يتم التحميل...

شروط المدد الإلهي

الجهاد

ذكَر القرآن الكريم إثني عشر شرطاً، يجب على المؤمنين رعايتها بشكل كامل لكي يتحقق الوعد الإلهي لهم بالنصر وبإرسال المدد، وتهيئة هذه الشروط بمنزلة تهيئة الأرضية اللازمة لنزول الإمدادات الغيبية الإلهية. وأما تفصيل تلك الشروط فهي كالتالي:

عدد الزوار: 478

مدخل

ذكَر القرآن الكريم إثني عشر شرطاً، يجب على المؤمنين رعايتها بشكل كامل لكي يتحقق الوعد الإلهي لهم بالنصر وبإرسال المدد، وتهيئة هذه الشروط بمنزلة تهيئة الأرضية اللازمة لنزول الإمدادات الغيبية الإلهية. وأما تفصيل تلك الشروط فهي كالتالي:

تهيئة العديد الكافي

يتعلّق هذا الشرط بالكم، وهو عبارة عن تأمين وتوفير الطاقات الإنسانية أو ما يُسمى (بالعديد البشري). ولبيان هذا الشرط بشكل أعمق وأوضح، نقول: إنه إذا أراد المؤمنون الإقدام على الحرب والجهاد، فلا بد لهم من تأمين المقدار المطلوب الكافي من الطاقات الإنسانية الحاضرة والجاهزة، لأنها تعتبر أول شروط الجهاد وأهم أركانه في مواجهة الأعداء، فمع فقدان "العديد البشري" من الأنصار والأفراد هل يمكن مجابهة العدو؟

في بداية بعثة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في مكة المكرمة، لم يكن عديد المسلمين آنذاك يسمح لهم بقتال الأعداء، ولهذا السبب أُمِرُوا بتجنب الحرب والصِدام، وهذا ما يستفاد من الوصف الوارد في هذه الآية الشريفة، حيث يقول الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ1.

فلقد كان البعض في صفوف المسلمين مستعداً للقتال والحرب، وقبل أن تتهيّأ الظروف المناسبة وتُستكمل شروط الجهاد والقتال، بسبب النقص في العديد أو عدم توفّر القدرات اللازمة كالسلاح والعتاد ونحوها.

لكن التكليف الإلهي كان يأمرهم بتجنّب إشعال أي حرب، والاكتفاء بدل ذلك ببناء الذات الإيمانية وإصلاح ما فسد منها، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولذلك خاطب الله تعالى المؤمنين بهذه الآية ﴿كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ2.

ثم إنَّ الملفت فيما بعد: أن بعض هؤلاء الذين رفعوا شعار القتال وسَعَوا لإشعال فتيل الحرب، وتركوا التكليف الإلهي الذي أمروا به حينها ألا وهو تهذيب النفس، هم أنفسهم تراجعوا بعد نزول الأمر الإلهي بالجهاد. أي بعد توفّر الإمكانات المطلوبة وبعد أن أصبحت الأرضية مُهيئة والظروف الإجتماعية تسمح بالإقدام على الحرب، أصدر النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الأمر بالجهاد والقتال، فاعترضوا عليه ورفضوه، وتجنّبوا الذهاب إلى ميدان الحرب. فالإذن بالجهاد وصدور الأمر الإلهي بحرب المشركين لم يُعط إلا حينما تمت تهيئة الظروف المطلوبة، ولكن مع مرور الزمن إزداد عديد المسلمين وأصبح الكم وافياً لتشكيل فرق إسلامية محاربة، وتوفرت الإمكانات المالية والعسكرية بشكل أكبر، عندها فقط أُعطي الإذن.

لكن لا بد من الالتفات إلى أن المقصود من هذا الشرط - وهو تأمين العديد البشري - ليس بأن يكون عديد المؤمنين مساوياً لعديد المشركين أو أكثر منه ليكون دخول الحرب جائزاً أو واجباً، إذ أنه هناك عوامل أخرى غير الكم والعديد البشري، تلعب دوراً في دعم ميزان القوى بين الطرفين ولا يجب إغفالها.

فمن الممكن مثلاً أن يكون عديد المؤمنين وطاقاتهم البشرية أقل بمراتب من عديد الكفار وطاقاتهم البشرية، لكن مع التوجه إلى العوامل الأخرى المادية والمعنوية ومع دراسة نقاط قوته، فإننا سوف نستنتج أنّ قدرة المؤمنين العسكرية والجهادية من حيث المجموع هي أكبر من قدرة العدو الظاهرية، وهذه حقيقة قد أشار إليها القرآن الكريم في آية شريفة، إذ قال الله تعالى: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ3.

والحاصل من هذا الكلام، أنه مع وجوب تأمين العديد البشري الكافي من المؤمنين، فهو لا يعني أنه يجب أن يكون مساوياً أو متفوقاً على عديد الكفار، إذ لا يمكننا أخذ هذا الشرط (تأمين الكم والعديد البشري) بشكل مطلق، ثم نغفل العوامل الأخرى المؤثرة في صنع النصر، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم، يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ4.

فلقد نزلت هذه الآية لتحرض المؤمنين على القتال، ولتوضح أن المؤمن الصابر الذي يحمل روحية الإيثار وطلب الشهادة بشكل صلب وراسخ هو في الحقيقة يمتلك أقوى سلاح لمواجهة الأعداء! وهو أثبت من الجبال، بل إن ثباته أرسخ وأعمق من الجذور الضاربة في باطن أعماق الأرض!.

إن القرآن الكريم، وبالنظر إلى العوامل والتغيّرات الحاصلة التي قد تؤثر على المؤمنين، قام بخطوات تخفيفية، يقول الله تعالى في آية تلت آية التحريض السابقة: ﴿الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ5.

ففي الآية الأولى: يُعطي الله عز وجل الأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بتحريض وترغيب المؤمنين على القتال والجهاد، ولأجل رفع توهم بعض الذين يظنون أن الظرف ليس ظرف حرب وقتال - باعتبار قلة عديد المسلمين أمام كثرة عديد الكفار - أوضح الله تعالى لهم حقيقة مهمة وهي: أنّ مُؤمناً واحداً صابراً، قادرٌ على مواجهة ومبارزة عشرة أشخاص من الكفار وينتصر عليهم.

ومن هذه الجهة ولأجل الخوض في الحرب، والأمل بالنصر، يكفي أن يكون عديد المؤمنين عُشر عديد العدو، فوجود هذا الكم من العديد البشري المؤمن كاف للشروع في الحرب بحسب المنطق القرآني (واحد مقابل عشرة) بل هو قادر على تسجيل النصر على الأعداء.

وأما الآية الثانية: فهي ناظرة إلى ظروف مختلفة عن ظروف الآية الأولى، إذ إنها مرتبطة بظرفٍ فقَدَ فيه المسلمون الإيمان القوي والإحساس بالقدرة، وأصبحوا أسرى ضعفهم ووهنهم، ولهذا السبب خفّف الله تعالى تكليفهم، وكان الكم المطلوب أن يكون تعداد مجاهدي جيش الإسلام نصف عديد جيش العدو حتى يكونوا قادرين على تسجيل النصر، فكل مجاهد مقابل اثنين من العدو، ويجب أن لا يقلق المسلمون من نقصان الطاقة البشرية وعليهم أن يعلموا أنهم قادرون، وبهذا الكم من العديد البشري، على حرب وقتال الأعداء بل وعلى تحقيق الانتصار.

ومن مجموع تلك الآيات نستفيد: بأن المؤمن إذا ما ارتقى إلى الكمال اللائق، وكان في أوج الإيمان الصادق والاعتقاد السليم لأمكنه - ولوحده - أن يواجه عشرة أضعاف العدو. وأما لو كان هذا المؤمن ضعيف الإيمان فسوف يُراعَى ظرفه النفسي ويخَفّف تكليفه - رحمة إلهية به - ويكون تكليف كل واحد من المؤمنين أن يقابل اثنين من الأعداء، وبالتالي يكفي في هذا الظرف أن يكون عديد معسكر الإسلام نصف عديد معسكر الكفار، ليبقى الأمل بالانتصار قائماً.

أما مع فقدان الكم والعديد اللازم، ومع عدم تهيئة الظروف المطلوبة لا يجب الإقدام على الحرب لأن الأمل بالنصر مع فقدان تلك الشرائط ضعيف جداً، ومع الإقدام سوف يكون ذلك سبباً لهلاك المؤمنين جميعاً من دون أية ثمرة.

الجهاد المالي

يتمحور هذا الشرط حول الشروط الاقتصادية للحرب، من تأمين تكاليف العمليات الحربية وتوفير المنابع المالية لشراء كافة الاحتياجات أثناء المعارك. فما لا شك فيه أن لكل حرب ظرفها الاقتصادي من السعة والضيق المالي، وفي بعض الموارد تكون عهدة تأمين بعض تكاليف الحرب على عاتق المسلمين كأمة.

ففي بعض المقاطع التاريخية كما في عهد صدر الإسلام، كان المسلمون فقراء ومعوزين إلى حد أن بيت المال كان خالٍ دائماً، فالحاجة والفقر كانا بحجم أن ما يُجمع من المال كان يُصرف بسرعة ويُقسّم بين الناس ليساعدهم على تأمين ضروريات حياتهم الشخصية والاجتماعية.

وفي مثل هذه الظروف إذا ما اعتدى الكفار على المسلمين، كان يُضطر المسلمون إلى تأمين تكاليف ومصاريف الحرب من عهدتهم الشخصية، ومن هذه الجهة نرى أن بعض آيات الجهاد كانت تأمر المسلمين مراراً وتكراراً بتأمين تكاليف الحرب من أموالهم الشخصية عبر جمع الأموال والمساعدات فيما بينهم، وكانت الآيات القرآنية تُرغبهم بذلك معتبرة هذا الإنفاق والبذل جهاداً في سبيل الله تعالى، وهذا ما اصطلح عليه (بالجهاد المالي)، ونمر هنا على ذكر بعض الآيات القرآنية التي تحدّثت حول موضوع الجهاد المالي.

يقول الله تعالى:﴿وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ6.

ففي هذه الآية التي وردت ضمن آيات الجهاد، دعوة إلهية للمسلمين إلى الإنفاق وبذل الأموال في سبيل الله، من أجل تأمين مصاريف الحرب، ثم تُتبع هذه الدعوة بتعبير قرآني ملفت: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ.

وفي الحقيقة، إنّ هذه العبارة هي تحذير وإنذار إلهي للمسلمين بأنهم في حال بخلوا ورفضوا الجهاد المالي ولم يقوموا من خلال إنفاق أموالهم بتأمين مصاريف الحرب فإن الهزيمة سوف تنتظرهم، وفي هذه الهزيمة لجيش الإسلام حقيقة مرّة وعاقبة وخيمة: وهي إلقاء المسلمين أنفسهم إلى التهلكة والدمار لأن انتصار الأعداء يعني تسلطهم على رقاب المسلمين وإذلالهم وسحقهم.

لذا ومن أجل تجنّب الهزيمة وبالتالي الهلاك، لا بد من النهوض بواجب (الجهاد المالي) لتأمين كل مستلزمات الحرب الاقتصادية.

وفي آية أخرى يقول الله تعالى: ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ7.

هذه الآية أيضاً وردت في سياق آيات الجهاد التي تُرغّب وتحرّض المسلمين على الإنفاق والجهاد المالي عن طريق القول بأن الأموال التي تُبذل في سبيل الله لن تذهب هدراً بل لها عوض عند الله عز وجل، وسيجزيكم في الآخرة أجر ما بذلتموه، هذا بالإضافة إلى الثمرة الدنيوية المهمة التي ستقطفونها ألا وهي أن إنفاقكم هذا سوف يكون سبباً ومقدمة لانتصاركم على الأعداء في الحرب وهذا ما فيه صلاح دنياكم.

إذن، الحث على القيام بواجب الجهاد المالي وعدم البخل في إنفاق الأموال في سبيل الله من أجل تأمين تكاليف الحرب، هو أسلوب قرآني مؤثّر. والذين يبخلون عن الإنفاق ولا يجاهدون مالياً في إدارة الحرب ثم يستغيثون الله ويتضرعون إليه ويطلبون منه المدد والنصر هم في الحقيقة لا يملكون فهماً صحيحاً للقرآن الكريم، ولا معرفة لديهم بتعاليم الدين الإسلامي التي تبتني على أساس قيام الإنسان أوّلاً بأداء تكليفه وبعدها ينتظر المدد، وعلى كل حال، فمثل هؤلاء البخلاء لن يحصدوا إلا الخيبة والخسران في الدنيا قبل الآخرة.

تهيئة المعدّات الحربية والوسائل العسكرية

هذا الشرط مرتبط بالبعد العسكري والحربي، وهو عبارة عن تهيئة المعدات الحربية وتجهيز الوسائل والأدوات العسكرية اللازمة لمواجهة العدو. فالواجب يحتّم على جيش الإسلام إذا ما صمم على حرب وقتال الأعداء أن يكون مُجهزاً بالأسلحة العصرية المتطورة والمناسبة لحرب ذلك العدو، لأن تأمين السّلاح والعتاد والذخيرة وتوفير متطلّبات الحرب الضرورية، له دخل في صنع أسباب النصر.

فلا عيب أو حرج في أن تكون تجهيزات جيش الإسلام العسكرية أكثر كمّاً أو أحدث تطوراً من تجهيزات العدو، بل لا أقل أن تكون تجهيزات المجاهدين العسكرية مساوية لتجهيزات العدو، سواء اقتضى الأمر أن يصنع المجاهدون تلك الوسائل بأيديهم وبحسب قدرتهم وطاقتهم أم اقتضى الأمر تأمينها وتهيئتها من أماكنها ومصادرها بالشراء ونحوه، فالمهم هو الإعداد لما يلزم، يقول الله تعالى حول هذا الشرط: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ8.

طاعة القيادة

إنّ المؤمنين مُكلّفون دائماً بطاعة قادتهم الإلهيين، لكن إطاعة تكاليف وأوامر القائد الإلهي، أو من له حق الحكومة وولاية الأمر على نفوسهم في وقت الحرب أو الأزمات وحين الشدائد أو المشكلات، له خصوصيته وحساسيته وتأثيره المصيري في صنع النصر أو الهزيمة.

فإذا لم يكن المجاهدون والمقاتلون متمسّكين بالانضباط العسكري، وأراد كل واحد منهم أن يعمل برأيه بدلاً من إطاعة التكليف الصادر، فعندها لن نرَى المجاهدين صفاً واحداً كالبنيان المرصوص، بل إنّ التفرقة والحساسيات ستعم محل الوئام والوحدة والانسجام، بل إنّها سوف تسبب ضعف وتشتت الصفوف وبالتالي الانكسار والهلاك في الجبهة.

ولذلك فإن مسألة (النظم والانضباط العسكري) في جيش الإسلام تعتبر من أهم المسائل، وخاصة في عصرنا الحاضر، حيث تمتاز الجيوش العالمية بانضباط شديد وحازم، وتخضع مسألة الانضباط العسكري لمقررات لا تقبل المسامحة ومخالفتها تؤدي إلى محاكماتٍ وعقوباتٍ شديدةٍ وشاقّةٍ، يقول الله تعالى: ﴿وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ9.

وفي هذه الآية تأكيد على نقطتين أساسيتين:
الأولى: تأكيد على إطاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كقائد عام، خاصة أثناء الحرب.
الثانية: تأكيد على وجوب الابتعاد عن الاختلاف، والتفرقة والجدال، وعن كل العوامل التي يُمكن أن تؤدّي إلى فشل المسلمين وكسر شوكتهم.
ومن أجل حساسية هاتين النقطتين كان التأكيد الإلهي بوجوب رعايتهما، فإن الطاعة للقائد من جهة، وحفظ الصفوف بالابتعاد عن التنازع وأسباب التفرقة من جهة ثانية، هما من أسباب النصر، وسيؤدي إهمالهما إلى ضعف جبهة الإسلام، بل الهزيمة.

الاستفادة من العلوم العسكرية والفنون الحربية

إن أي تحرّك للمؤمنين في الجبهة من دون حساب دقيق ودراسة واعية لا يُعد جرأة أو شجاعة، بل هو عمل خاطئ، خاصة في مواجهة عدو ظالم ومتعطش لسفك دمائهم.

لذ، من الواجب على المقاتلين المؤمنين تعلّم كل فنون وأساليب الحرب، وتنفيذها بحذافيرها والتموضع بحالة الجهوزية التامة، والالتصاق بالسلاح وجعله إلى جانبهم دائماً، حتى لا يُؤخذوا على حين غفلة. فالعدو يترصّد دائماً حالة الغفلة عن السلاح أو عدم الجهوزية لينقضّ على المؤمنين، لذا يُعدُّ بقاء المجاهدين في حالة الجهوزية التامة سبباً لإفشال كل محاولات العدو في الإجهاز عليهم وجعله يائساً من النيل منهم.

وعلى المقاتلين أيضاً أن يراقبوا دائماً الظروف المتغيّرة أثناء خوض المعارك لمعرفة الأسلوب المناسب للحرب في هذا الظرف أو ذاك، لتكون ضرباتهم موفّقة وناجحة، فيختاروا تكتيك الحرب المناسب لظرفهم الفعلي: إما حرب عصابات مثلاً أو حرب جيش نظامي، ونحوها من أساليب وتكتيكات الحروب.

يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعً10.

معرفة العدو والحذر منه

إنّ هذا الشّرطَ مرتبطٌ بمعرفة المسلمين الدقيقة بعدوهم ووعيهم لمخططاته، والحذر الدائم منه وسوء الظن به.

يجب على جيش الإسلام، وبالخصوص قادته، أن يكونوا في أعلى درجات الوعي والإدراك والمعرفة والاطلاع على كل أحوال العدو وخططه حتى لا يقعوا في فخ مكر وخديعة ذلك العدو، فمن الطبيعي أن يسعى أعداء الإسلام إلى أي عمل أو سلوك يجر المسلمين إلى طريق الهزيمة ويُسهّل عليهم النيل من جيش الإسلام العزيز وتسجيل النصر عليه، وهناك نماذج عديدة من أوجه المكر والخديعة عند العدو:

فمثلاً قد يلجأ العدو إلى إعلان الصلح ظاهراً والدعوة إليه، مُخفياً النية بإدامة الحرب واقعاً بغية تحقيق هدف معين، إما لأجل التخفيف من تكلفة الحرب، وإما لأجل توجيه ضربة عسكرية قاسية وسريعة إلى المسلمين.

أو من أجل تخفيف ضغط الرأي العام فيعلن الصلح ظاهر، لينخدع الرأي العام بفكرة الصلح فيميل إلى مصلحة العدو.

وبناءً على ذلك يلزم على المجاهدين والمقاتلين جميعاً التنبه والوعي، خصوصاً القادة العسكريين ومسؤولي الفرق.

وعلى القائد العام وبفضل تأثيره على الرأي العام من المؤمنين والمسلمين، أن يعمل على فضح أهداف العدو ليحفظ المصالح الدنيوية والأخروية للمجتمع الإسلامي، ويحافظ على جيش الإسلام من الضياع والسقوط في متاهات المؤمرات والخدع.

يقول الله تعالى:﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ11.

فإلغاء العهد مع هؤلاء كان نتيجة خيانتهم للمسلمين ولا عهد لخائن.

وفي آية أخرى يقول الله تعالى: ﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ12.

والخطاب هنا يتوجّه إلى المجاهدين بأن لا تقبلوا السلم لأنكم أنتم الأعلون وأنتم المنتصرون، ولأنكم كذلك، يريد العدو أن يخدعكم بدعوتكم إلى السلم والصلح فلا تنخدعوا بهذه الدعوة.

تحصيل المعارف السليمة والعقائد الصحيحة

علّل الله تعالى في الآية 65 من سورة الأنفال التي ذكرناها في سياق بيان الشرط الأول، سبب ضعف الكفار عن مواجهة المؤمنين بأنهم قوم لا يملكون الفهم والإدراك العميق وبأنهم فارغون من المعارف والعقائد الصحيحة والسليمة، فوصفهم تعالى: ﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ13. إذ، وفي المقابل، فإن الصفة التي تميز المجاهدين، هي انهم "يفقهون"، أي أنهم مدركون وأذكياء، ورؤيتهم، وعقيدتهم صحيحة.

فالكفار يحاربون من أجل الأمور الدنيوية ولأجل كسب السلطة أو المنصب أو الثروة، ولا يلتفتون إلى الأمور المعنوية وإلى عالم الآخرة، ولا يعلمون ما هي نتيجة عملهم وإلى أين سيكون مصيرهم وماذا سيواجهون بعد الموت؟

لكن المؤمنين الذين يقاتلون بدافع كسب الرضا الإلهي، وبنية التقرب من الحضرة الإلهية، يعلمون بالتحديد ما هي نتيجة أعمالهم وأي مصير سيلاقون، ويَرَوْن المستقبل أمامهم مشرقاً وواضحاً، فهم يعلمون أنهم الفائزون دائماً سواء وُفقوا لتحقيق النصر الظاهري أم لم يُوَفقوا.

وفي المجموع يمكن أن نفهم من مفهوم ومنطوق هذه الآية الشريفة أن عامل القوة في المؤمنين هو امتلاكهم للفهم العميق والعقيدة الصحيحة، وفي المقابل فإن الفكر المنحرف والعقائد الملوثة والخرافية هي عامل الضعف والهزيمة عند الكفار.

وبناءً عليه يمكن القول بأن زيادة معرفة وعلم المؤمنين بدينهم وعقيدتهم هي في الحقيقة زيادة في قوتهم وقدرتهم، لذلك هم مُكلّفون بتجهيز الأسلحة والعتاد الحربي كمقدمة للنصر، كما هم مكلّفون أيضاً بزيادة ثقافتهم وعلمهم ومعرفتهم أكثر، لأن هذه المعارف هي مصدر قوة ضروري وأساسي للمؤمن المجاهد.

التحلّي بالتقوى

في هذه الآية الشريفة يقول الله تعالى: ﴿بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ14.

بناءً على ما تقدّم في هذه الآية الشريفة، يُعدّ امتلاك التّقوى والطهارة الروحية شرطاً أساسياً وضرورياً للذين يُعلّقون قلوبهم بالإمدادات الغيبية الإلهية، إذ ليس صحيحاً أن يأمل المؤمنون المساعدة الغيبية من الله تعالى وهم بعيدون كل البعد عن التقوى واللياقة المعنوية.

التحلّي بالصبر والثبات

لقد ورد في الآية السابقة وصف للصبر حينما يقول تعالى:﴿بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ وورد أيضاً وصف في آيات أخر حيث يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ15.

﴿الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ16.

في كلا الآيتين تأكيد من الله تعالى على صفة الصبر التي تشكِّل شرطاً ضرورياً يجب أن يتحلَّى به الجهاديون والمقاتلون في سبيل الله، فبالصبر والثبات يرتفع المجاهدون إلى مستوى اللياقة المعنوية ليكونوا أهلاً لإرسال المدد الغيبي والنصر.

في موارد أعمّ من موارد الحرب، أصرّ القرآن الكريم على هذا العنوان وأكّد عليه كثيراً فيما يقرب من سبعين مورداً، لكن أوصى وكلّف بالصبر والثبات خاصة في الحرب والجهاد في سبيل الله لما لهما من الدور الفعال والأساسي في تحقيق النصر على الأعداء.

التوكّل على الله والثقة المطلقة به عز وجل

لقد أعطى الله تعالى صفة التوكل عليه والثقة به اهتماماً خاص، برز من خلال العديد من الآيات التي تتحدث عن الجهاد.

وخلاصة القول، إنه يجب على المؤمن أن يتوجه إلى حقيقة واحدة وهي: أن النصر والفتح هو فقط من عند الله تعالى، فالمجاهدون وفي عرض استفادتهم من الأسباب والعلل المادية، يجب أن لا يغفلوا عن العون والمدد الإلهي، وأن لا تتعلّق قلوبهم بتلك الوسائل الماديّة بظن أنها تكفيهم وتغنيهم عن التوسّل بالله عز وجل، بل اللازم هو الاتكال على الله تعالى فقط مع استفادتهم من كل الإمكانات والقدرات المادية واستعمال الأسلحة والعتاد الحربي.

لكن الأهم في كل الأحوال: هو أن لا يَرَوْا مؤثِّراً حقيقياً غير الله تعالى، بل يبقى توكلهم معقوداً على الله تعالى فقط واعتمادهم على لطفه وعنايته، ثم فلينتظروا مدده ونصره لأنّ الأمور كلّها بيد الله.

وههنا نموذج تاريخي لأثر الغفلة عن الله تعالى، وهو ما حصل مع المسلمين في معركة حنين، ففي هذه المعركة وُجِّهتْ ضربة قاسية للمسلمين بسبب هذه المسألة ألا وهي غفلتهم عن العون الإلهي وغرورهم بكثرتهم وعديدهم كما صرّح بذلك القرآن الكريم.

لقد كان الانكسار نصيبهم لأنهم علّقوا قلوبهم بتلك القوى والقدرات الظاهرية واغتروا بكثرة العدة والعتاد وكان هذا الغرور قاتلاً وكانت الهزيمة هي النتيجة الطبيعية لهذه الغفلة وهذا الغرور، يقول الله تعالى: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ17.

الدعاء والاستغاثة بالله

في سياق بيان وذكر الإمدادات الإلهية والتسديدات الربّانية، يقول الله تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ18.

وفي آية أخرى ذ كر القرآن الكريم عباد الله الذين جاهدوا بين يدي الأنبياء الإلهيين ضد أعداء الحق، يقول الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ19.

ومفاد هذه الآيات أن الدعاء والاستغاثة بالله تعالى هو من متطلّبات النصر. ولا يخفى على المرء ما للدعاء من أهمية خاصة في الإسلام، وهذه ألسنة الأنبياء، كما نقل لنا القرآن الكريم التلهّج بالدعاء والاستغاثة إلى الله تعالى، وقد ورد في الروايات الشريفة أن الدعاء سلاح المؤمن، فسلاح الدعاء وإن لم يكن خاصاً بالحرب، لكن الإنسان المؤمن أكثر ما يحتاج إلى هذا السلاح وهو في وقت الشدائد كالحرب والقتال، فيكون الدعاء ملجأه إلى الله لإغاثته ومساعدته.

ذ كر الله تعالى

يجب أن تتعلّق قلوب المؤمنين دائماً بذكر الله تعالى، وأن يُكثروا منه ويهتموا بإقامة مجالسه. يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ20.

لقد جُعل الذكر في الآية إلى جانب مسألة الثبات، مما يُفهم منه أن ذكر الله عز وجل له أهميته في التثبيت حين الالتحام مع العدو، وعلى كل حال إن أثر ذكر الله تعالى على قلب المؤمن المجاهد ليس خافي، خاصة بالنظر إلى هذه الآية الشريفة، حيث يقول الله تعالى: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ21.

وليس هناك من ظرف يكون المؤمن فيه أحوج إلى طمأنينة القلب من ساحة المعركة.

الخلاصة

لقد لاحظنا أنّ هذه الشروط الاثني عشر، بعضها متعلّق بالجوانب المادية الظاهرية والبعض الآخر متعلق بالجوانب المعنوية الباطنية، والمهم هنا بيان هذه النكتة المهمة:

إن شرط إرسال المدد الغيبي والنصر الإلهي، إنما يكون برعاية كامل هذه الشروط المذكورة وفي هذه الحالة فقط يمكن أن يحصل المؤمنون على المساعدة الإلهية لرفع مشاكلهم وسد حوائجهم وإكمال نواقصهم بالطرق غير العادية والأساليب الغيبية.

فالتقصير في تحقيق هذه الشروط وانتظار المدد والنصر، هو خلاف السنة الإلهية الجارية في هذا الكون، وهو كمن يطلب الماء في محل السراب!

* الربيون عطاء حتى الشهادة، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- سورة النساء، الآية 77.
2- سورة النساء، الآية 77.
3- سورة البقرة، الآية 249.
4- سورة الأنفال، الآية 65.
5- سورة الأنفال، الآية 66.
6- سورة البقرة، الآية 195.
7- سورة الأنفال، الآية 60.
8- سورة الأنفال، الآية 60.
9- سورة الأنفال، الآية 46.
10- سورة النساء، الآية 71.
11- سورة الأنفال، الآية 58.
12- سورة محمد، الآية 35.
13- سورة الأنفال، الآية 65.
14- سورة آل عمران، الآية 125.
15- سورة الأنفال، الآية 65.
16- سورة الأنفال، الآية 66.
17- سورة التوبة، الآية 25.
18- سورة الأنفال، الآية 9.
19- سورة آل عمران، الآية 147.
20- سورة الأنفال، الآية 45.
21- سورة الرعد، الآية 28.

2014-09-30