الصلاة، وهو بذلك يُعلن مشروع التوراة، ويقدّم إنجيل الخلاص، وقرآن النجاة، وهو يصيب بلا شك ولا ريب الهدف لأن الأصل هم والأساس.

ألا يستحق بربكم هؤلاء الشهداء، منارة الدنيا وهم الأحياء أن نقتدي بنورهم ونسير بهديهم فلا نضل الطريق؟.

*القدوة الأهمية وتحولات الدور, سلسلة الندوات الفكرية , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


1- أليسون ماكنوشي، موسوعة العناية بالطفلًً، الدليل العلمي للآباء والأمهات، دار الفاروق، ط2007، ص 58.
2-الحج:11
3- نهج البلاغة- الخطبة 51، ص 25.
4- سورة الأحزاب، الآية 23.
5- الفوائد، ص 67.
6- سورة الكهف، آية : 103.
7- سورة البقرة، آية :258.
8- سورة النازعات، آية :24.
9- سورة القصص، آية :28
10- سورة محمد، آية:7.
11- نعيم قاسم،ًً حزب اللهًً، دار الهادي للمطبوعات، بيروت، 2009، ص 61.
12- من محاضرة للإمام السيد موسى الصدر:ًً الإسلام والثقافة في القرن العشرينًً- الندوة اللبنانية- 24 أيار 1969.
13- علي أحمد العاملي، العزاء في رثاء سيد الشهداء، دار السيرة، بيروت، ط 1، 1998م، ص 256.
14- من خطبة للشيخ الشهيد راغب حرب تتحدث عن الوضع اللبناني، لا تاريخ.
15- العبارة المشهورة لسيد شهداء المقاومة، أمير الذاكرة_ الوحدة الإعلامية المركزيّة- حزب الله.
16- م.ن.
17- من كلمة لسماحة الأمين العام السيد حسن نصر الله في مناسبة استشهاد الحاج عماد مغنيه.
18- أمير الذاكرة- إعداد الوحدة الإعلامية المركزية- حزب الله.

2015-09-08