الحاكميّة في الحكومة الإسلاميّة
أبحاث في الولاية
بعد أن ثبت لدينا وجود حاجة لدى كلِّ مجتمع إلى الحكومة والقانون، يأتي السؤال الآن عن حقّ الحاكميّة، لمن يكون هذا الحقّ؟ ومن أين ينشأ هذا الحقّ؟ لأنّنا مع ملاحظة كون جميع أفراد البشر هم على حدّ سواء بخصوص هذا الأمر،
عدد الزوار: 261
حق الحاكمية
بعد أن ثبت لدينا وجود حاجة لدى كلِّ مجتمع إلى الحكومة والقانون، يأتي السؤال الآن
عن حقّ الحاكميّة، لمن يكون هذا الحقّ؟ ومن أين ينشأ هذا الحقّ؟ لأنّنا مع ملاحظة
كون جميع أفراد البشر هم على حدّ سواء بخصوص هذا الأمر، ولا ولاية لأحد على أحد آخر،
ولا فضل لأحد على آخر، نسأل: من أين ينشأ حقّ الحاكميّة لشخصٍ ما، فيجب على الآخرين
إطاعة أوامره؟ فهل لكلِّ أحد حقّ إصدار الأوامر؟ أو أنّ هذا الحقّ يختصّ بأفراد
معيّنين؟ وإذا كان كذلك، فمن أين أصبح لهم هذا الحقّ؟
وجوه الحاكميّة
1- التسلّط على الناس:
يرى بعض الناس أنّ هذا الحقّ هو لمن تسلّط على الناس، ويرون حقّ الحاكميّة من خلال
الظلم والزور، وإن تمكّن شخص أو مجموعة أشخاص - ولو بالأسباب الباطلة - من السيطرة
على مقدّرات المجتمع فلهم الحاكميّة، ولهم حقّ التقنين والأمر والنهي والثواب
والعقاب، وهذا الرأي هو ما تتبنّاه الحكومات الديكتاتوريّة الاستبداديّة.
2- حكم طبقة خاصة:
ويرى بعض آخر أنّ هذا الحقّ محصور بطبقة خاصّة وفئة معيّنة من الناس، وأنّ لهذه
الطبقة حقّ التقنين وحقّ الحاكميّة، ويتبنّى هذه النظرة بعض فلاسفة اليونان الذين
يقسّمون المجتمع إلى طبقات، ويعتقدون أنّ طبقة الأشراف هي وحدها التي لها حقّ
الحكومة وإدارة المجتمع، كما يعتقد آخرون بأنّ العمّال هم الذين لهم حقّ الحاكميّة.
3- حكم الأكثرية:
ويرى بعض المفكّرين الغربيّين، أمثال (روسّو) وغيره، أنّ هذا الحقّ ليس لشخصٍ خاصّ،
بل هو حقّ عامّة الأفراد أو أكثريّة الناس، ويرى هؤلاء أنّ حقّ الحاكميّة إنّما هو
لكلِّ فرد من الناس، وأنّ الناس هم الذين يُضْفون المشروعيّة على القانون، وأنّ
القانون الشرعي هو المبني على تصويت الناس له، والحكومة التي لها حقّ الحاكميّة هي
التي تنتخبها الأكثريّة من الناس.
4- حقّ الحاكميّة لله تعالى:
وفي الرؤية الإسلاميّة ينحصر حقّ الحاكميّة بالله عزّ وجلّ، لأنّ الإنسان يجب عليه
إطاعة من خلقه وأعطاه الوجود، وحيث إنّ الإنسان لا يأخذ وجوده من أبناء جنسه، ولا
يتوقّف بقاؤه عليهم، فلا إلزام من أحد على أحد، والله عزّ وجلّ المالك الحقيقي
للإنسان هو الوليّ الواقعي، وعليه فاتّباع وإطاعة أوامر غير الله عزّ وجلّ مشروط
بالتنصيب والتعيين من قِبل الله عزّ وجلّ، قال تعالى: ﴿وَلِلّهِ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾1.
إنّ من لوازم مملوكيّة الإنسان لله، ومالكيّة الله عزّ وجلّ للإنسان، أن يكون تدبير
أمور المجتمع فقط بيده سبحانه، والجميع مطيع لأمره خاضع له. ويقول الله تعالى:
﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾2.
أدلّة الحاكميّة الإلهيّة
بعد أن أوضحنا الرؤية الإسلاميّة في شأن الحكومة، وأنّها حقّ إلهي، نبحث الآن في
الجذور الفكريّة التي تبتني عليها هذه الرؤية:
1- العلم الإلهيّ المطلق:
ذكرنا عند الحديث عن ضرورة القانون للمجتمعات البشريّة أنّ الهدف والغاية من
القانون هو تأمين حياة اجتماعيّة صالحة، ووصول الإنسان إلى كماله المادّيّ
والمعنويّ، وعليه نقول: إنّ القانون المطلوب هو القانون الذي يساعد جميع أفراد
المجتمع في الوصول إلى الكمال المادّيّ والمعنويّ، ويلاحظ في ذلك جميع الأبعاد
الوجوديّة للإنسان، لأنّ أيّ قانون إن كان لصالح فئة معيّنة من الناس، وكان موجباً
لحرمان سائر الناس من الوصول إلى الكمال المادّيّ والمعنويّ، سواءٌ أكانوا أقلّيّة
أم أكثريّة، لن يكون مطلوباً، وعليه فخصوصيّة القانون المطلوب هي في تأمينه منافع
ومصالح جميع الناس التي تعيش في المجتمع، وبأفضل الوسائل.
إنّ الخصوصيّة الأخرى التي ينبغي توفّرها في القانون المطلوب، هي أن لا يقتصر دوره
على تأمين المصالح المادّيّة، بل في أن يكون عاملاً لتنمية البعد المعنوي للإنسان،
لأنّ الرؤية الإسلاميّة للإنسان لا تقتصر على ملاحظة الوجود المادّيّ، بل ترى في
الوجود الروحي أصالة، وأنّ المادّة وسيلة لتكامل الروح.
فلا بدَّ للقانون الاجتماعي المدوّن من أن يضمن المصالح المعنويّة للإنسان، ولا
أقلّ من عدم التنافي بين القانون وبين التكامل المعنويّ والروحيّ للإنسان، وهذا
يدلّنا على أن المقنِّن لا بدّ وأن يتمتّع بإحاطة كاملة بجميع المصالح الفرديّة
والاجتماعيّة، الجسميّة والروحيّة، المادّيّة والمعنويّة للإنسان، حتى يتمكّن من
وضع قانون يلحظ جميع الأبعاد الإنسانيّة، وهذه الخصوصيّة لا تتوفّر إلا في الله عزّ
وجلّ، لذا كان أمر وضع القانون بيده تعالى: ﴿قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن
يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن
يُهْدَى﴾3.
فالله عزّ وجلّ هو الذي يعرف الحقّ، وهو المحيط بجميع المصالح والمفاسد، وهو الذي
له الولاية على عباده، وينبغي عليهم طاعته.
2- الله هو الغنيّ المطلق:
الخصوصيّة الأخرى التي لا بدّ من توفّرها في المشرّع والمقنّن، هي أن يكون بعيداً
عن الذاتيّة والأنا حتى يضع قانوناً مطابقاً للحقّ والعدالة، وتوضيح هذا الأمر: إنّ
مجرّد العلم بالمصالح والمفاسد لا يكفي لوضع القانون، فإنّ من الممكن أن يكون
المقنّن مطّلعاً على المصالح والمفاسد، ولكنّه في عمليّة التقنين يلحظ المنافع
الشخصيّة أو العائليّة أو الفئويّة، فيضع قانوناً يؤمِّن منافعه الذاتيّة. إنّ
الإنسان يتاثّر دائماً بالميول والرغبات الشخصيّة، سواءٌ أكان ذلك بإرادته أم كان
قهراً، فهو غير معصوم عن الخطأ والزلل. أمّا الله عزّ وجلّ فهو مضافاً إلى إحاطته
التامّة بالمصالح والمفاسد لا يضرّه أيّ عمل، كما لا يعود بالنفع عليه أيّ عمل، فهو
الغنيّ المطلق، والمبرّأ من المصالح الشخصيّة والفئويّة، قال تعالى: ﴿لِلَّهِ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾4.
﴿وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ
اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾5.
وعليه، فلا نفع ولا ضرر يصل إليه عزّ وجلّ، بل ما يضعه من قانون إنّما يضعه بما
تمليه مراعاة الحقّ والعدالة.
3- الربوبيّة التكوينيّة والتشريعيّة هي لله عزّ وجلّ:
من الأمور الأخرى التي تُثبت حقّ الحاكميّة لله عزّ وجلّ ولزوم طاعته، هو الاعتقاد
(بالتوحيد في الربوبيّة)، فمن مراتب التوحيد (الربوبيّة المطلقة لله)، أي إنّ الله
عزّ وجلّ بيده أمر تدبير هذا الكون، ومن جملته الإنسان، وهو مضافاً إلى خلقه
للإنسان فإنّ بيده إيصال الإنسان إلى كماله المطلوب، فلا بدّ للموحِّد من الاعتقاد
بـِ (الربوبيّة التشريعيّة)، أي لا بدّ من الطاعة والتسليم له سبحانه، ومعرفة أنّه
هو الذي له حقّ الأمر والنهي، أو من نصّبه من قِبله لذلك، ولا حقّ لأحد في الأمر
والنهي مستقلّاً عن إرادته، قال الله تعالى: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا
وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾6.
وقال: ﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ
لَمَّا جَاءنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ
الْعَالَمِينَ﴾7.
فحيث كان الله هو "ربّ الكون" وبيده روح الإنسان وجسمه، فلا بدَّ أن يكون الإنسان
كسائر المخلوقات مطيعاً له، وألّا يرى لغيره حقّ الحاكميّة والحكومة.
مباني الحكومة الإسلاميّة
حكومة الإسلام هي حكومة القانون. وفي هذا النمط من الحكومة تنحصر الحاكميّة بالله
والقانون الذي هو أمر الله وحكمه، فقانون الإسلام أو أمر الله له تسلّط كامل على
جميع الأفراد وعلى الدولة الإسلاميّة. فالجميع بدءاً من الرسول الأكرم صلى الله
عليه وآله وسلم ومروراً بخلفائه وسائر الناس تابعون للقانون النازل من عند الله إلى
الأبد. وإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد تولّى الخلافة، فقد كان ذلك بأمر
من الله، إذ إنّ الله تعالى هو الذي جعله صلى الله عليه وآله وسلم خليفة، "خليفة
الله في الأرض" لا أنّه قام بتشكيل الحكومة من نفسه وأراد أن يكون رئيساً على
المسلمين. كما أنّه حيث كان يحتمل حصول الخلاف بين الأمّة بعد رحيله، إذ كانوا
حديثي عهدٍ بالإسلام والإيمان، فقد ألزم الله تعالى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
بأن يقف - وبشكلٍ فوري - في وسط الصحراء ليبلّغ أمر الخلافة. فقام الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم بحكم القانون، واتِّباعاً لحكم القانون بتعيين أمير المؤمنين عليه
السلام للخلافة، لا لكونه صهره، أو لأنّه كان قد أدّى بعض الخدمات، وإنّما لأنّه
صلى الله عليه وآله وسلم كان مأموراً وتابعاً لحكم الله، ومنفّذاً لأمر الله.
أجل، فالحكومة في الإسلام تعني اتّباع القانون، والقانون وحده هو الحاكم في
المجتمع.
فحيث أعطيت صلاحيّات محدودة للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وللولاة، فإنّما
كان ذلك من الله سبحانه. وفي كلّ وقت كان يقوم فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ببيان أمر أو إبلاغ حكم، فإنّما يكون ذلك منه اتّباعاً لحكم الله وقانونه. واتّباع
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إنّما هو أيضاً بحكمٍ من الله، حيث يقول تعالى:
﴿وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ﴾، واتّباع أولي الأمر أيضاً بحكمٍ من الله، حيث يقول
تعالى: ﴿أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾8، فرأي الأشخاص، وحتى رأي الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ليس له أيّ دور في
الحكومة والقانون الإلهي، فالجميع تابعون لإرادة الله تعالى9.
* كتاب في رحاب الولاية، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- آل عمران، 189.
2- يوسف، 40.
3- يونس، 35.
4- لقمان، 26.
5- إبراهيم، 8.
6- الأنعام، 164.
7- غافر، 66.
8- النساء، 59.
9- الحكومة الإسلاميّة، الإمام الخميني قدس سره، ص42.