موقف عمر بن سعد
مواقف من كربلاء
إن الصراع بين الدنيا والاخرة صراع لا ينتهي إلاَّ بانتهاء الحياة الإنسانية من هذا الكون، ومنشأ هذا الصراع هو الذات البشرية بما تحتويه من قابليات للارتقاء في معارج الكمال من جهة، ومن إمكانياتٍ للتسافل في الدركات، وهذا الصراع الداخلي في النفس البشرية هو الذي يشير إليه القران الكريم
عدد الزوار: 426
إن الصراع بين الدنيا والاخرة صراع لا ينتهي إلاَّ بانتهاء الحياة الإنسانية من هذا
الكون، ومنشأ هذا الصراع هو الذات البشرية بما تحتويه من قابليات للارتقاء في معارج
الكمال من جهة، ومن إمكانياتٍ للتسافل في الدركات، وهذا الصراع الداخلي في النفس
البشرية هو الذي يشير إليه القران الكريم في قوله:
﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا
فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا*قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾1.
وهو من جهة أخرى المصدر الأساس الذي تنشأ عنه تصرُّفات الإنسان وسلوكه والمواقف
التي يتخذها أمام أية حالة من الحالات التي تواجهه في خط الحياة المليء بالوقائع
والأحداث والمجريات التي لا يمكن إلاَّ أن يأخذ منها الإنسان موقفاً مهما كان نوع
ذلك الموقف.
ومن هذا الصراع الذي بدأ مع بداية الحياة الإنسانية يتحدّد كذلك مصير الإنسان في
العالم الاخر عند المليك المقتدر الذي يحاسب الفرد على كل أعماله التي اكتسبها سواء
أكانت إيجابية في غالبيتها بحيث تؤهّله لدخول الجنَّة، أو سلبية تؤدي به إلى الهلاك
والنار.
وفي هذا يقول القران الكريم:
﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا
يَرَه*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾2.
ومع أن الإنسان إذا كان مُسلِماً فإنه في الغالب يسمع هذه الايات جميعاً، سواء منها
التي تحدّد للإنسان الخيارات المفتوحة أمامه، أو التي تتحدَّث عن المصير والجزاء
الأخروي الموافق لخط السير الذي اختاره لحياته الدنيوية إلاَّ أننا مع هذا نرى
الانحراف الكبير والخطير الذي قد يوجد عند الأفراد من المسلمين أو المجتمعات، وهذا
إن دلَّ على شيء فإنه يدل على عدم القدرة عن صون النفس من الإنجراف والإنجرار
وراء الدعوات الشيطانية التي تغري الإنسان في هذه الدنيا بالنعيم الزائل والمتع
الرخيصة التي يسعى المغرور بها إلى تحصيلها من غير وسائلها المحلّلة متجاوزاً في
سبيلها الكثير من الحدود التي وضعها الله سبحانه أمام البشر لكي لا يتعدُّوها، ويضع
نفسه المنحرفة بالتالي أمام الغضب الإلهي الذي أعدّه لمثل هؤلاء المستهترين
واللامبالين بالتكليف الإلهي، خاصة إذا كانوا من الذين يعرفون تلك الحدود ويقدمون
على تجاوزها سعياً وراء الوصول إلى مشتهياتهم لإرضاء النزوات والرغبات النفسانية
التي تكون الباعث لهم والمحرك الأساس الذي يدفعهم إلى الإقدام على تلك الأفعال
المحرَّمة وبهذا يخسرون الاخرة وقد لا يربحون الدنيا التي أرادوها.
ومن الأمثلة البارزة في هذا المجال من كربلاء الدم والشهادة " عمر بن سعد " ذلك
الإنسان الذي دفعه حبه للدنيا إلى أن يكون شريكاً أساسياً إلى جانب الحكم الأموي في
سفك دم الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه، إنه عبارة عن الإنسان الذي
فكَّر ثم قدر، فقُتِل كيف قدر، إنه نموذج سيء عن الإنسان الذي استهوته شهوة السلطة،
فصار يبحث عنها من أي طريق كان بغية الوصول إليها، وهذا مما سهَّل على الحكم الأموي
إغراءه بملك دنيوي عقيم.
إن عمر بن سعد هو مَثلٌ صارخ للإنسان العالم الذي لم يتحوَّل العلم عنده إلى قناة
اتصال قلبي وروحي ومعنوي توصله إلى الله، لأنه لم يهذّب نفسه ولم يسع في سبيل
إصلاحها وجعلها تعيش التوازن بين متطلّبات الاخرة واحتياجات الدنيا، فهو المثل الذي
سجَّلته لنا مجريات كربلاء عن الإنسان الذي سقط في امتحان الدنيا من خلال ترك نفسه
ميداناً يرتع فيه الشيطان وحزبه، وهو المَثَل عن الإنسان الذي زوَّده الله بكل
الأسلحة المعنوية التي تعينه على السيطرة على الشهوات المنحرفة والرغبات الشاذَّة
التي قد تدفع بالمرء إذا انساق معها إلى المهاوي السحيقة في نار جهنم، وهو عبارة عن
الإنسان الذي قرأ القران ورتَّل اياته، إلاَّ أن ذلك الترتيل لم يتجاوز اللسان
والأذن ليصل إلى القلب، وإلى حيث مجمع الشهوات ليضبطها في حركات تنسجم مع المسيرة
الصحيحة من البشر في هذه الدنيا التي أراد لها رب العزَّة أن تكون الطريق الأقرب
للوصول إلى حيث رحمة الله وعطاؤه وبركاته المعدَّة للإنسان هناك في عالم الاخرة.
لقد قضى ابن سعد هذا ليلته وهو يفكر، تارة يغريه المنصب المعروض عليه إن هو شارك في
قتل الحسين عليه السلام وكان ذلك المنصب عبارة عن " ملك الري "، وتارة ينتفض الجانب
المشرق من نفسه ليحذّره ويخوّفه من ذلك الفعل الشنيع الذي يريد الدخول والمشاركة
فيه، وبهذه الطريقة من الصراع الداخلي النفسي كانت تمر الدقائق والساعات على ابن
سعد طويلة ويحسب كل دقيقة منها دهراً، لأنه يعلم من هو الحسين عليه السلام وماذا
يمثل في ميزان الإسلام، ويعلم من هو يزيد وما هي قيمته أيضاً، إلاَّ أنها النفس
الأمَّارة بالسوء التي تجر الإنسان إلى ما لا تحمد عقباه، فلم تتركه لأنها وجدت فيه
نقطة ضعف كبيرة تشكل دافعاً قوياً تؤدي به إلى الانحراف إلى الحد الذي يقدم فيه على
قتل ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وابن الزهراء عليها السلام وابن أمير
المؤمنين عليه السلام، وقد عبَّر عما كان يعتمل في نفسه من صراع بأبيات من الشعر
مطلعها:
أأترك ملك الري والري بغيتي**أم أرجع مأثوماً بقتل حسين
لكن حب الدنيا قد طغى على قلبه وبصيرته فأعماه فلم يعد يهتدي إلى الحق سبيلاً.
بل قد وصل به الأمر في السفالة والدناءة أنه كان أول من أطلق سهماً باتجاه معسكر
الإمام الحسين عليه السلام وهو يردد (إشهدوا لي عند الأمير بأني أول من رمى) وابتدأ
القتال مع أصحاب الامام عليه السلام، وكان كل ذلك تقرباً إلى بني أمية الظالمين
سعياً وراء منصب دنيوي يتمتع بنعيمه ساعة ويشقى بعذابه خالداً في النار التي سجرها
الجبار لغضبه على أمثال هؤلاء الساقطين اللاهثين وراء الدنيا ولو على حساب دماء
المجاهدين والمؤمنين الصابرين الذين يتحملون كل أنواع البلاء فداءً لدين الله
ورسالته.
وهكذا قاد عمر بن سعد ذلك الجيش لقتل الامام عليه السلام وتنفيذ مارب الأمويين وعلى
رأسهم يزيد الفاسق الفاجر واكتسب العار الأبدي والذل الذي لا ذلَّ بعده بسبب
جريمته النكراء تلك، ولكن هل حصل ابن سعد على دنياه التي كان يبحث عنها وسعى اليها
عبر تلك الفعلة الشنيعة؟ إن التاريخ يخبرنا بأنه لم يصل ولم يحصل على مبتغاه في أن
يصبح أميراً على الري، ولم يحقق الحلم الذي أرَّق ليله وأقلق راحته، وخسر بذلك
الدنيا بعد أن كان قد خسر الاخرة أيضاً.
وهذا المصير الأسود هو المصير المحتوم لكل إنسان يرضى لنفسه أن يكون مطية بأيدي
الظالمين الذين يستغلون خيرات البلاد والعباد لشراء الضمائر وتجييرها لمصالحهم
الخاصة، ثم بعد أن يحققوا أغراضهم منها ويستنفذوا طاقاتهم يرمونهم جانباً من دون أي
اهتمام بهم على الاطلاق، والتاريخ مليء بمثل هذه الشواهد المخزية من البشر وقد
حفظهم لنا ليكونوا عبرةً ودرساً وعظةً يتعظ بها الناس خاصة منهم المؤمنون الذين
يقدرون على التمييز بين الأمور.
من هنا، فنحن مدعوون ومطالبون في كل يوم وكل ساعة أن نكون من الذين يلتفتون إلى
أنفسهم تهذيباً وتربية وإصلاحاً وتزكية ومحاسبة دقيقة حتى لا نتعرض لمثل تلك
البلاءات الصعبة التي يحتاج الانسان في مواجهتها إلى القوة الايمانية المقتدرة،
وتهذيب النفس خير معين للمؤمن في هذا المجال ليتقوى ويقتدر ويثبت في مواجهة تلك
الاغراءات الشيطانية التي يدفع الانسان إذا انساق مع مطالبها حياته رخيصة في سبيلها
ويخسر أيضاً ما هو أهم وأعظم " رحمة الله ولطفه وعنايته التي يحتاجها للوصول إلى أن
يكون من سكان الجنان الواسعة ".
ولا يبعد هذا الموقف الجبان والمتخاذل من عمر بن سعد عن مواقف العملاء الذين باعوا
أنفسهم في هذا الزمن للعدو الصهيوني الغاشم حيث تصوروا أو توهموا أن هذا العدو الذي
احتل أرضنا سوف يحميهم من القتل وسوف يغدق عليهم الهدايا والجوائز لقاء عمالتهم له
ورضوخهم لأمره، لكننا رأينا كيف أن هؤلاء الذين باعوا دينهم وأهلهم للعدو قد خسروا
كل شيء، إما قتلاً على يد أبطال المقاومة الإسلامية، وإما سجناً لينالوا جزءاً من
العقاب الذي يستحقونه لقاء عمالتهم وعملهم ضد أبناء شعبهم، وهذه النتيجة المخزية في
الدنيا والاخرة كانت نتيجة خيانة ابن سعد ايضاً حيث لم يحصل على مبتغاه وقتل شرَّ
قتلة على أيدي الذين ثاروا لمقتل الامام الحسين عليه السلام في كربلاء.
* كتاب مواقف من كربلاء، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- الشمس:7-10
2- الزلزلة :7-8