موانع النصر
النصر الإلهي
لا تؤثّر العلّة أثرها، ولا ينتج السبب مسبّبه إلّا إذا ارتفعت الموانع. فالبناء لا يعلو بجهد البنّاء وحده بل بكفّ الهادمين عن التخريب والهدم. والدواء لا يشفي إذا لم يقترن بالحمية في الأمراض التي تحتاج إلى حمية.
عدد الزوار: 443
موعظة قرآنية
﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ
إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ
وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ
الْأُمُورِ﴾1.
لا تؤثّر العلّة أثرها، ولا ينتج السبب مسبّبه إلّا إذا ارتفعت الموانع. فالبناء لا
يعلو بجهد البنّاء وحده بل بكفّ الهادمين عن التخريب والهدم. والدواء لا يشفي إذا
لم يقترن بالحمية في الأمراض التي تحتاج إلى حمية. وعلى هذا المنوال تجري أمور
كالنصر. فالنصر له أسبابه المتقدّمة المشار إليها آنفًا, ولكن له أيضًا موانعه التي
تبطل فاعليّة تلك الأسباب وتحول دون تأثيرها. وسوف نسير في بحثنا عن الموانع سيرتنا
في البحث عن الأسباب أي سنحاول الاهتداء بهدي القرآن الكريم لنكتشف موانع النصر
ومبطلات تلك الأسباب. ويمكن بكلمة عامّة أن نقول إنّ ضدّ الأسباب المتقدّمة يصبّ في
الجهة المعاكسة للهدف الذي يدفع ذلك السبب نحوه. وكي لا نكرّر ما تقدّم نترك ملاحظة
هذا الأمر إلى فطنة القارئ الكريم، ونيمّم شطر القرآن الكريم لنكتشف أسباب الهزيمة
التي ورد النصّ فيها بشكلٍ مباشر.
التنازع والفرقة
الانسجام بين المجاهدين ووحدة هدفهم من الأمور المساعدة على النصر، والتفرقة وتوجّه
بوصلة قلوب المقاتلين إلى جهات شتّى خطوة أولى نحو الهزيمة. وقد ذكر الله تعالى ذلك
في أكثر من آية من كتابه عزّ وجلّ:
- قال الله تعالى:
﴿وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ
فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ
الصَّابِرِينَ﴾2.
والتنازع هو الاختلاف الذي يدبّ بين المجاهدين في سبيل الله
لأسباب منها التنافس على المغانم أو المناصب. والملفت أنّ الآية تشير بوجهٍ خفيٍّ
إلى أنّ التنازع لا يحصل عادةً في أوقات الشدّة والضعف وإنما يحصل في حالة القوّة
والرخاء. ويستفاد هذا المعنى من تعليل النهي عن التنازع بالفشل وذهاب الريح أي
القوّة. ويبدو بحسب بعض المفسّرين أنّ هذه الآية نزلت بعد معركة بدرٍ التي غيّرت
صورة المسلمين عند أنفسهم وعند العدوّ.
المعصية ومخالفة الأوامر
وفي الآية المذكورة أعلاه أمر بطاعة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قبل النهي عن
التنازع المسبّب للفشل. وقد اهتدت البشريّة إلى مثل هذا الأمر بتجربتها أو ربّما
بهدي الله عبر رسله السابقين. ومن هنا اشتهرت القاعدة العسكريّة المعروفة التي تقول
للعسكر: "نفّذ ثمّ اعترض". وقد جرّب المسلمون في تاريخهم المعاصر لرسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم مثل هذا الأمر وذاقوا وبال مخالفتهم لأوامر قائدهم وتجرّعوا
مرارة الهزيمة ولو إلى حين، وذلك عندما ترك الرماة في معركة أحد مواقعهم وانصرفوا
إلى أمور أخرى كالسعي وراء نيل المغنم فكان ما كان ممّا سطّرته كتب السيرة.
تولّي غير الله
قال الله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن
دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً﴾3. تتحدّث هذه الآية عن مجموعة من المسلمين
كانت تربطهم ببعض المنافقين علاقات صداقة ومودّة وكانوا يتّخذونهم بطانة أي أصحابًا
مقرّبين رغبة في بعض المطامع. فلفت الله عزّ وجلّ نظرهم ونهاهم عن مثل هذا الأمر
لأنّ المنافق لا يترك فرصة للوثوب على المؤمنين إلا واستغلّها لإفساد حالهم.
قال الله تعالى:
﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ
غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ
الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي
أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾4. يناله إلا الخذلان في وقت هو أحوج ما يكون إلى ناصرٍ ومعين، وفي مثل هذه اللحظات
يتخلّى عنه جاره ووليّه ويعلن براءته منه بطريقة ساخرة مدّعيًا أنه يخاف الله ربّ
العالمين. وما يصدق على الشيطان وتولّيه يصدق على أتباع الشيطان وحزبه.
انقلاب القيم
تُبتلى بعض الجماعات البشريّة المخلصة في بعض حالات النصر بانقلاب في المفاهيم
والقيم، وتنقلب من جماعات مظلومة إلى جماعات ظالمة، ومن جماعات زاهدة إلى مترفة...
وفي مثل هذه الحالات فإنّ أوّل ما تخسره هذه الجماعة التي تُصاب بانقلاب القيم هو
فقدانها النصر الذي حصلت عليه نتيجة صلتها بالله. ومن المعلوم أن ليس بين الله وبين
أحد قرابة"، فمن أعطى النصر لمن يستحقّه يسلبه عمّن لا يستحقّه. يقول الله عزّ وجلّ:
﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ
إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ
وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ
الْأُمُورِ﴾5. الآية الأولى من هاتين الآيتين فيها وعدٌ بالنصر لمن يخلص النيّة
ويشمّر عن ساعد الجدّ في سبيل الله وفي خدمة أهدافه. والقيد الذي يذكره الله عزّ
وجلّ في الآية اللاحقة هو قيد عدم الانقلاب والتحوّل إلى جهة أخرى فإنّ الأمّة التي
تستحقّ النصر هي الأمّة التي تبقى ثابتةً على الأهداف التي نهضت من أجل تحقيقها.
وأمّا الأمّة التي تنقلب على عقبيها فلا تستحقّ دوام اللطف واستمرار الرعاية:
﴿أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي
الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا
وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ
وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ﴾6.
تسريب الأسرار
الحرب خدعة وأسرار. وتسريب الأسرار العسكرية وكشف الخطط تؤدّيان إلى ارتفاع النصر
حتى لو يخيّم فوق رأس الجيش المقاتل كائنًا من كان هذا الجيش وتحت أيّ رايةٍ كان
يُقاتل، ما لم تُتّخذ التدابير المعاكسة التي تعيد الأمور إلى نصابها. وقد وردت في
القرآن توصيات في هذا الشأن منها:
- قال الله تعالى:
﴿وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ
أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ
مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾7.
تنهى هذه الآية عن بثّ
الشائعات بين المجاهدين إذا كانت تترك آثارًا سلبيّة على روحيتهم سواء كانت تأمينًا
لهم حيث لا ينبغي لهم الأمن وترك الحذر، أو كانت تخويفًا حيث ينبغي لهم أن يتّصفوا
بالسكينة والاطمئنان ليثبتوا في وجه العدوّ. ويوصي القرآن الكريم في مثل هذه
الحالات فيما لو وصل خبرٌ مّا إلى أذن أحد المسلمين أن ينقله إلى أهل الخبرة وقادة
المعركة ليحسنوا التصرّف معه وتفسيره على النحو المطلوب.
إلقاء السلاح وترك الحذر
حالة الحرب هي حالة الحذر الدائم من غدر العدوّ في أيّ لحظة خاصّة مع عدوٍّ لا
يلتزم بالمعايير الأخلاقيّة للقتال. وبالتالي لا ينبغي للمسلمين في أيّ معركة أن
يقيسوا العدوّ على أنفسهم، ولا أخلاقه على أخلاقهم. ومن هنا كانت التوصية القرآنية
الملفتة للمسلمين بأن لا يلقوا أسلحتهم حتّى في حالة الصلاة، وأن لا ينصرفوا إلى
الصلاة والاشتغال بها جميعًا ما يعطي للعدوّ فرصة للنيل منهم:
﴿وَإِذَا كُنتَ
فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ
وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ
وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ
وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ
تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً
وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ
كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ
أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا﴾8. تفيد هذه الآية بتشريعها الصلاة
بطريقة خاصّة تسمح للمسلمين بالتناوب في الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم أنّه لا ينبغي للمسلم أن يترك الحذر وأن ينشغل عن عدوّه حتّى بالصلاة وتدعوه
كما في الآية اللاحقة إلى تأجيل إقامة الصلاة وأدائها على النحو المتعارف إلى وقتٍ
تحصل له الطمأنينة. فإذا كانت الصلاة التي هي شعار المسلمين وعبادتهم الأثيرة
تتأخّر أهميّة أدائها على النحو الأكمل لمصلحة أهمّ هي مصلحة مواجهة العدوّ فما
بالك بغيرها من المكاسب والمصالح التي ربّما يفكّر المجاهدون في تحصيلها أو حفظها
في ساحة القتال؟
وقفّة تأمّلية
عن مالك بن أعين قال: حرّض أمير المؤمنين عليه السلام الناس بصفّين فقال: "إنّ الله
عزّ وجلّ قد دلّكم على تجارة تُنجيكم من عذاب أليم، وتشفى9 بكم على الخير الإيمان
بالله، والجهاد في سبيل الله، وجعل ثوابه مغفرة للذنب، ومساكن طيبة في جنّات عدن،
وقال جلّ وعزّ:
﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ
صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾10 فسوّوا صفوفكم كالبنيان المرصوص فقدّموا
الدارع11، وأخّروا الحاسر12، وعضّوا على النواجد13، فإنّه أنبى14 للسيوف عن
الهام15، والتووا على أطراف الرماح، فإنّه أمور16 للأسنة، وغضّوا الأبصار فإنّه
أربط للجأش، وأسكن للقلوب، وأميتوا الأصوات فإنّه أطرد للفشل، وأولى بالوقار، ولا
تميلوا براياتكم ولا تزيلوها ولا تجعلوها إلا مع شجعانكم فإنّ المانع للذمار17 والصابر عند نزول الحقائق هم أهل الحفاظ، ولا تُمثّلوا بقتيل، وإذا وصلتم إلى رحال
القوم فلا تهتكوا ستراً، ولا تدخلوا داراً، ولا تأخذوا شيئاً من أموالهم إلا ما
وجدتم في عسكرهم، ولا تُهيّجوا امرأة بأذى وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم وصلحاءكم
فإنّهن ناقصات القوى والأنفس والعقول، وقد كنّا نؤمر بالكفّ عنهنّ وهنّ مشركات، وإن
كان الرجل ليتناول المرأة فيعير بها وعقبه من بعده، واعلموا أنّ أهل الحفاظ هم
الذين يحتفون براياتهم ويكتنفونها، ويصيرون حفافيها وورائها وأمامها، ولا يضيّعونها
لا يتأخّرون عنها فيسلموها، ولا يتقدّمون عليها فيفردوها، رحم الله امرءاً واسى
أخاه بنفسه ولم يكل قرنه إلى أخيه فيجتمع عليه قرنه وقرن أخيه فيكتسب بذلك اللائمة،
ويأتي بدناءة وكيف لا يكون كذلك وهو يقاتل الاثنين، وهذا ممسك يده قد خلى قرنه على
أخيه هارباً منه ينظر إليه وهذا فمن يفعله يمقته الله، فلا تتعرّضوا لمقت الله فإنّ
ممرّكم إلى الله، وقد قال الله عزّ وجلّ:
﴿قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن
فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا
قَلِيلًا﴾18، وأيم الله لئن فررتم من سيوف العاجلة لا تسلمون من سيف الآجلة،
فاستعينوا بالصبر والصدق، فإنّما ينزل النصر بعد الصبر فجاهدوا في الله حقّ جهاده،
ولا قوّة إلا بالله".
وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج15، ص95.
1- سورة الحج، الآيتان 40 و41.
2- سورة الأنفال، الآية 46.
3- سورة آل عمران، الآية 118.
4- سورة الأنفال، الآية 48.
5- سورة الحج، الآيتان 40 و 41.
6- سورة الأنعام، الآية 6.
7- سورة النساء، الآية 83.
8- سورة النساء، الآية 102.
9- أشفى على الشيء: أشرف.
10- سورة الصف، الآية 4.
11- الدارع: لابس الدرع.
12- الحاسر: الذي لا مغفر له ولا درع.
13- النواجد: أقصى الأسنان والضواحك منها.
14- أنبى: أي أبعد وأشدّ دفعاً.
15- الهام: الرأس.
16- أمور: يمور السنان أي يتحرّك عن موضعه.
17- الذِمار: ما يلزم حفظه ورعايته.
18- سورة الأحزاب، الآية 16.