مفهوم النصر في القرآن الكريم
النصر الإلهي
تبيّن ممّا تقدّم أنّ النصر من المفاهيم الأساسيّة التي نالت نصيبًا وافرًا من الاهتمام القرآنيّ. وعلى الرغم من تشابه المعاني التي استُخدِمت فيها هذه الكلمة في القرآن الكريم إلا أنّ بينها مستوًى مّا من الاختلاف والتمايز
عدد الزوار: 444
موعظة قرآنية
﴿مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ
يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ﴾1.
مقدّمة
تبيّن ممّا تقدّم أنّ النصر من المفاهيم الأساسيّة التي نالت نصيبًا وافرًا من
الاهتمام القرآنيّ. وعلى الرغم من تشابه المعاني التي استُخدِمت فيها هذه الكلمة في
القرآن الكريم إلا أنّ بينها مستوًى مّا من الاختلاف والتمايز يستدعي التوقّف عندها
لأنّ بيان هذه الاختلافات تدبّرٌ في القرآن الكريم من جهة، وعملٌ بقوله تعالى:
﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ
أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾2، ولما لفهم هذه الفوارق من أثرٍ في جلاء موضوع بحثنا.
معاني النصر في القرآن الكريم
وأهمّ هذه المعاني التي وردت في القرآن لكلمة نصر ما يأتي:
1- الحماية والدفع: استُخدِمت مادّة نصر في القرآن الكريم في هذا المعنى مرّاتٍ عدة،
في أكثر من سياقٍ ربّما كان أكثرها في سياق تهديد الكافرين أو العاصين بعدم قدرةٍ
أحدٍ على حمايتهم من عذاب الله إذا نزل بهم. وأمثلة ذلك في القرآن كثير، منها:
أ- نفي الحماية من عذاب الآخرة: ورد هذا المعنى في عدد من آيات القرآن يخبرنا الله
فيها عن حتميّة عذاب الآخرة لمستحقّيه، وعجز أيّ قدرة أو جهة عن التدخّل للتخفيف من
هذا العذاب أو دفعه عمّن يستحقّه، ولا إمكان تبديله بغيره إن لم يرد الله تعالى ذلك،
وهذا كما في قوله عزّ وجلّ في وصف يوم القيامة:
﴿يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن
مَّوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ﴾3. ومن ذلك أيضًا قوله تعالى:
﴿يَوْمَ لَا
يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ﴾4.
ب- نفي القدرة الذاتيّة على دفع العذاب: ورد في قصّة النبيّ نوح عليه السلام أنّ
قومه طلبوا منه إبعاد بعض المقرّبين من المؤمنين به، بحجّة أنّهم أراذل القوم5، فردّ
عليهم بمطالبتهم بحمايته من آثار هذا الطرد ودفع العذاب الإلهيّ عنه إن طرد هؤلاء
المؤمنين المحيطين:
﴿وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ
أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾6. ومعنى هذه الآية هو نفي وبيان عجز أيّ قدرة على حماية
النبيّ نوحٍ من عذاب الله ودفعه عنه إن هو خالف إرادة الله واستجاب طلب الكفّار
الذين كانوا يأنفون من مجالسة فقراء القوم وضعفائهم، وبعبارة أخرى هو استفهام في
معنى النفي7. والموقف النبويّ الحاسم نفسه يتكرّر من النبيّ صالح عليه السلام في
الردّ على قومه عندما أعلنوا سأمهم من إصرارهم على دعوته وترغيبه في الميل إلى
دينهم8.
2- الانتقام: استُخدمت مادّة "نصر" في هذا المعنى في آيات عدّة من القرآن الكريم
منها قوله تعالى:
﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا
اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ
ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾9. وقد وردت هذه الآية في سياق الحديث عن
الشعراء الذين كانوا يهجون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلمفواجههم المسلمون بالسلاح
نفسه وانتصروا لرسولهم ولأنفسهم10. ومن أمثلة استعمال هذه المادّة في هذا المعنى أي
الانتقام قوله تعالى:
﴿وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا
عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ﴾11.
3- العون والمساعدة: من المعاني الأساسيّة لمادّة "نصر" العون والمساعدة. وقد نصّ
عدد من علماء اللغة على هذا المعنى عندما تعرّضوا لهذه الكلمة في معاجمهم. وقد
تقدّم بعض ذلك. ونزيد الأمر وضوحًا هنا، فنشير إلى عدد من أقوال اللغويّين، منهم
مثلًا، يقول ابن منظور: "النصر: إعانة المظلوم, نصره على عدوّه ينصره ونصره ينصر
نصرًا... والاسم النُّصرة... والأنصار أنصار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم غلبت
عليهم الصفة فجرى مجرى الأسماء... وتناصروا: نصر بعضهم بعضًا"12.
وتوقّف بعض علماء اللغة عند قوله تعالى:
﴿مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ
اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ
لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ﴾13
ويجعلها أحد
الشواهد على استخدام هذه المادة في هذا المعنى فيقول: "قوله:
﴿مَن كَانَ يَظُنُّ
أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ﴾ ويعينه في الدنيا والآخرة ويغيظه أن يظفر بمطلوبه..."14. وإذا رجعنا إلى القرآن الكريم لإحصاء المعاني التي تستخدم فيها هذه المادّة نجد أنّ
القسم الأكبر من موارد استخدامها هو استخدامها في هذا المعنى، وهاك بعض النماذج
التي تؤيّد هذه الدعوى:
قال الله تعالى:
﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ﴾15.
﴿وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ﴾16.
﴿وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ
الْأَدْبَارَ﴾17.
﴿جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ
وَلَتَنصُرُنَّه﴾18.
وغير هذه الآيات كثير يكشف عن استخدام هذه الكلمة في هذا المعنى أي معنى المساعدة
والعون. وفي إحصاء نتجنّب وصفه بالدقيق تبيّن أنّ هذه الكلمة استُخدمت ما يقرب من
مئة وخمسين مرّة في القرآن الكريم ربّما كان أكثر من نصفها دالًّا على هذا المعنى
الأخير. وفي عدد كبير من الموارد الباقية هو الاحتمال الأرجح. وقبل الانتقال إلى
النقطة اللاحقة لا بأس من الإشارة إلى الفرق بين النصر ومشتقّاته وبين العون.
ونستند في هذا التمييز إلى ما قاله أبو هلال العسكري:
الفرق بين النصرة والإعانة: أن النصرة لا تكون إلا على المنازع المغالب والخصم
المناوئ المشاغب، والإعانة تكون على ذلك وعلى غيره, تقول أعانه على من غالبه ونازعه
ونصره عليه وأعانه على فقره إذا أعطاه ما يعينه وأعانه على الأحمال. ولا يقال نصره
على ذلك فالإعانة عامة والنصرة خاصة. والفرق بين النصر والمعونة: "النصر: يختص
بالمعونة على الأعداء. والمعونة: عامة في كل شيء. فكل نصر معونة ولا ينعكس..."19.
4- الغلبة والظفر: رابع المعاني التي تُستخدم فيها كلمة "نصر" ومشتقّاتها التغلّب
على العدوّ والظفر عليه. وهذا المعنى الأخير هو المعنى الذي يتبادر إلى الذهن عندما
تُسمع كلمة "نصر" ومشتقّاتها في هذا العصر بين أهل العربية. وربّما يفهم هذا المعنى
من بعض الآيات في القرآن الكريم التي وردت فيها كلمة نصر. ومن أمثلة ذلك قوله تعالى:
﴿وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ﴾20، ويكشف تتبّع كلمات المفسّرين عن
أنّهم يرون أنّ هذه الكلمة تدلّ على هذا المعنى الأخير. يقول السيد الطباطبائي في
شرح الآية المشار إليها أعلاه: "بيان انحصار حقيقة النصر فيه تعالى، وأنّه لو كان
بكثرة العدد والقوّة والشوكة كانت الدائرة يومئذ للمشركين بما لهم من الكثرة
والقوّة على المسلمين على ما بهم من القلّة والضعف"21. ويقول مفسّرٌ آخر:
"ولمّا
كان ذلك فهمنا أنّ النصر ليس إلا بيده، وأنّ شيئًا من الإمداد أو غيره لا يوجب
النصر بذاته"22.
المعنى الأساس لكلمة النصر
في ختام الحديث عن المعنى اللغوي لكلمة نصر ثمّة تساؤلٌ يستحقّ أن يطرح مع محاولة
الجواب عنه وهو أنّه هل يمكن ردّ بعض هذه المعاني إلى بعضها الآخر؟ وهل يصحّ افتراض
أنّ المعنى الأصليّ لمادّة "نصر" هو الإعانة على العدوّ بالحدّ الأدنى؟
يبدو من خلال التأمّل في موارد استعمال هذه الكلمة في القرآن الكريم، بالحدّ الأدنى،
أنّ الأصل فيها هو العون لتحقيق هدفٍ والوصول إلى غايةٍ ولو في حالة المغالبة
والخصام, فإذا تحقّقت هذه الغاية وأثمرت النصرة والمساعدة ثمرتهما قيل عن هذه
الحالة الجديدة التي تترتّب عليهما نصرًا بدل أن يُقال غلبة أو ظفرًا أو ما شابههما
من الكلمات التي تفيد هذا المعنى.
يميّز بعض علماء اللغة بين مصطلحين هما: المصدر واسم المصدر. فيعرّفون الأوّل بأنّه
ما دلّ على الحدث مجرّدًا عن الزمان. وتوضيح ذلك أنّ الفعل يدلّ على حصول الحدث في
زمنٍ محدّدٍ كالماضي أو الحاضر أو المستقبل. ومثاله في ما نحن فيه: نَصَرَ (ماضٍ)،
ينصرُ (حاضر)، انصرْ (مستقبل). هذا بحسب المعنى وأمّا بحسب اللفظ فيشترطون في
المصدر أن تتوفّر فيه حروف الفعل ولا يُحذف منها شيءٌ دون التعويض عنه. وأمّا إذا
حُذِفت بعض الحروف ودلّت الكلمة على الحديث فتكون اسم مصدرٍ. مثل: توضّأ ووضوء (اسم
مصدر).
وعلى هذا يتّحد المصدر واسمه في المعنى ويختلفان في عدد الحروف فحسب23. هذا ولكن
ثمّة من يميّز بين الأمرين بأنّ المصدر يدلّ على الحدث وأمّا اسم المصدر فإنّه يدلّ
على نتيجة الحدث والفعل. وفي ما نحن فيه فإنّ الإعانة والمدد يؤدِّيان إلى نتيجة هي
الفوز، فنفس عمليّة الإعانة تُسمّى نصرًا ونصرةً فهي مصدرٌ. وأما النتيجة التي تفضي
إليها هذه الإعانة فهي النصر بما هو نتيجة وأثرٌ ويُسمّى اسم مصدرٍ24.
حقيقة النصر وبعض مصاديقه
تبيّن ممّا تقدّم أنّ النصر المدد والعون بحسب اللغة ولكن كثُر استعمال هذه الكلمة
في النتيجة الإيجابيّة التي يفضي إليها هذا العون. وليكن واضحًا من الآن فصاعدًا أنّ
هذا التمييز ليس مهمًّا إلى درجة كبيرة في الإطار الذي نتحدّث فيه، وذلك لأنّ المدد
الإلهيّ والعون إذا كان من الله تعالى، بشكلٍ غيبيّ أو بواسطة ماديّة طبيعيّة،
فإنّه سوف يحقّق أهدافه عادةً إذا لم يضيّع الإنسان هذا العون ويفرّط فيه.
وثمّة سؤال منطقيٌّ ينبغي أن يُطرح في مثل هذه الأبحاث، وهو: متى يتحقّق النصر؟
وليس مركز السؤال هو شروط النصر ومقدّماته, بل السؤال هو ما هي الوضعيّة التي يجب
أن تتحقّق حتّى يُقال عن الجهة التي تواجه وتجاهد إنّها انتصرت؟
أهداف الحرب والجهاد
لكلّ حربٍ أو جهد وجهاد هدفٌ وغاية. وإذا كنّا نتحدّث عن إنسان، أو جماعة إنسانيّة
حكيمة وعاقلة فلا بدّ من أن تكون أفعالها وحركاتها وسكناتها هادفةً بعيدة عن
العبثيّة واللغو. وبالتالي يمكن اعتماد الهدف والغاية الدافعة إلى الحراك كمعيارٍ
للتمييز بين النصر والهزيمة. وتتنوّع أهداف الجهاد في الإسلام بحسب الدوافع التي
تدفع إلى امتشاق السيف والسير في سبيل تحقيق الغاية التي ينتهي إليها القتال.
وربّما يمكن استقصاء أهمّ أنواع الجهاد بحسب الفكر الإسلامي وبحسب التجارب التي
مرّت في تاريخ الأمة بدءًا من رسول الله محمّد صلى الله عليه وآله وسلم مرورًا
بالنهضات والحركات الصالحة التي خاضها القادة المعصومون عليهم السلام من بعد انتهاءً
ببعض التجارب التي عُقِد فيها اللواء لقادة مصلحين مرّوا في تاريخ الأمّة القديم أو
الحديث وما بينهما. وأهمّ هذه الأنواع ما يأتي:
1- الهجوم:
خضع مفهوم الجهاد الابتدائيّ لكثير من النقاشات الفقهيّة اللاحقة وأخضِعت بعض حروب
النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لنقاش طويل لجهة تصنيفها في دائرة الجهاد الابتدائيّ
أو الدفاعيّ. وأيًّا يكن الموقف من هذا المفهوم وأيًّا يكن التحليل الذي يبتنّاه
الباحث لما خاضه رسول الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم فإنّ له محلًّا آخر غير ما
نحن فيه الآن. وما يعنينا في بحثنا هذا هو أنّ النصر في الجهاد الابتدائيّ يُقاس
بمدى تحقّق الأهداف التي ابتغاها وليّ الأمر من هذه المعركة أو تلك. والأهداف
المتصوّرة كثيرةٌ لعلّ أهمّها: دفع خطرٍ محدقٍ وهو ما يُعرف بالحروب الاستباقيّة،
وفتح الباب في وجه الدعوة، ورفع الظلم عن شعوب ترزح تحت ظلمِ حاكمٍ متعسّف. فإذا
تحقّقت هذه الأهداف تجلّى النصر في نهاية المعركة وإلا تكون الهزيمة هي الغاية التي
انتهى إليها القتال. وإذا عدنا إلى تاريخ الأمّة الإسلاميّة نجد أنّ عددًا من
المعارك التي خاضها المسلمون انتهى بالنصر الذي أسّس لانتصارات لاحقةٍ فتحت الأبواب
على مصاريعها في وجه الدعوة الإسلاميّة. وربّما تكون معركة بدرٍ هي النموذج الأوضح
لمثل هذا النوع من المعارك، بناء على تصنيف معركة بدر في دائرة الجهاد الابتدائيّ.
2- الدفاع:
عندما يحيط بالإسلام أو المسلمين خطرٌ داهمٌ لا بدّ لهم من دفعه، مهما بلغ حجم
التضحيات. وفي مثل هذه الحالة يتحقّق النصر عندما تستطيع الأمّة إعاقته عن تحقيق
أهدافه. وقد عرف تاريخ الإسلام الأوّل مثل هذا النوع من النصر في معركة الخندق
عندما حاصر الأحزاب المدينة وأرادوا اقتحامها لإلحاق الهزيمة بالإسلام والمسلمين في
دولتهم الفتيّة آنذاك. ويصوّر القرآن الكريم حالة المسلمين بعد حصارهم على يد
الأحزاب التي تكتّلت وحشدت قواها من كلّ حدب وصوب للقضاء على الإسلام، فيقول عزّ
وجل، كاشفًا عن حالة المسلمين والرعب الذي أصاب الكثيرين منهم:
﴿إِذْ جَاؤُوكُم
مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ
الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾25. هذا ولكنّ بطولة
أمير المؤمنين عليه السلام وغيره من المجاهدين، واقتراحات سلمان الفارسيّ، والمدد
الإلهيّ:
﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا﴾26. كلّ ذلك
قلب المعادلات رأسًا على عقب وحوّل نتيجة المعركة لصالح المسلمين. وفي مثل هذه
الحالة وعلى الرغم من أنّ المسلمين ولو على المدى المنظور لم يكسبوا شيئًا سوى
قدرتهم على الصمود في وجه العدوّ ومنعه من تحقيق أهدافه، فإنّهم انتصروا دون شكّ.
ومثل هذا الكلام يُقال في كلّ المعارك التي خاضتها الأمّة الإسلاميّة في مواجهة
العدوّ، ومن أبرزها مواجهة المقاومة الإسلاميّة الكيان الغاصب، وقدرتها على منعه من
تحقيق أهدافه، وإرغامه على الفرار السريع من الأرض التي احتلّها قبل أن يستقرّ فيها.
النصر على المدى البعيد
من المعلوم أنّ الإسلام ليس دين جغرافيا، فالأرض لا تعني للإسلام إلا من حيث هي محلٌّ
لإقامة العدل والعيش بحريّة وكرامة، وبما هي مكان يسمح للمرء أن يعيش فيها بطريقة
تنسجم مع منظومة القيم الإلهيّة التي يريدها الله أن تكون منهاجًا للحياة. ومن هنا
نجد أنّه عزّ وجلّ لا يقبل عذر من يعتذر بالضغوط التي تؤدّي إلى الاستضعاف:
﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ
قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ
اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا﴾27.
وبناء على هذه النظرة إلى الأرض
والحياة، يكون النصر ولو بعد حينٍ، وعلى المدى البعيد، وذلك عندما يقدر العدوّ على
تحقيق بعض أهدافه القريبة أو الماديّة, ولكنّه يعجز عن تحقيق الأهداف البعيدة أو
المعنويّة. وفي مثل هذه الحالة يكون النصر من نصيب المواجه ولو انهزم على المدى
القريب. وأفضل الأمثلة وأوضحها نهضة الإمام الحسين عليه السلام, إذ ركز يزيد بين
السلّة والذلّة، فأبى عليه السلام الخضوع وأعلن موقفه الخالد: "هيهات منّا الذلّة"
فاستُشهد ولكنّه بقي حيًّا منارة للأحرار ومشعلًا على مدى التاريخ، وعجز يزيد عن
إذلاله، وحقّق هدفه وهو الإصلاح في أمّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ومن
هنا نجده عليه السلام يُعبّر عن هذا النصر بعبارة بالغة وبليغة حيث يقول: "من لحق
بي استُشهد، ومن تخلّف عنّي لم يبلغ الفتح"28. ويمكن تفسير هذه العبارة الشريفة
بأكثر من معنى أحدها: أنّ الفتح (النصر) سيكون من نصيبنا حتى لو استشهدنا ولن ينال
هذا الشرف من تخلّف عنّا.
وقفّة تأمّلية
العزم على المواجهة
بعد انتهاء معركة "أحد" عاد المشركون المنتصرون إلى مكة بسرعة، ولكنّهم بدا لهم في
أثناء الطريق أن لا يتركوا هذا الانتصار دون أن يكملوه ويجعلوه ساحقاً، أليس من
الأحسن أن يعودوا إلى المدينة، وينهبوها ويُلحقوا بالمسلمين مزيداً من الضربات
القاضية وأن يقتلوا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان لا يزال حيّاً
ليتخلّصوا من الإسلام والمسلمين ويطمئن بالهم من ناحيتهم بالمرة. لهذا صدر قرار
بالعودة إلى المدينة، ولا ريب أنّه كان أخطر مراحل معركة "أحد" بالنظر إلى ما كان
قد لحق بالمسلمين من القتل والجراحة والخسائر، الذي كان قد سلب منهم كل طاقة للدخول
في معركة جديدة أو لاستئناف القتال، فيما كان العدوّ في ذروة القوّة والروحية
العسكرية التي كانت تُمكّن العدو من تحقيق انتصارات جديدة، وإحراز النتيجة لصالحه،
فنهاية هذه العودة ونتيجتها كانت معروفة سلفاً.
وقد بلغ خبر العودة هذه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولولا شهامته البالغة،
وقدرته المكتسبة من الوحي على الأخذ بزمام المبادرة لانتهى تاريخ الإسلام وحياته
عند تلك النقطة. في هذه المرحلة الحسّاسة بالذّات نزلت الآيات الحاضرة:
﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ﴾29 إلى قوله:
﴿وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ
الْحَكِيمِ﴾30
لتقوّي روحية المسلمين وتُصعّد من معنوياتهم، وفي أعقاب ذلك صدر أمر
من النبي إلى المسلمين بالتهيّؤ لمقابلة المشركين، فاستعدّ جميع المسلمين حتى
المجروحين (ومنهم الإمام علي عليه السلام الذي كان يحمل في جسمه أكثر من ستين جراحة)
لمقابلة المشركين، وخرجوا بأجمعهم من المدينة لذلك. فبلغ هذا الخبر مسامع زعماء
قريش فأرعبتهم هذه المعنوية العالية التي يتمتّع بها المسلمون وظنّوا أنّ عناصر
جديدة التحقت بالمسلمين، وأنّ هذا يمكن أن يُغيّر نتائج المواجهة الجديدة لصالح
المسلمين، ولذلك فكّروا في العدول عن قرارهم بمهاجمة المدينة، حفاظاً على قواهم،
وهكذا قفلوا راجعين إلى مكة بسرعة، وانتهت القضية عند هذا الحد.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل،
آية الله االعظمى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ج2، ص677.
1- سورة الحجّ، الآية 15.
2- سورة ص، الآية 29.
3- سورة الدخان، الآية 41.
4- سورة الطور، الآية 46.
5- انظر: سورة هود، الآية 27.
6- سورة هود، الآية 30.
7- للاطلاع على كلام المفسّرين على هذه الآية انظر: السيد محمد حسن الطباطبائي،
الميزان في تفسير القرآن، ج 10، ص 208, الشيخ الطبرسي، مجمع البيان، ج 5، ص 266.
8- ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي
وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا
تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ﴾ (سورة هود: الآية 63).
9- سورة الشعراء، الآية 227.
10- انظر: مجمع البيان، ج 7، ص 360.
11- سورة الشورى، الآية 41.
12- لسان العرب، ج 5، ص 210، مادّة: "نصر". ويشبهه قول أبي بكر الرازي، مختصر
الصحاح، ص 239.
13- سورة الحجّ، الآية 15.
14- فخر الدين الطريحي، مجمع البحرين، ج 3، ص 494.
15- سورة التوبة، الآية 40.
16- سورة الصافات، الآية 116.
17- سورة الحشر، الآية 12.
18- سورة آل عمران، الآية 81.
19- أبو هلال العسكري، الفروق اللغويّة، ص 540.
20- سورة الأنفال، الآية 10.
21- الميزان في تفسير القرآن، ج 9، ص 21, وانظر أيضًا: المصدر نفسه، ج 4، ص 9.
22- البقاعي، نظم الدرر في تفسير الآيات والسور، نقلًا عن برنامج المكتبة الشاملة
الإلكتروني.
23- انظر مثلًا: ابن عقيل، شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، ج 2، ص 98.
24- هذا وقد يخالف كثير من علماء النحو واللغة العربية في هذا الأمر. وزيادة
التدقيق في هذا المبحث تحتاج إلى بحثٍ تخصّصيّ ليس هذا محلّه. للمزيد انظر: عباس
حسن، النحو الوافي، ط 4، دار المعارف، مصر، لا تاريخ، ج 3، ص 208, مصطفى جمال الدين،
البحث النحوي عند الأصوليّين، ط 2، دار الهجرة، قم، 1405 هـ.ق.، ص 98-114.
25- سورة الأحزاب، الآية 10.
26- سورة الأحزاب، الآية 9.
27- سورة النساء، الآية 97.
28- محمد بن جرير الطبري، دلائل الإمامة، ص 188.
29- سورة آل عمران، الآية 123.
30- سورة آل عمران، الآية 126.