يتم التحميل...

في مواجهة الفساد

مواعظ الكتاب

وبالتالي فإنّ المنكرات إذا انتشرت وفشت في الناس، ولم يكن من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من المؤمنين بالله, فلا يأمننّ أحد من هؤلاء المؤمنين أو من غيرهم البلاء والسخط الإلهيّ الّذي سيحيق بهم.

عدد الزوار: 37

يقول الله تعالى في محكم كتابه: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَر 1

تمهيد
لقد حذّرنا الله سبحانه من الفساد في الأرض، قال تعالى: ﴿وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِين2.

وسبب ذلك أنّ الفساد عاقبته وخيمة ليس على المفسد فحسب، بل قد تعمّ المجتمع بأسره، يقول الله تعالى: ﴿وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب3.

وبالتالي فإنّ المنكرات إذا انتشرت وفشت في الناس، ولم يكن من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من المؤمنين بالله, فلا يأمننّ أحد من هؤلاء المؤمنين أو من غيرهم البلاء والسخط الإلهيّ الّذي سيحيق بهم.

دواء لاقتلاع المرض بعد حدوثه
إنّ إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب لحفظ المجتمع وصلاحه وفلاحه، وترك ذلك سبب في هلاكه وفساده، فالمجتمع كالسفينة إذا تهاون أهلها في ردع من يريد خرقها سيغرقون جميعاً، فأصحاب المنكرات كالزاني والمستهزئ بالدين ومن يشيع السفور والفجور وآكلو الربا وأموال الناس بالباطل والرشاة والمرتشون وغيرهم كثير، كلّ هؤلاء ينخرون في سفينة المجتمع، فإن لم يُمنعوا وينكر عليهم صار العذاب عامّاً والعقوبة شاملة.

من هنا فإنّ مكافحة الفساد ومواجهة الظلم واجب شرعيّ وقد جعل الإسلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من جملة الوظائف الّتي يجب على الناس العمل بها لمحاربة الفساد ضمن شروط وضوابط معيّنة, وهي ليست مقتصرة على فئة من الناس في المجتمع كالعلماء والحكومات بل تشمل المؤمنين جميعا.

أهميّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قال تعالى ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ4.
عن الإمام علي عليه السلام: "قوام الشريعة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود"5.

وعنه عليه السلام - لرجل قال له في وقعة صفين: ترجع إلى عراقك، فنخلّي بينك وبين العراق، ونرجع إلى شامنا فتخلّي بيننا وبين شامنا. فقال عليه السلام: "....إن الله تبارك وتعالى لم يرض من أوليائه أن يعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، فوجدت القتال أهون علي من معالجة الأغلال في جهنم"6.

لماذا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؟
إذا كان الفاسد لا يجد من يردعه فإنّه سوف يتجرّأ على الزيادة والولوج في ما هو أعظم, وقد يتجرّأ الآخرون ويسلكون مسلكه ويعمّ الفساد يوما بعد يوم لذا يقول الإمام علي عليه السلام: "ظهر الفساد فلا مُنكر مُغيّر، ولا زاجر مزدجر"7.

وعن الإمام الحسين عليه السلام: "اعتبروا أيّها الناس بما وعظ الله به أولياءه... ثمّ قرأ عليه السلام: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ8 ، وقال: فبدأ الله بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر فريضة منه، لعلمه بأنها إذا أديت وأقيمت استقامت الفرائض كلّها هيّنها وصعبها، وذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام مع ردّ المظالم ومخالفة الظالم، وقسمة الفيء والغنائم، وأخذ الصدقات من مواضعها، ووضعها في حقّها"9.

وفي رواية أخرى عن الإمام الباقر عليه السلام: "إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنّبياء، ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة بها تُقام الفرائض، وتأمن المذاهب، وتحلّ المكاسب، وتردّ المظالم، وتعمر الأرض، وينتصف من الأعداء، ويستقيم الأمر"10.

يظهر من هذه الروايات الأثر الهامّ والإيجابيّ لهاتين الفريضتين، وذلك بالتفصيل التالي:

1ـ تقام الفرائض , فلا يتساهل أحد في أداء هذه الفرائض لأنّه بالأمر بالمعروف لا يبقى مجال للتغافل عن هذه الواجبات لأنّ تركها يترتب عليه العقوبات, إضافة إلى أن انتشار المعروف واختفاء الفساد يؤثر إيجابا في توجه النفوس نحو الطاعة والعبادة والفرائض.

2ـ تأمن المذاهب, والأمن هو المطلب الرئيس للناس ولذلك امتن الله على قريش بهذه النعمة فقال : ﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْف والأمن المطلوب هو الأمن على جميع المستويات, على الأنفس والأموال والأعراض وهذا ما يحقّقه بشكل كبير التزام هذه الوظيفة من قبل الناس.

3ـ تحلّ المكاسب, فلا يأخذ الإنسان ما ليس له, ولا يأكل الناس أموالهم بينهم بالباطل نتيجة الإرتداع عن المعاملات والمكاسب المحرّمة, فلا تعامل إلا بالحلال الطيّب.

4ـ تُرد المظالم, ويكون بإرجاع الحقوق لأصحابها، لأنّ التزام هذه الفريضة من قبل الحاكم طوعا أو فرض ذلك عليه وهو الّذي يملك السلطة وبيده مجرى الأمور, وكذلك الرعيّة من خلال نصرة المظلوم على ظالمه، يردع الظالم عن ظلمه ويوقفه عند حدّه.

5ـ تعمر الأرض, فإذا كان الفساد يظهر في البرّ والبحر بما كسبت أيدي الناس, فكذلك فإنّ الوقوف في وجه الفساد من خلال هذه الوظيفة له أثر معاكس, فيكثر الخير وينزل الغيث وتعمر الأرض.

فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تزال أمّتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البِرّ، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات، وسُلّط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء"11.

6ـ ينتصف من الأعداء, فإذا كانت الجبهة الداخليّة للمجتمع الإسلامي متماسكة يسودها الصلاح والرفاه والكفاية وتخلو من الأمراض الّتي تفكّك الروابط بين أبنائه فلا شكّ أنّ ذلك سيقوّي من قدرة هذا المجتمع في مواجهة الأعداء، لذا ورد عن الأمير عليه السلام: "فمن أمر بالمعروف شدّ ظهور المؤمنين، ومن نهى عن المنكر أرغم أنوف المنافقين"12.

خطر ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- فيما رواه جعفر بن محمّد عن أبيه عليهم السلام-: "إنّ المعصية إذا عمل بها العبد سرًّا لم تضرّ إلّا عاملها، وإذا عمل بها علانيّة ولم يعيّر عليه أضرت العامة. قال جعفر بن محمّد عليهما السلام: وذلك أنّه يذلّ بعمله دين الله، ويقتدي به أهل عداوة الله"13.

وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر، أو ليعمّنكم عذاب الله"14.

كيف نتعاطى مع أهل المنكر؟
قال تعالى : ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين15.

وعن الإمام الباقر عليه السلام: "فأنكروا بقلوبكم، والفظوا بألسنتكم، وصكّوا بها جباههم، ولا تخافوا في الله لومة لائم، فإن اتعظوا وإلى الحقّ رجعوا فلا سبيل عليهم، ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيم16 ، هنالك فجاهدوهم بأبدانكم وأبغضوهم بقلوبكم، غير طالبين سلطانا، ولا باغين مالا، ولا مريدين بالظلم ظفرا، حتّى يفيئوا إلى أمر الله ويمضوا على طاعته"17.

هذه الروايات وأمثالها تحدّد طريقة التعاطي مع أهل المنكر ليكون للنهي عنه الأثر الفعال والنتائج المرجوّة، وذلك على الترتيب التالي:

أوّلاً: نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهّرة بما يفهمهم بأنّنا ننكر أفعالهم ولا نرتضيها, وألّا نعمل بأسلوب من تحدثت عنهم الآية ﴿كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ18 وأوضح الإمام عليه السلام -: "أنهم لم يكونوا يدخلون مداخلهم، ولا يجلسون مجالسهم، ولكن كانوا إذا لقوهم ضحكوا في وجوههم وأنسوا بهم".

ثانيا : الإرشاد وبذل النصيحة لأهل المعاصي والّذين قد أسرفوا على أنفسهم، وتقريبهم إلى الله وتحبيبهم في الطاعة، ونسعى لمعالجة هذا المرض النفسي لديه. ينبغي القيام بهذا الواجب سرًّا بنحو لا يؤدّي إلى إفشاء أسراره ولا تهدر كرامته لدى المرشد، ما تيسر ذلك.

ثالثا: إعمال اليد والسلطة بما لا يؤدي إلى جرح أو كسر كما ذكر الفقهاء وإلّا احتاج الأمر إلى إذن الحاكم الشرعيّ. كما جاء عن الإمام الباقر عليه السلام في الرواية المتقدّمة: "فإن اتعظوا وإلى الحقّ رجعوا فلا سبيل عليهم، إنما السبيل على الّذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحقّ أولئك لهم عذاب أليم، هنالك فجاهدوهم بأبدانكم".
كما يلزم إرجاع حقّ الآخرين ـ المعتدى عليهم ـ إليهم.

على أنّه ينبغي في مجال الأمر بالمعروف رعاية أمور أخرى
كالتدقيق في موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن نُخلص نيّاتنا، ويكون تعاملنا مع مرتكبي المعاصي تعامل الطبيب المخلص مع المريض كما كان رسول الله (طبيب دوّار بطبّه)، ومراعاة الشروط الشرعيّة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وعلينا أن لا نتلوّث ونتأثّر بالمجرمين والعُصاة، فنقع في فخّ المعصية بدلاً من المنع عنها.

وعلى سلوكنا أن يكون بنحو لا يرغّب الآخرين في ارتكاب المعصية، فعليه إضافة إلى عدم ارتكابها أن لا يرغب الآخرين والّذين معه في ارتكابها.

ويجب أن لا يؤخذ الناس بالظن والتهمة ويُجعل الأصل فيهم الريبة وعدم الثقة، فهذا مما يتنافى مع أصول الإسلام، فالأصل في الناس الإيمان والصلاح.

* قد جاءتكم موعظة , سلسلة الدروس الثقافية , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


1- سورة التوبة، الآية: 71.
2- سورة الأعراف، الآية: 56.
3- سورة الأنفال، الآية: 25.
4- سورة آل عمران، الآية: 104.
5- غرر الحكم، ح6817.
6- نهج السعادة، ج 2 ، ص 226.
7- نهج البلاغة، الخطبة 24.
8- سورة التوبة، الآية: 71.
9- تحف العقول، ص 237.
10- الكافي، الشيخ الكلينيّ، ج5، ص56.
11- وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج16، ص123.
12- نهج البلاغة، ج4، ص8.
13- ثواب الأعمال، الشيخ الصدوق، ص311.
14- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج11، ص407.
15- سورة الأنعام، الآية: 68.
16- سورة الشورى، الآية:42.
17- وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج11، ص 403.
18- سورة المائدة، الآية: 79.

2014-12-05