الجبر والاختيار
بحوث ومعتقدات
تنصّ الآيات القرآنية على أنّ المشركين كانوا معتقدين بالجبر وسلب الاختيار، وإليكم فيما يلي ما ذكره القرآن في هذا المجال:
عدد الزوار: 245
الجبر عند المشركين
تنصّ الآيات القرآنية على أنّ المشركين كانوا معتقدين بالجبر وسلب الاختيار، وإليكم
فيما يلي ما ذكره القرآن في هذا المجال:
1- يقول تعالى:
﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا
وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ﴾1.
ولكن الذكر الحكيم يردّ عليهم تلك المزعمة بقوله:
﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ
لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ
كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ
عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ
أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ﴾2.
2- ويقول تعالى في آية أخرى حاكياً كلام المشركين في تعليل ارتكابهم الفحشاء بأمر
من الله تعالى:
﴿وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا
آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء
أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾3.
3- ويقول تعالى:
﴿وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم
بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾4.
فهذه الآيات وغيرها من الآيات تبيّن لنا موقف المشركين من الجبر الإنسانيّ، المرفوض
بصراحة في القرآن الكريم.
الاعتقاد بالجبر عند بعض المسلمين
المؤسف أنّ بعض المسلمين وقعوا في شبهة الجبر الّتي وقع فيها المشركون نظراً إلى
التفسير الخاطئ لبعض الآيات الكريمة الّتي تسند الخلق والفعل لله تعالى، حيث
اعتبروا أنّ الله تعالى هو الّذي يفعل كلّ الأفعال من دون اختيار وإرادة للإنسان،
وكأنّ الإنسان
فقط آلة تتحرّك كيف يشاء الله تعالى متذرّعين بقوله تعالى:
﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ
شَيْءٍ﴾5
﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ﴾6
﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا
تَعْمَلُونَ﴾7.
الردّ على عقيدة الجبر ولكنّ هؤلاء لو أمعنوا النظر في كتاب الله عزَّ وجلَّ لوجدوا
آيات كثيرة تدلّ على إسناد الفعل إلى العباد ما يدلّ على أنّ الإنسان مختار ومريد
لأفعاله، يقول تعالى:
﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ
هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ﴾8.
﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ﴾9.
﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا
بِأَنْفُسِهِمْ﴾10.
هذه الآيات الكريمة وغيرها الكثير واضحة في إسناد الأفعال إلى نفس الإنسان حيث
إنّهم يكتبون بإرادتهم واختيارهم ويتبعون الظن وأهواء أنفسهم وأنّ التغيير منوط
بإرادتهم. وتوجد آيات كثيرة تدلّ على ذلك حتّى أنّه - وللأسف - ظهرت فرق من
المسلمين
تقول إنّ الإنسان يفعل بإرادته واستقلاله من دون تعلّق لإرادة الله تعالى في أفعاله
أي أنّ الله فوَّض للإنسان أفعاله على نحو الاستقلال من دون تدخلّ للقدرة الإلهية
في شيء من أفعاله.
وبالطبع فإنّ هذه العقيدة أعظم بطلاناً من الأولى لأنّها تجعل الإنسان خالقاً في
قبال الله سبحانه وتعالى وكأنّه شريك لله في خلق الأفعال والله تعالى يقول في كتابه:
﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾11.
عقيدة الشيعة في الأمر بين الأمرين
ذهب الشيعة في عقيدتهم إلى الأمر بين الأمرين كما قال الإمام الصادق عليه السلام: "لا
جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين. سئل عليه السلام: ما الأمر بين الأمرين؟ قال عليه
السلام: مثل ذلك رجل رأيته على معصية فنهيته فلم ينته فتركته، ففعل تلك
المعصية، فليس حيث لم يقبل منك فتركته كنت أنت الّذي أمرته بالمعصية"12.
وقال البصريّ لأبي عبد الله عليه السلام: الناس مجبورون؟ قال عليه السلام: "لو
كانوا مجبورين لكانوا معذورين"، قال: ففوض إليهم؟ قال عليه السلام: "لا، قال: فما
هم؟ قال: علم منهم فعلاً فأوجد فيهم آلة الفعل، فإذا فعلوا كانوا مع الفعل
مستطيعين"13.
تبيَّن أنّ عقيدة الشيعة هي لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين، فإنّ الله تعالى
خلق السبيل وخلق الإنسان وأعطاه القدرة والاختيار وكلّ ذلك متعلّق بقدرة الله
واختياره أيضاً ولكن يختار الله لنا ما نختاره لأنفسنا قال تعالى:
﴿إِنَّا
هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا
وَإِمَّا كَفُورً﴾14 ولذلك صحّت المحاسبة.
يقول تعالى:
﴿مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾15.
ويقول تعالى:
﴿كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾16.
ويقول تعالى حاكياً قول الشيطان الرجيم:
﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ
إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾17.
وكذلك صحّ الثواب والعقاب، يقول تعالى:
﴿مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ
أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ
يُظْلَمُونَ﴾18.
ويقول تعالى:
﴿مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ
يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ﴾19.
ويقول تعالى:
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾20.
وأيضاً ممّا يدلّ على ذلك الآيات الّتي تعلِّق أفعال العباد على مشيئتهم كقوله
تعالى:
﴿فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾21
﴿فَمَن شَاء اتَّخَذَ
إِلَى رَبِّهِ سَبِيلً﴾22.
وممّا يؤيدّ ذلك أيضاً الآيات الّتي تأمر الناس بالعمل، وإلّا لولا وجود الاختيار
لكان الأمر عبثاً ولغواً تعالى الله عن ذلك علوَّاً كبيراً.
كقوله تعالى:
﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا
السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾23.
وقوله عزَّ وجلَّ:
﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ
وَالْمُؤْمِنُونَ﴾24.
عقيدة الجبر والسياسة
إنّ عقيدة الجبر الّتي ظهرت عند بعض الفرق الإسلامية إنّما وراءها غاية سياسية
استغلَّها الحكّام للوصول إلى مآربهم الشخصية والسلطوية وكذلك لتبرير أفعالهم
وانتهاكاتهم. يقول الشهيد مطهّري رحمه الله: "يشير التاريخ إلى أنّ مسألة القضاء
والقدر كانت
مستمسكاً صلباً وقوياً لحكّام بني أمية الّذين كانوا من المؤيّدين الأشدّاء لمسلك
الجبر، وكانوا يقتلون المؤيّدين للاختيار والحرية البشرية بتهمة أنّهم من المعارضين
للمعتقدات الدينية أو كانوا يرمونهم في السجون حتّى عرف في ذلك الوقت أنّ الجبر
والتشبيه أمويان
والعدل والتوحيد علويان"25.
ويقول أبو هلال العسكريّ: "إنّ معاوية أوّل من زعم أنّ الله يريد أفعال العباد
كلّها"26.
ويقول ابن قتيبة: "وإنّ أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء وليس للعباد خيرة من
أمرهم"27. وجرى على هذه السياسة سائر الخلفاء الأمويين وتبعهم العباسيون. والسرّ في
انتهاج هذه السياسة هو:
1- سلب إرادة واختيار الناس وإجبارهم على الانصياع للسلطة.
2- إظهار إرادة الحكّام الظالمين على أنها إرادة الله تعالى ليبرّروا ظلمهم
وجرائمهم أمام الناس وساعدهم على ذلك علماء السوء ووعَّاظ السلاطين.
* كتاب في رحاب العقيدة، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- سورة الأنعام، الآية: 148.
2- سورة الأنعام، الآية: 148.
3- سورة الأعراف، الآية: 28.
4- سورة الزخرف، الآية: 20.
5- سورة الزمر، الآية: 62.
6- سورة فاطر، الآية: 3.
7- سورة الصافات، الآية: 96.
8- سورة البقرة، الآية: 79.
9- سورة النجم، الآية: 23.
10- سورة الرعد، الآية: 11.
11- سورة التكوير، الآية: 29.
12- الاعتقاد، الشيخ المفيد، ص 30.
13- تفسير القمي، علي بن ابراهيم القمي، ج 1، ص 227.
14- سورة الإنسان، الآية: 3.
15- سورة النساء، الآية: 123.
16- سورة الطور، الآية: 21.
17- سورة إبراهيم، الآية: 22.
18- سورة الأنعام، الآية: 160.
19- سورة النمل، الآية: 89.
20- سورة النحل، الآية: 97.
21- سورة الكهف، الآية: 29.
22- سورة المزمل، الآية: 19.
23- سورة آل عمران، الآية: 133.
24- سورة التوبة، الآية: 105.
25- دروس في العقيدة الإسلامية، الشيخ الري شهري، ص143.
26- الإلهيات، الشيخ السبحاني، ج1، ص510.
27- الإمامة والسياسة، ابن قتيبة، ج1، ص171.