يتم التحميل...

كيف نتعرّف على طريق كمالنا؟

الأخلاق والثقافة الإسلامية

إنّ هذا السؤال يعتمد على ما أثبتناه في كتابنا السابق "يسألونك عن الله" من أنّ الله تعالى قد خلقنا لأجل كمالنا. وكانت خلاصة ما سبق أنّ الله تعالى غنيّ، وهو العلّة الأولى الوحيدة لجميع الكائنات، ومنه جميع الكمالات التي نعهدها في هذا الوجود على نحو أتمّ،

عدد الزوار: 33

إنّ هذا السؤال يعتمد على ما أثبتناه في كتابنا السابق "يسألونك عن الله" من أنّ الله تعالى قد خلقنا لأجل كمالنا.

وكانت خلاصة ما سبق أنّ الله تعالى غنيّ، وهو العلّة الأولى الوحيدة لجميع الكائنات، ومنه جميع الكمالات التي نعهدها في هذا الوجود على نحو أتمّ، فهو: حيّ، عالم، قادر، جواد، وهو بالتالي حكيم، لأنّ عدم الحكمة، أي عدم وضع الشيء في موضعه المناسب، يكون إمّا عن:
1- حاجة، والله تعالى غنيّ.
2- أو جهل، والله تعالى عالم.
3- أو عجز، والله تعالى قادر.
4- أو بخل، والله تعالى جواد.

إذًا هو حكيم.

وبناءً عليه نسأل: لماذا خلقنا الله؟

وبما أنّه غنيّ، فإنّ سرّ خلقنا لا يرجع لمصلحة له، بل لمصلحة لنا نحن، وهذا يؤدّي إلى جواب وحيد هو: إنّه تعالى خلقنا لأجل كمالنا. وهنا يأتي السؤال الآتي:
هل يمكن للإنسان أن يتعرّف على طريق كماله، بوساطة آليّات المعرفة الموجودة عنده، من حسّ، ووهم، وخيال، وعقل، وإلهام؟1

والجواب: إنّ آليات المعرفة هذه على رغم فائدتها الكبيرة، إلا أنّها لا تستطيع أن تعرِّف الإنسان على طريق كماله الذي يتواءم مع:
1- الجسد والنفس.
2- الفرد والمجتمع.
3- الدنيا والآخرة.

وبما أنّ الله تعالى حكيم، فمقتضى حكمته أن يعرِّفنا على طريق كمالنا عن طريق آخر لم نعهده، وإلاّ يكون حاله تعالى كحال الشخص الذي يدعو ضيفًا إلى داره، لكنّه لا يدلّه إلى الطريق التي تؤدّي إليه!!.
ما هي الوسيلة لمعرفة الطريق؟

إنَّ عقولنا تدرك بوضوح أنّ الله تعالى لا بدَّ أن يتواصل مع الإنسان، ليعرّفه على طريق الكمال، وبما أنّ هذا التواصل لم يحدث مع كلّ إنسان على حدة، فبالتأكيد أنّه لا بدّ من حصوله مع بعض الناس دون الآخرين.

وفي التاريخ بيانات كثيرة من أشخاص ذكروا للناس بأنّ الله تعالى قد تواصل معهم عبر طريق خاص يُسمّى بالوحي، وأنّ الله تعالى بوساطة الوحي قد بيّن لهم طريق كمال الناس، وقد أُطلق على هؤلاء الناس مصطلح "الأنبياء". وهذا الأمر، وإن كان بعنوانه العام منطقيًّا، إلا أنّه يبقى سؤال بحاجة إلى إجابة، هو:

كيف نتعرّف على الأنبياء الحقيقيّين؟

ما هو الدليل الذي يجب أن نعتمده كي نصدِّق إنسانًا يدّعي أنّ الله تعالى تواصل معه بطريق خاص لا تناله حواسّنا وعقولنا؟
من الطبيعيّ أن يصدِّق الإنسان مِن هؤلاء الذي عرفه شخصيًّا بالصدق والاستقامة والكمالات، كما ذكر عن تصديق الإمام علي عليه السلام، والسيدة خديجة، لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أوائل دعوته، إلا أنّ هذا طريق خاص، غير متوفِّر لأغلب الناس، فضلاً عن كونه حصل في التاريخ، ولا وجود له في واقعنا الحاضر.

إذاً إنّنا نحتاج إلى دليل، يمكن الاعتماد عليه في هذا العصر، لتصديق من ادّعى النبوّة. وهذا ما يتحقّق من خلال ما يُصطلح عليه بالمعجزة.

عناصر المعجزة

المراد من المعجزة - التي هي وسيلة لإثبات النبوّة - ما تتحقّق فيها العناصر الآتية:
1- أن تكون أمرًا خارقًا للعادة.
يعني أن تكون خارجةً عن الأسباب العاديّة والطبيعيّة المعروفة، بحيث تكون مما لا يعهده الإنسان، ولا تناله التجربة.
وهنا لا بدّ من التأكيد على أنَّ كونها خارقة للعادة، هو خرقها للأسباب العادية، وليس للأسباب والقوانين العقلية، لأنّ خرق القانون العقلي مستحيل بذاته، فمن القوانين العقليّة أنّه يستحيل أن يجتمع النقيضان، فلا يمكن أن يجتمع وجود زيد وعدم وجوده من الجهة نفسها، وفي المكان والزمان نفسهما، لذا فإنّ هذا الأمر لا تناله المعجزة، لأنّه مستحيل بذاته، كما هو الحال في أنّ 1+1=2، فلا يمكن لأيّ شيء أن يجعلها أكثر من ذلك أو أقلّ. إضافةً إلى أنّ المعجزة تهدف إلى تصديق الآخرين بالنبيّ، لإيصال الإنسان إلى كماله، وبالتالي لا بدّ من المحافظة على قوانين عقله التي هي أساس ذلك التصديق، كما أنّها عمدة السير في طريق الكمال.

ومن باب التوضيح نقول:
أ- إنّ الإنسان حينما يريد أن يصعد إلى الطابق العاشر من المبنى، فإنّ وسيلة ذلك أن يعتمد المصعد أو الدرج، أو الحبل أو الطائرة. لكن هل يمكن للإنسان أن يقفز من الأسفل إلى الأعلى، من دون الاعتماد على أيّة وسيلة ليصل إلى الطابق العاشر؟! نعم، إنّ ذلك ممكن عقلاً، إلا أنّه خارق للأسباب العاديّة التي يعهدها الإنسان.

ب- إنّ تحويل العصا الخضراء إلى أفعى هو خارق للأسباب العادية، وليس للقوانين العقلية، لأنّه في القانون العقلي يمكن لهذه العصا أن تنحلَّ في التربة، ثم تنبُت من مادتها نبتة جديدة، فتأتي أفعى وتأكلها، فتتحوّل النبتة فيها إلى بيضة، ثم تتحوّل البيضة إلى أفعى.

إذاً تحوّل العصا إلى أفعى أمر ممكن عقلاً، إلا أنّ ما جرى مع نبيّ الله موسى عليه السلام هو خارق للعادة من ناحية تسريع المراحل.

2- أن يعجز الناس عن الإتيان بمثلها.

بهذا العنصر تفترق المعجزة عن أعمال السحرة، والمرتاضين، وأصحاب الإبداع العلمي، فهؤلاء قد يقومون بأمور يعدّها الناس خارقة للعادة، إلا إنّها تكون قائمة على أسباب معروفة عند أهل الفنّ والعلم، وينحصر جهلها عند غير أهل الاختصاص، وبالتالي يكون الأمر غير إعجازيّ، لإمكان الإتيان بمثله ممّن تعلّم قواعد الفن أو العلم، وتعرّف على خفاياه.

3- أن تكون مطابقةً للدعوى.

والمقصود أن تكون نتيجة الفعل موافقة لما قصده الفاعل، أو طُلِبَ منه، ليكون دليلاً على صدق دعوته، فلو صدر منه أمر خارق للعادة، لكنّه مخالف لما قصده أو طُلِبَ منه، لكان دليلاً على كذبه، بدل صدقه، وهذا ما نُقل حدوثه مع مسيلمة الكذّاب عندما طلبوا منه أن يتفل في بئر لتفيض ويكثر ماؤها، إلا أنّ ما حصل هو أنّه غار الماء متراجعًا إلى عمق الأرض، فدلّ ذلك على كذبه.

4- أن يكون مصحوبًا بدعوى النبوّة.

حتى يدلّ الأمر الخارق للعادة على نبوّة الفاعل، لا بدّ أن يكون مصحوبًا بدعواه النبوّة، لأنّه قد تحصل أمور خارقة للعادة من قبل بعض الأئمة أو الأولياء، من دون دعواهم للنبوّة، وهذه الأمور قد تسمى - في الاصطلاح- كرامات لا معجزات.

النتيجة

حينما تتحقّق هذه العناصر الأربعة في فعل مَنْ يخبر عن اتصاله بالله تعالى، عبر الوحي، الذي لا نستطيع أن ندركه بشكل مباشر، فإنّ فعل المعجزة يكون دليلاً على صدقه في دعواه، وبالتالي نُصدِّق أنّه نبيّ، وأنّه مكلّف من الله تعالى أن يخبرنا عن الطريق التي توصلنا إلى كمالنا.

ما هي المعجزة في هذا العصر؟

نلاحظ عند قراءة الأديان المنسوبة إلى الله تعالى أنّها اعتمدت في إقناع الناس بها على المعاجز، كما في الآتي:
أخبر الدين اليهودي عن معاجز نبيّه موسى عليه السلام، ولعلّ أهمّها العصا التي فُلِقَ بها بحر عظيم إلى فلقتين كطودين، والحجر الذي بضربه انبجست العيون...الخ. لكنّي كإنسان يعيش في القرن الواحد والعشرين، أقول لليهود: أروني هذه العصا وفعلها، وذلك الحجر وأثره، لأصدِّق نبيّكم، وإلاّ فما تذكرونه هو بمثابة حكايات لا أستطيع أن أؤمن بها من دون دليلٍ معاصرٍ لي.

وأخبرت الديانة المسيحيّة عن كثير من معاجز عيسى بن مريم، كإحيائه للموتى، وشفائه للمرضى وغير ذلك.
لكنّي أيضًا أسألهم: إنّي لم أعش في عصره، وأشاهده يفعل ذلك، لأصدِّق مقولتكم، فأين دليلكم في هذا العصر على قطعيّة ما حدث؟!

يمتاز الدين الإسلامي عن ما سبقه من أديان بأمرين:
1- إنّه يطرح نفسه خاتمًا للأديان، معترفًا بأديان سبقته، منها اليهودية والمسيحيّة، ممّا يجعل أولويّة الباحث عن نبيّ الإسلام تنصبّ عليه أولاً، باعتبار أنّه الطرح الأخير.
2- طرح الإسلام نوعين من معجزات نبيّه:
الأول:
يُشبه ما سبق من معجزات مطروحة في اليهودية والمسيحيّة، كمناداته للشجرة التي استجابت له، فانقلعت من جذورها، وتوجّهت نحوه، إلاّ أنّ ما طُرِحَ على أصحاب الديانتين السابقتين يأتي بنفسه في هذا النوع من المعجزات، فأنا لم أشاهد ذلك كي أصدِّق به.

الثاني: هي معجزة خالدة تصلح كمعجزة في كلِّ عصر، بمعنى أنّ فيها جميع عناصر الإعجاز، بحيث يتعرَّف عليها ابن القرن الواحد والعشرين، كما يتعرَّف عليها من كان في عصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويقتنع بها، كما اقتنع بها أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ألا وهي القرآن الكريم.

* كتاب يسألونك عن الأنبياء، سماحة الشيخ أكرم بركات.


1- تمّ شرح هذه المصطلحات في كتاب: "يسألونك عن الله".

2014-12-11