يتم التحميل...

الحرب الناعمة: نقاش في المفهوم

الحرب الناعمة

تبرز أهمية مناقشة مفهوم الحرب الناعمة في لبنان، في انتقال مجالات الصراع، من الميدان العسكري إلى ساحات أخرى، لم نخبر العمل فيها بالشكل الذي يجعلنا على مستوى الصراع مع العدو. وقد جرت نقاشات وجدالات وسجالات كثيرة حول تأطير هذه القضية

عدد الزوار: 38

تبرز أهمية مناقشة مفهوم الحرب الناعمة في لبنان، في انتقال مجالات الصراع، من الميدان العسكري إلى ساحات أخرى، لم نخبر العمل فيها بالشكل الذي يجعلنا على مستوى الصراع مع العدو. وقد جرت نقاشات وجدالات وسجالات كثيرة حول تأطير هذه القضية أو تأصيل المفهوم، ليلامس الحاجة والعمق الفكري، لكن الكثيرين غفلوا عن البنية البراغماتية لهذا المفهوم، وذهبوا للخوض خارج البعد الأداتي الذي نشأ لأجله، كأنه مفهوم فلسفي أو تعبير سكوني، فيما هو مقاربة عملياتية آنية ومباشرة.

مصطلح الحرب الناعمة أطلقه المرشد الأعلى للثورة الإيرانية الإمام الخامنئي، كعنوان أيديولوجي واستراتيجي لجبهة محددة في نطاق الصراع القائم بين إيران والغرب في العقد الأخير. أما القوة الناعمة فهي السلاح الذي يستعمل في تلك الحرب، حيث يقول جوزيف ناي، واضع مصطلح القوة الناعمة أن "القوة تعني القابلية للقيام بالأمور والسيطرة على الآخرين، أي جعل الآخرين يقومون بأفعال لم يكونوا يريدون القيام بها" ، ويقدم شرحاً أولياً لمصطلح الحرب الناعمة في مقالة له عام 1990 :" هذا الوجه الآخر للقوة، يتجلى حين يفرض بلد ما على بلدان أخرى أن ترغب فيما يرغب فيه، ممكن أن يسمى القوة الاستيعابية أو الناعمة، في مقابل القوة الصلبة أو الآمرية، التي تتجلى في توجيه الأوامر للآخرين بالقيام بما يريد" .

يذهب ناي ليؤسس للمفهوم من ناحية تاريخية وتجريبية معتبراً أن "القادة السياسيين والفلاسفة لطالما أدركوا مدى قوة جاذبية الأفكار، أو مدى تأثير تنظيم الأجندة السياسية أو تأطير النقاش السياسي بشكل يحدد ويرسم خيارات الآخرين" ، ويروج ناي لفكرته بالتشديد على أهميتها وفعاليتها فهي، أي القوة الناعمة، "مهمة بقدر أهمية القوة الصلبة والآمرية. فإذا استطاعت دولة ما أن تجعل سلطتها تبدو شرعية في نظر الآخرين، فسوف تواجه مقاومة أقل لرغباتها. إذا كانت ثقافتها وأيديولوجيتها جذابة، سوف يتبعها الآخرون، إذا استطاعت تشكيل معايير عالمية متوائمة مع مجتمعها، فسوف تشعر بحاجة أقل للتغيير، إذا استطاعت دعم المؤسسات التي تجعل الدول الأخرى ترغب في حصر نشاطها أو تنظيمه بالشكل الذي ترتضيه الدولة المهيمنة، فسوف تتخفف من أعباء استخدام القوة الإكراهية أو الصلبة" .

مصطلح القوة الناعمة هو مصطلح حديث نسبياً وهو لا يزال تحت النقاش، وهو في النهاية مفهوم وضعي، يخضع لتفسيرات متعددة، وفقاً للغايات العملانية، أو الخلفيات الثقافية والسياسية. تحول المصطلح إلى التداول الرسمي في السياسات والإستراتيجيات الأمريكية وذلك تحت تعبيرات مختلفة وعناوين متداخلة : كسب القلوب والعقول ، حرب الأفكار ، الدبلوماسية العامة ، القيادة من خلال القوة المدنية ، الدبلوماسية الثقافية ، المبادرات التنموية العالمية ، بناء الشبكات الإسلامية المعتدلة ، عمليات المعلومات ، العمليات النفسية ، تفادي الصراع .

أصبحت التعبيرات المختلفة لـ "القوة الناعمة" الإطار النظري للسياسة الخارجية الأمريكية، وكذلك تحولت إلى عناوين لمؤسسات ضمن وزارة الخارجية ومؤسسات أخرى، وازداد الإنفاق الرسمي في هذا المجال بالمقارنة مع السابق، وذلك نظراً لتزايد العولمة وانفتاح سبل التأثير بالوسائل المدنية مع انكسار حدود الدول في العصر الحديث. لا بد من الإشارة هنا إلى أن التأثير بالوسائل المدنية، بالمقارنة مع العسكرية، هو أسلوب قديم جداً في سياسات القوة يعود إلى الإمبراطورية الرومانية وحتى ما قبلها، وقد تعزز عملياً ونظرياً بشكل كبير خلال الحرب الباردة، نظراً لعدم إمكانية خوض الحرب العسكرية النووية والتدمير المتبادل الشامل.

مؤخراً، عام 2010، أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية استراتيجية رباعية (تصدر كل أربع سنوات) للمرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة، تحت عنوان "القيادة من خلال القوة المدنية"، وهي تشكل نقطة متقدمة في زيادة الإنفاق والاهتمام والتركيز في الاستفادة من ظروف العولمة للتأثير في سياسات الدول والجماعات لصالح المشروع الإمبريالي. ونشرت مراكز الأبحاث الرسمية وغير الرسمية حول العالم عشرات آلاف الدراسات والاقتراحات العملية والميدانية لتطوير الاستفادة من الأطر والوسائل المدنية لكسب المعارك السياسية وحتى العسكرية، خصوصاً بعدما أصبحت الحروب بأغلبها حروباً غير متكافئة تقوم بين جيوش كلاسيكية وحركات شعبية لا تسيطر على بيئتها المدنية بشكل كامل.

وقد حددت "استراتيجية الدفاع الوطني" الأمريكية الصادرة عام 2008 موقع القوة الناعمة في تحقيق المصالح الإستراتيجية الأمريكية في الإطار التالي :" لتحقيق مصالحها، طورت الولايات المتحدة القدرات العسكرية والتحالفات والائتلافات، شاركت ودعمت المؤسسات الدولية الأمنية والإقتصادية، استفادت من الدبلوماسية والقوة الناعمة لتشكيل سلوك الدول والنظام الدولي، واستعملت القوة عند الضرورة" .

مفهوم الحرب الناعمة بتعبيراته المختلفة كان موجوداً قبل وقت طويل من ظهور جوزيف ناي ومفهومه، لكنها صارت الآن موضع تناول حثيث واتخذت موقعاً أكثر أهمية، وقد أشار ناي إلى هذه الحقيقة التاريخية في أول مقالة له حول الموضوع عام 1990 :" السلوك الاستيعابي وموارد القوة الناعمة ليست جديدة. في المراحل الأولى التي تلت الحرب العالمية الثانية، استفاد الإتحاد السوفياتي بشكل هائل من هذه الموارد الناعمة مثل : الأيديولوجية الشيوعية، أسطورة الحتمية، المؤسسات الشيوعية العابرة للقوميات. ثمة مسارات عديدة تنشأ اليوم تجعل من السلوك الاستيعابي وموارد القوة الناعمة أكثر أهمية نسبياً" .
ويشير إلى أن أحد أسباب هذا التحول هو أن "استعمال القوة (الصلبة) قد أصبح أكثر تكلفة، ولذلك فإن أنماط القوة الأقل تكلفة وتهديداً أصبحت جذابة بشكل متزايد" ، ويؤكد على زاوية أخرى من مسارات التطور التي أدت إلى تزايد أهمية القوة الناعمة، معتبراً أن :"الأفكار المثالية تتحول إلى مصدر هام للسلطة والقدرة، فإن التمييز الكلاسيكي بين السياسة الواقعية والأفكار الليبرالية يصبح مبهماً. الرجل السياسي الواقعي الذي يركز على موازين القوى حصراً، سيغيب عنه الاستفادة من قدرات الأفكار العابرة للقوميات" .

ونلاحظ الإختلاف بين التعريف النظري لجوزف ناي والتعريف الرسمي لوزير الدفاع الأمريكي السابق روبرت غايتس، حيث ناقش ناي في كتابه الأول الصادر عام 1990أشكال القوة :"القدرة على التأثير على سلوك الآخرين للحصول على النتائج التي تريدها، وهناك عدة وسائل لتحقيق ذلك : يمكنك إكراههم بالتهديد، يمكنك إغراؤهم بالأموال، أو يمكنك جذبهم واستيعابهم حتى يرغبوا بما ترغب به" ، نافياً أن يكون الإغراء بالمال ضمن أدوات القوة الناعمة، فيما يعتبر روبرت غايتس أن تطوير القوة الناعمة الأمريكية يتطلب "تطوراً دراماتيكياً في الإنفاق على الأدوات المدنية لتحقيق الأمن القومي : الدبلوماسية، الإتصال الإستراتيجي، الدعم الخارجي (المساعدات المالية)، الأنشطة المدنية، وإعادة الإعمار الاقتصادي والتنمية" . وفي كلام آخر لوزير الدفاع نفسه نجد مقاربة أوسع للوسائل والأدوات الناعمة :" إن جهودنا ينبغي أيضاً أن تهتم بالتنمية الإقتصادية، بناء المؤسسات، وفرض القانون، التشجيع على التوافق الداخلي، دعم بناء سلطة حكومية محترمة وجيدة، الخدمات العامة، تدريب وتجهيز القوة الأمنية المحلية، الإتصال الإستراتيجي الفعال، وغيرها. هذه القدرات المذكورة والتي تسمى القدرات الناعمة، هي، إلى جانب القوة العسكرية، حاجة لا غنى عنها للوصول إلى أي انتصار دائم، وبشكل أكثر واقعية، فإن الوصول إلى النصر بحد ذاته، كما عرفه كلاوزفيتز بنفسه، أي تحقيق هدف سياسي، مرهون بها" . موسعاً إطار القوة الناعمة ليشمل الجانب الاقتصادي والتنموي، وكذلك نرى جوزيف ناي يطور في المفهوم في كتابه الثاني الصادر عام 2004 إذ اعتبر أن "الإغراء هو دوماً أكثر فعالية من الإكراه، والكثير من القيم مثل الديموقراطية، حقوق الإنسان، والفرص الشخصية هي مغرية بشكل عميق" .
ونلاحظ أن الفرص الفردية دخلت هنا ضمن الأدوات، ولكن ظل إطار القوة الناعمة هو أدوات الجاذبية، الإقناع والتأثير وليس الإكراه والفرض الذي يمارس بالقوة العسكرية أو العقوبات الإقتصادية.

هنا نكون قد ألقينا نظرة على رؤية المنظِّر الأساسي للمفهوم وتطبيق الدولة الأكثر اهتماماً به على المستوى العملاني، ولا بد لنا أن نستفيد من نظرة مناقضة، هي التي دونتها القوى المعادية لأمريكا، ونظرت إلى القوة الناعمة كتهديد لها، وأحد أكثر تلك القوى اهتماماً بهذا التحدي هي الجمهورية الإسلامية الإيرانية نظراً لما تتعرض له من "حرب ناعمة" مستمرة في شتى الأشكال والمستويات، نظراً لارتفاع تكاليف الصراع العسكري معها. أحد المراجع الرسمية الإيرانية الصادر عن (مركز الأبحاث والدراسات الثقافية والاجتماعية صدرا) وهو مركز رسمي تابع للدولة، يعرف الحرب الناعمة بالشكل التالي :"تعرف الحرب الناعمة في مقابل الحرب الصلبة، وهي تشمل في الحقيقة أي نوع من العمليات النفسية، الدعائية، الإعلامية، والثقافية، والذي يستهدف المجتمع أو مجموعة محددة. والذي يدفع الخصم نحو الانفعال أو الانهزام بدون قتال عسكري أو استعمال القوة الصلبة. وتهدف الحرب الناعمة إلى سحق فكر المجتمع المستهدف كي تضعف مكوناته الفكرية والثقافية، وتشيع عدم الاستقرار والتزلزل في النظام السياسي الإجتماعي السائد من خلال القصف الخبري والدعائي. تتسع الحرب الناعمة لكل الإجراءات التي تتم من خلال الحرب الكمبيوترية والأنشطة الإنترنتية وصولاً إلى تأسيس شبكات إذاعية وتلفزيونية وموارد أخرى. تستخدم الحرب الناعمة أحياناً بصفتها بديلاً للأساليب الصلبة، وذلك عندما تضعف فعالية تلك الأساليب، وأحياناً بصفتها مقدمة وتمهيداً للحرب العسكرية" .

ويتضمن الكتاب مقدمة حول المفاهيم ذات الصلة (العولمة ، العلمنة ، نمط الحياة )، وفصلاً آخر حول كيفية تغيير الأنظمة ، وذلك تبعاً لطبيعة الاستهداف الناعم الذي تتعرض له الجمهورية، إلى جانب العديد من النقاط التي ذكرها وزير الدفاع الأمريكي، أو تلك المتضمنة في استراتيجية الدفاع الوطني الأمريكية، وغيرها من الوثائق القانونية والسياسية الأخرى.
نخلص من هذا الاستقراء العاجل إلى أن المفهوم خاضع للأغراض العملانية، فيمكنه أن يتطور ويتسع بحسبها، ذلك أنه خرج من الحالة النظرية وتحول إلى سياسة رسمية في أمريكا وحتى الصين وروسيا، وهناك من يتحدث عن القوة الناعمة الإيرانية كذلك. هو مفهوم يوصف أساساً نشاطاً وسلوكاً سياسياً بشرياً غير محدد بشكل جامد وثابت، وقابل للتطور والتغير مع اختلاف الزمان والمكان والظروف والتطور العلمي والتكنولوجي، وكذلك تراكم التجارب في ميدان الصراع الذي يتطلب الإبداع والابتكار والتطوير الدائم في محاولة الخصم تجاوز الخصم الآخر.

ونطرح، من جانبنا، مجموعة من الأسئلة التي يمكن أن تكون مناسبة لإطلاق نقاش خصب ومنتج يساهم في تنظيم مواجهة تلك الحرب على صعيد جبهتنا في لبنان.

أسئلة للنقاش :

المقاربة النظرية :
1. هل تنبع إشكالية التأطير النظري للمفهوم من : اتساع مجالاته، عدم وضوح أدواته بالمقارنة مع القوة العسكرية المحددة الأسلحة والأدوات، ظهوره في مرحلة متأخرة على الاستعمال، اختلاف انطباقه على المؤثرين والمتأثرين بحسب ظروفهم ؟
2. هل جاء مفهوم القوة الناعمة ليوجد أسلوباً جديداً في ممارسة القوة ؟ أم ليوصف ويعزز سياسات كانت موجودة في التاريخ السياسي ؟
3. هل يطرح مفهوم القوة الناعمة إطاراً محدداً من الناحية الرسمية ؟ أم أنه يطرح مصطلحاً خاضعاً للتطور من حيث الهامش العملي والنظري ؟
4. لماذا لم يتحول مفهوم القوة الناعمة إلى مفهوم رسمي ؟ فيصبح لدينا مثلاً وزارة الحرب الناعمة في دولة من الدول التي تمتلك تلك القوة ؟
5. هل يمكن للدول الإمبريالية أن تضمن خطابها الرسمي كامل الإطار المفاهيمي والأدوات العملية التي تستعملها خارج نطاق الحرب العسكرية؟
6. هل ثمة ما يلزم أجهزة الدولة المتنوعة بتأطير أنشطتها المتفاوتة الشدة في نطاق مفهوم نظري ما؟
7. هل ثمة ما يمنع الدول الكبرى، وخصوصاً أمريكا، من تعديل أي سياسة أو مفهوم بحسب الظروف لخدمة الهدف ؟

المقاربة العملية :
1. هل نستطيع أن نحدد مفهومنا الخاص بالحرب الناعمة في لبنان، بناءً على حاجاتنا النظرية أو العملية الخاصة ؟ وكيف؟
2. ما هي غايتنا الخاصة من تشخيص المفهوم ؟
- في حال كانت الغاية علمية نظرية فما هو مآل المفهوم وما هو توظيفه الفكري؟
- في حال كانت الغاية عملانية واقعية فما هي السياسات والوظائف التي ننوي القيام بها في هذا الميدان؟
3. ما هي المحددات العملية التي تشكل مقدمة لتحديد إطار الحرب الناعمة التي نتعرض لها في لبنان ؟
4. هل يمكن لنا أن نؤطر الحرب الناعمة التي نتعرض لها تحت عنوان كل ما ليس عسكري ؟
5. هل يمكن لنا أن نؤطر الحرب الناعمة التي نتعرض لها في نطاق واسع، ثم نحدد مجالات القدرة لدينا على المواجهة، فيصبح لدينا إطار نظري عام خاص بالوضع اللبناني، وإطار عملي عام يتعلق بمجالات القدرة على المواجهة؟
6. مفهوم الحرب الناعمة هو للاستفادة والاستعمال وليس للتفصيل والتأطير النظري فقط، فكيف يمكن لنا أن نستفيد من تداول هذا المصطلح بتأسيس جبهة جهادية فعلية في المجال المدني ؟
7. إلى أي حد تبرز ضرورة بناء بنك الاستهداف الناعم الخاص بلبنان الذي يحصر الأدوات والسياسات والبرامج المستخدمة في مواجهة المقاومة؟

2015-07-21