في حاضرة الغدر
مصائب النسوة والأطفال
لما وصل إلى ابن زياد خبر عودة جيش عمر بن سعد إلى الكوفة، أمر أن لا يحمل أحد من الناس السلاح في الكوفة، كما أمر عشرة الاف فارس أن يأخذوا السكك والأسواق، والطرق والشوارع،
عدد الزوار: 773تدابير ابن زياد لاستقبال بقية الركب الحسيني
لما وصل إلى ابن زياد خبر عودة جيش عمر بن سعد إلى الكوفة، أمر أن لا يحمل أحد من
الناس السلاح في الكوفة، كما أمر عشرة الاف فارس أن يأخذوا السكك والأسواق، والطرق
والشوارع، خوفاً من أن يتحرك الناس حميّة وغيرة على أهل البيت عليهم السلام إذا
رأوا بقيتهم بتلك الحالة من الأسر والسبي، وكان عدد نفوس أهل الكوفة انذاك يربو على
ثلاثمائة ألف نسمة، وأمر أن تُجعل الرؤوس في أوساط المحامل أمام النساء، وأن يُطاف
بهم في الشوارع والأسواق حتى يغلُب على الناس الخوف، كما أمر ابن زياد أن يضعوا
الرأس المقدس على الرمح ويُطاف به في سكك الكوفة.
وكان رأس الإمام الحسين عليه السلام أول رأس رفع على رمح.
استقبال الكوفة لبقيّة الركب الحسينّي
خرجت الكوفة عن بكرة أبيها لتشهد احتفال ابن زياد بقدوم جيشه المنتصر!
وقد امتلأت شوارع الكوفة وسككها وأزقتها بالرجال والنساء والأطفال والشيوخ، فلما
رأت النساء حال السبايا، وقد حملوا على جمالٍ بغير وطاء، بكين ولطمن خدودهن، فقال
الإمام زين العابدين عليه السلام لهن بصوتٍ ضئيل وفي عنقه الجامعة، ويداه مغلولتان:
"إن هؤلاء النسوة يبكين! فمن قتلنا؟".
وأشرفت امرأة من الكوفيات فقالت لهن: "من أي الأسارى أنتن؟" فقلن: "نحن
أسارى ال محمد صلى الله عليه واله".
فنزلت المرأة من سطحها فجمعت لهن مُلأً وأُزراً ومقانع، وأعطتهنّ، فتغطيّن.
وقد روى مسلم الجصّاص أنه فيما كان يقوم بإصلاح دار الإمارة، ضجت الكوفة بالزاعقات،
فسأل عن السبب، فأخبروه انهم أتوا برأس خارجي خرج على يزيد، فلما علم أنه رأس
الحسين بن علي، لطم وجهه حتى كادت عيناه أن تُفقا، ورأى الحُرَم والنساء وأولاد
فاطمة عليها السلام، وعلي بن الحسين عليه السلام على بعير بغير وطاء، وأوداجه تشخب
دماً، وهو يقول:
يا أمّة السوء لا سقياً لربعكم**يا أمّة لم تراع حُرمة جدّنا فينا
وصار أهل الكوفة يناولون الأطفال الذين على المحامل بعض التمر والخبز والجوز، فصاحت
بهم بنت أمير المؤمنين علي عليه السلام وقالت: "يا
أهل الكوفة ! إن الصدقة علينا حرام!"، وصارت
تأخذ ذلك من أيدي الأطفال وأفواههم، ثم قالت: "صِه
يا أهل الكوفة! تقتلنا رجالكم وتبكينا نساؤكم! فالحاكم بيننا وبينكم الله يوم فصل
القضاء".
أرادت عليها السلام من رد عطايا أهل الكوفة، أن تعرّف الناس بأن سبايا هذا الركب
ليسوا من أي الناس بل هم ال رسول الله الذين فرض الله مودتهم وإتّباعهم.
خطب آل بيت النبوة عليهم السلام في شوارع الكوفة
خطبة السيدة زينب بنت علي عليهما السلام:
لمّا رأت العقيلة زينب عليه السلام الحشود الكثيرة من أهالي الكوفة قد ملأت الشوارع
اندفعت تبين ما جرى على أهل بيت النبوة، وأخذت تحمّل أهل الكوفة مسؤولية نقض العهد
والبيعة وقتل ريحانة رسول الله صلى الله عليه واله، وتوخز ضمائرهم وتحرق قلوبهم
بتعريفهم عظم ما اجترحوا من جُرم، فأومأت إلى الناس أن اسكتوا فارتدت الأنفاس وسكنت
الأجراس، ثم قالت:
الحمد لله، والصلاة والسلام على أبي محمد واله الطيبين الأخيار، أما بعد يا أهل
الكوفة: يا أهل الختل1 والغدر!
أتبكون ؟! فلا رقأت2 الدمعة،
ولا هدأت الرنة3! إنما مَثَلكم كمَثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً
4، تتخذون أيمانكم دخلاً 5بينكم!
ألا وهل فيكم إلا الصَّلفٌ6 النطف7،
والصدر الشَّنف8، وملق9 الإماء،
وغمز10 الأعداء، أو كمرعى
على دمنة11، أو كفضة على ملحودة12!؟ ألا ساء ما قدّمت لكم
أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون!
أتبكون وتنتحبون!؟ إي والله فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها
وشنارها13، ولن ترحضوها14 بغُسل
بعدها أبداً؟ وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة، ومعدن الرسالة، وسيد شباب أهل
الجنة، وملاذ خيرتكم، ومفزع نازلتكم، ومنار حجتكم، ومدره15 سنتكم؟!
ألا ساء ما تزرون، وبُعداً لكم وسحقاً، فلقد خاب السعي، وتبت الأيدي، وخسرت الصفقة،
وبؤتم بغضب من الله، وضربت عليكم الذلة والمسكنة!
ويلكم يا أهل الكوفة، أتدرون أي كبدٍ لرسول الله فريتم؟! وأي كريمة له أبرزتم؟! وأي
دمٍّ له سفكتم، وأي حرمة له انتهكتم؟! ولقد جئتم بها صلعاء عنقاء16 سوداء
فقماء17 خرقاء شوهاء، كطلاع18 الأرض
وملء19 السماء.
أفعجبتم أن مطرت السماء دماً؟! ولعذاب الاخرة أخزى وأنتم لا تُنصرون! فلا يستخفنكم
المهل20، فإنه لا يحفزه البدار21، ولا يخاف فوت الثار، وإن
ربكم لبالمرصاد!".
وإذا الناس حيارى يبكون، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم.
وبكى شيخ حتى اخضلّت لحيته، وهو يقول: "بأبي أنتم وأمي كهولكم خير الكهول! وشبابكم
خير الشباب! ونساؤكم خير النساء! ونسلكم خير نسل، لا يخزى ولا يُبزى"22.
خطبة فاطمة بنت الحسين عليه السلام:
ثم خطبت فاطمة بنت الحسين عليه السلام فقالت: ... "أما
بعدُ يا أهل الكوفة، يا أهل المكر والغدر والخيلاء، فإنا أهل بيت ابتلانا الله بكم،
وابتلاكم بنا، فجعل بلاءنا حسناً، وجعل علمه عندنا وفهمه لدينا، فنحن عيبة علمه،
ووعاء فهمه وحكمته، وحجته على الأرض في بلاده لعباده، أكرمنا الله بكرامته، وفضلنا
بنبيه محمد صلى الله عليه واله على كثير ممن خلق تفضيلاً بيناً، فكذبتمونا
وكفرتمونا! ورأيتم قتالنا حلالاً! وأموالنا نهباً!.... كما قتلتم جدنا بالأمس "أمير
المؤمنين علي عليه السلام" وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت عليهم السلام لحقد
متقدم!! قرّت لذلك عيونكم وفرحت قلوبكم، افتراءً على الله، ومكراً مكرتم، والله خير
الماكرين ... ".
فارتفعت الأصوات بالبكاء، وقالوا: حسبك يا ابنة الطيبين! فقد أحرقت قلوبنا، وانضجت
نحورنا، وأضرمت اجوافنا. فسكتت..
خطبة أم كلثوم بنت علي عليه السلام:
ورفعت أم كلثوم صوتها بالبكاء، وخطبت فقالت: "يا
أهل الكوفة سوأة لكم! خذلتم حسيناً وقتلتموه، وانتهبتم أمواله وورثتموه؟! وسبيتم
نساءه ونكبتموه؟! فتباً لكم وسحقاً.. ... قتلتم خير رجالات بعد النبي صلى الله عليه
واله ! ونُزعت الرحمة من قلوبكم، ألا إنّ حزب الله هم الفائزون، وحزب الشيطان هم
الخاسرون".
فضجّ الناس بالبكاء والحنين والنوح، ونشر النساء شعورهن، ووضعن التراب على رؤوسهن،
وخمشن وجوههن وضربن خدودهن، ودعون بالويل والثبور، وبكى الرجال فلم يُرَ باكٍ
وباكية أكثر من ذلك اليوم.
وفيما الناس تضج بالبكاء والنحيب، أومأ الإمام زين العابدين عليه السلام إلى الناس
أن اسكتوا، فسكتوا، فقام وحمد والله وأثنى عليه، وذكر النبي صلى الله عليه واله
وصلى عليه، ثم قال:
"أيّها الناس! من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا علي بن الحسين بن علي بن
أبي طالب عليه السلام، أنا ابن من انتهكت حرمته، وسُلبت نعمته، وانتهب ماله، وسُبي
عياله! أنا ابن المذبوح بشط الفرات من غير ذُحلٍ ولا ترات23 !
أنا ابن من قٌتل صبراً، فكفى بذلك فخراً!
أيها الناس! فأنشدكم الله، هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه!؟ واعطيتموه من
أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه!
فتباً لما قدمتم لأنفسكم! وسوأة لرأيكم! بأي عين تنظرون إلى رسول الله صلى الله
عليه واله إذ يقول لكم: قتلتم عترتي، وانتهكتم حرمتي، فلستم من أمتي!؟"
فارتفعت الأصوات من كل ناحية، ويقول بعضهم لبعض: هلكتم وما تعلمون!
أهم الخطوط الرئيسية في خطب ال البيت عليهم السلام في شوارع الكوفة
لقد خاطب ال بيت النبوة عليهم السلام أهل الكوفة بكلامٍ جمعه خطّ مشترك رئيس، هو
أنهم ألقوا باللائمة على أهل الكوفة، وخاطبوهم بصفتهم الجناة الذين ارتكبوا جريمة
قتل سيد الشهداء عليه السلام وأهل بيته وأنصاره، فالأمة هي وقود النار التي اقتدح
شرارتها الجبابرة الظالمون، وهي أداة القتل، بل هي التي باشرت بارتكاب الجريمة، وفي
هذا وردت نصوص كثيرة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام منها هذه الفقرة من زيارة
عاشوراء: "... فلعن الله أمة أسست
أساس الظلم والجور عليكم أهل البيت، ولعن الله أمة دفعتكم عن مقامكم وأزالتكم عن
مراتبكم التي رتبكم الله فيها، ولعن الله أمة قتلكم...".
إن دور الأمة هو الفاعل والرئيس، فبالأمة ينتصر قادة الخير، وبدونها يعجزون عن
تحقيق أي هدف من أهداف الإصلاح والخير، وبالأمة ينتصر قادة الشر، وبدونها لن
يستطيعوا بلوغ اهدافهم الشريرة.
الرأس بين يدي ابن زياد
جلس ابن زياد في قصر الإمارة، وأذّن للناس أذاناً عاماً، وأمر بإحضار الرأس فوضع
بين يديه، فجعل ينظر إليه ويبتسم! وفي يده قضيب يضرب به ثناياه!
الموكب الحسيني في مواجهة ابن زياد
وسيقت العقائل الهاشميات إلى قصر الإمارة وأدخل عيال الحسين عليه السلام على ابن
زياد، فدخلت السيدة زينب عليها السلام في جملتهم متنكرة بثياب لاتلفت النظر إطلاقاً،
فمضت حتى جلست ناحية من القصر.
فقال ابن زياد : "من هذه التي انحازت ناحية ومعها نساؤها؟".
فأعاد ثانية وثالثة يسأل عنها.
فقال له بعض النسوة: "هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله صلوات الله عليهم أجمعين".
فأقبل عليها ابن زياد، وقال لها: "الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم!".
فقالت السيدة زينب عليها السلام: "الحمد
لله الذي أكرمنا بنبيه محمد صلى الله عليه واله وطهرنا من الرجس تطهيرا، وإنما
يفتضح الفاسق ويكذّب الفاجر، وهو غيرنا والحمد لله".
فقال ابن زياد: "كيف رأيت فعل الله بأهل بيتك؟".
قالت عليها السلام: "ما رأيتُ إلا
جميلا! هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك
وبينهم يا ابن زياد، فتحاج وتخاصم، فانظر لمن الفلج يومئذٍ ثكلتك أمك يا ابن مرجانة!".
فغضب ابن زياد واستشاط.
فقال عمرو بن حريث: "أيّها الأمير! إنها امرأة، والمرأة لا تؤخذ بشيء من منطقها،
ولا تُذم على خطابها".
فقال ابن زياد: "لقد شفى الله نفسي من طاغيتك والعصاة من أهل بيتك!!".
فبكت عليها السلام وقالت: "لعمري
لقد قتلتَ كهلي، وأبرت أهلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإن يشفك هذا فقد اشتفيت!".
فقال عبيد الله: "هذه سجاعة! قد لعمري كان أبوك شاعراً سجاعاً".
فأجابت عليها السلام: "ما للمرأة
والسجاعة! إن لي عن السجاعة لشغلا...".
الإمام السجاد في مواجهة ابن زياد:
وعُرض عليه الإمام زين العابدين عليه السلام فقال له: "من أنتَ؟".
فقال: "أنا علي بن الحسين".
فقال: "أليس قد قتل الله علي بن الحسين؟!".
فقال له عليه السلام: " قد كان لي
أخ يُسمى علياً قتله الناس".
فقال له ابن زياد: "بل الله قتله".
فقال الإمام زين العابدين عليه السلام: "الله
يتوفى الأنفس حين موتها".
فغضب ابن زياد، وقال: "وبكَ جرأة لجوابي؟ وفيك بقيّة للرد علي؟ إذهبوا فاضربوا عنقه!".
فتعلقت به السيدة زينب عليها السلام: "يا
ابن زياد حسبك من دمائنا!".
واعتنقته وقالت: "والله لا أفارقه،
فإن قتلته فاقتلني معه!".
فنظر ابن زياد إليها ثم قال: "عجباً للرحم! والله إني لأظنها ودّت أني قتلتها معه!
دعوه!".
وطلب ابن زياد بعد ذلك إنزالهم إلى جانب المسجد الأعظم.
الرباب زوج الإمام عليه السلام مع رأسه المقدس:
ودعا بهم ابن زياد مرة أخرى فلما أدخلوا عليه رأين النسوة رأس الإمام الحسين عليه
السلام بين يديه والأنوار الإلهية تتصاعد من أساريره إلى عنان السماء فلم تتمالك
الرباب زوجة الإمام الحسين عليه السلام نفسها فوقعت عليه تقبله.
موقف السيدة أم كلثوم في مجلس ابن زياد:
وخاطب اللعين السيدة أم كلثوم بنت علي عليه السلام فقال:
"الحمد لله الذي قتل رجالكم! فكيف ترون ما فعل بكم؟".
فقالت: "أي ابن زياد! لئن قرّت عينك
بقتل الحسين عليه السلام فطالما قرّت عين جده به، وكان يقبله ويلثم شفتيه ويضعه على
عاتقه! يا ابن زياد أعدّ لجده جواباً فإنه خصمك غداً!".
إشارات في مواقف أهل البيت عليهم السلام
1- الشجاعة العُليا التي يتمتع بها أهل البيت عليهم السلام في مجموعة من الردود
التي صدرت عنهم في أقوالهم، منها على لسان السيدة زينب عليها السلام: "وإنما
يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر.."، "..
ما رأيت إلا جميلا.."، وفي قول
السيدة أم كلثوم: "... يا ابن زياد
أعد لجده جواباً فإنه خصمك غداً ...".
2- عمق توحيد الله وحبه تعالى، في موقف مولاتنا السيدة زينب عليها السلام وردها على
ابن زياد: "ما رأيتُ إلا جميلا.." ولم
تقل ما رأيت في كربلاء إلا جميلا! بل صرّحت بإطلاق رؤية الجميل! أي أنها منذ أن رأت
لم ترَ من الله إلا جميلا!! في كربلاء وقبلها وبعدها، وفي هذا غاية الرضا بقضاء
الله، وغاية الشكر له، والنظر إلى عواقب الأمور دون الغرق في تفاصيل الراهن.
أما فداؤها وتضحيتها عليها السلام فقد تجسدت في مواصلتها إلقاء نفسها إلى الموت
والقتل مراراً دفاعاً عن حجة الله على عباده الإمام زين العابدين عليه السلام.
3- تبيان أن قربان الله وقتيله في كربلاء هو ريحانة رسول الله صلى الله عليه واله،
فقاتله قاتل لرسول الله صلى الله عليه واله وهو خصمه يوم القيامة.
4- تفنيد المنطق الجبري الذي أشاعه الأمويون وكان قد أصر ابن زياد على ترسيخه في
أذهان الناس في المجلس، في قوله للسيدة زينب عليها السلام: "كيف رأيتِ فعل الله
بأهل بيتك؟" وفي قوله للإمام زين العابدين عليه السلام: "أليس قد قتل الله علي بن
الحسين عليه السلام؟" والمقصود بالمنطق الجبري: أن الأمويين كانوا يريدون أن يوهموا
الناس بشبهة أن كل ما يجري من وقائع وأحداث وظلم وقتل هو تجسيد لإرادة الله وتحقيق
لأمره فلا يحق لأحد أن يعترض على إرادته. وفي مواجهة هذا المنطق حرص أهل البيت
عليهم السلام على نشر هذه العقيدة وهي أن كل ما يجري على يد الطغاة الظالمين من قتل
وظلم وجور وفساد لا يمثل إرادة الله، لأن الله تعالى فيما صرّح به في كتابه الحكيم
لا يريد الظلم، ولا الفساد، ولا الجور، والله تبارك وتعالى قد دعا عباده المؤمنين
إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنع الظالمين من أن يظلموا.
وقد ردّت زينب عليها السلام على دعوى ابن زياد أن ما جرى على أهل بيتها هو من فعل
الله سبحانه بقولها: "هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل" أي على نحو الأمر الشرعي في
القيام ضد الحكم الأموي، وإن أدى هذا القيام إلى استشهادهم، فبرزوا إلى مضاجعهم
امتثالاً للأمر الشرعي.
5 الطغيان والتشفي من علائم الطواغيت دائماً، وقد تجلّى ذلك في مجلس ابن زياد في
قوله مستنكراً على الإمام زين العابدين عليه السلام جرأته وشجاعته في الرد عليه
قائلاً: "وبك جرأة لجوابي؟ ... لقد
شفى الله نفسي من طاغتيك والعصاة من أهل بيتك!!".
الركب الحسيني في حبس ابن زياد
أمر ابن زياد بسجن السبايا في سجن على بُعدٍ من القصر ومن المسجد، فكان الحاجب الذي
يسوقهم يقول: "فما مررنا بزقاق إلا وجدناه امتلأ رجالاً ونساءً يضربون وجوههم
ويبكون".
وبعد وقوع المحاورات الجريئة بين السبايا وابن زياد، خشي ابن زياد انقلاب الأمر
عليه، بعدما بدأ الناس يلومونه، فأمر بردهم إلى حبسٍ مطبق في دار جانب المسجد أو في
القصر، وضيق عليهم بحيث لا يمكن أن يدخل عليهم داخل باختياره.
دفن الإمام الحسين عليه السلام وبقية الشهداء
إن طريقة دفن الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه المستشهدين بين يديه
صلوات الله عليهم أجمعين على النحو والتوزيع المعروف من خلال قبورهم، ينفي أن يكون
بني أسد من أهل الغاضرية وهم من أهل القرى الذين لم يشهدوا المعركة قد حققوا ذلك
بدون مرشد عارف تماماً بهؤلاء الشهداء، خصوصاً وأن الرؤوس الشريفة كانت قد قطعت،
إذاً كان لا بدّ من مرشد مطّلع يعرف صاحب كل جسد، وإلا لما كان هذا التوزيع المدروس
بين القبور.
وإذا كان "الإمام لا يلي أمره إلا إمام مثله"، فإن جسد الإمام الحسين عليه السلام
قد واراه إمام، والإمامة من بعده قد صارت إلى ولده الإمام زين العابدين عليه
السلام، وبذلك يكون هو المرشد الذي ساعد بني أسد على دفن الشهداء.
ولكن كيف حصل ذلك وقد كان الإمام زين العابدين عليه السلام محبوساً في الكوفة؟
كان خروج الإمام زين العابدين عليه السلام من محبسه بمعجزة أوصلته إلى كربلاء فدفن
جسد أبيه و"السلطة لا تعلم"، ولكن خروجه لم يكن في اليوم الحادي عشر حتماً، لأنه لم
يدخل إلى الحبس إلا في اليوم الثاني عشر، إذ أن عمر بن سعد لم يدخل الكوفة بالسبايا
إلا صبيحة اليوم الثاني عشر، وإذا علمنا ان جل نهار الثاني عشر قد انقضى على بقية
أهل البيت عليهم السلام في عرضهم على الناس، وعلى ابن زياد، فإنه يتضح لنا أن ابن
زياد أمر بحبسهم عصر أو أواخر نهار اليوم الثاني عشر، ثم استدعاهم ثم أعادهم إلى
الحبس مرة أخرى، وبذلك تكون أول ليلة لهم في السجن حيث بقوا فيه إلى اليوم الذي
أرسلهم ابن زياد فيه إلى يزيد.
وإذا كان قد خرج من حبسه "دون أن ينتبهوا إليه" نستنج أن خروجه كان من الحبس في
وقتٍ كان قد فرغ الطاغية من التحقيق معهم فلا يعود إلى استدعائهم، أي في وقت كان
الإمام زين العابدين عليه السلام قد اطمأن إلى انه إذا غاب عن الأنظار فإنه لا
يفتقد في الفترة التي يشتغل فيها بدفن أبيه عليه السلام وأنصاره رضوان الله تعالى
عليهم.
وعليه فالمرجح أنه عليه السلام كان قد خرج إلى كربلاء بالأمر المعجز في يوم الثالث
عشر لدفن الأجساد.
وبالعودة إلى كربلاء ومصارع ال بيت البنوة عليهم السلام، فقد خرجت نساء بني أسد إلى
حيث الجثث، باكيات ناحبات، وقلن لأزواجهن: "بماذا
تعتذرون من رسول الله صلى الله عليه و اله، وأمير المؤمنين عليه السلام، وفاطمة
الزهراء عليها السلام، إذا أوردتم عليهم حيث إنكم لم تنصروا أولاده ولا دافعتم عنهم
بضربة سيف ولا بطعنة رمح ولا برمية سهم؟!".
فقالوا لهن: "إنا نخاف من بني أميّة!".
فبقيت النسوة يجلن حولهم ويقلن لهم: "إن
فاتتكم نصرة تلك العصابة النبوية، فقوموا الان إلى أجسادهم الزكية فواروها..".
قالوا: "نفعل ذلك..".
وصار همهم أولاً أن يواروا جثة الإمام الحسين عليه السلام ثم الباقين، فجعلوا
ينظرون الجثث في المعركة، فلم يعرفوا جثة الإمام الحسين عليه السلام من بين تلك
الجثث لأنها بلا رؤوس وقد غيرت الشمس لونها، فبينما هم كذلك وإذا بفارس أقبل إليهم
حتى إذا قاربهم قال: "ما بكم؟".
قالوا: "إنا أتينا لنواري جثة
الإمام الحسين عليه السلام وجثث ولده وأنصاره ولم نعرف جثة الإمام الحسين عليه
السلام".
ثم قال لهم: "أنا أرشدكم..".
فنزل عن جواده، وجعل يتخطى القتلى، فوقع نظره على جسد الإمام الحسين عليه السلام
فاحتضنه وهو يبكي ويقول:
"يا أبتاه! بقتلك قرّت عيون الشامتين! يا أبتاه! بقتلك فرحت بنو أميّة! يا أبتاه!
بعدك طال حزننا! يا أبتاه! بعدك طال كربنا!".
ثم مشى قريباً من محل جثته فأهال يسيراً من التراب، فبان قبر محفور ولحد مشقوق،
فأنزل الجثة الشريفة وواراها في ذلك المرقد الشريف، فبسط يديه تحت جسد الإمام
الحسين عليه السلام: "بسم الله، وفي
سبيل الله، وعلى ملّة رسول الله، صدق الله ورسوله، ما شاء الله، لا حول ولا قوة إلا
بالله العظيم..".
وأنزله لحده، ولم يشاركه بنو أسد فيه، وقال لهم: "إن
معي من يعينني.." ولما أقره في
لحده، وضع خدّه على منحره الشريف قائلاً: "طوبى
لأرض تضمنّت جسدك الطاهر، فإن الدنيا بعدك مظلمة، والاخرة بنورك مشرقة، أما الليل
فمُسهد! والحزن سرمد! او يختار الله لأهل بيتك دارك التي أنت بها مقيم! وعليك مني
السلام يا ابن رسول الله ورحمة الله وبركاته".
ثم كتب على القبر: "هذا قبر الحسين
بن عليِّ بن أبي طالب الذي قتلوه عطشاناً غريباً".
ثم مشى إلى عمّه العباس عليه السلام فراه بتلك الحالة التي أدهشت الملائكة بين
أطباق السماء! وأبكت الحور في غرف الجنان! ووقع عليه يلثم نحره المقدس قائلاً: "على
الدنيا بعدك العفا يا قمر بني هاشم، وعليك مني السلام من شهيد محتسب ورحمة الله
وبركاته..".
وشق له ضريحاً، وأنزله وحده كما فعل بأبيه، وقال لبني أسد: "إن معي من
يُعينني!".
ثم عطف على جثث الأنصار وحفر حفيرة واحدة ووارهم فيها، إلا حبيب بن مظاهر حيث أبى
بعض بني عمِّه ذلك، ودفنوه ناحية عن الشهداء.
فلمّا فرغ الأسديون من موارتهم قال لهم: "هلّموا
لنوارِ جثة الحرّ الرياحي".
فمشوا معه حتى وقف عليه فقال: "أما
أنت فقد قبل الله توبتك وزاد في سعادتك ببذلك نفسك أمام ابن رسول الله صلى الله
عليه واله".
وأراد الأسديون حمله إلى محل الشهداء فقال عليه السلام: "لا،
بل في مكانه واروه".
فلما فرغوا من مواراته، ركب الإمام زين العابدين عليه السلام جواده، فتعلق به
الأسديون قائلين: "بحق من واريته
بيدك؟ من أنت؟".
فقال عليه السلام: "أنا حجة الله
عليكم، أنا علي بن الحسين عليه السلام، جئت لأوراي جثّة أبي ومن معه من إخواني
وأعمامي وأولاد عمومتي وأنصارهم الذين بذلوا مهجهم دونه، وأنا الان راجع إلى سجن بن
زياد لعنه الله، وأما انتم فهنيئاً لكم، لا تجزعوا ولا تضاموا فينا".
انتفاضة عبد الله بن عفيف الأزدي رضوان الله عليه
نصب رأس الإمام الحسين عليه السلام على باب دار الإمارة، ثم إن ابن زياد نادى في
الناس فجمعهم في المسجد الأعظم، ثم خرج ودخل المسجد، وصعد المنبر، فحمد الله وأثنى
عليه، فكان من بعض كلامه: "الحمد
لله الذي أظهر الحق وأهله! ونصر أمير المؤمنين وأشياعه! وقتل الكذّاب ابن
الكذّاب!".
قال فما زاد على هذا شيئاً حتى وثب إليه عبد الله بن عفيف الأزدي، وهو من أصحاب
أمير المؤمنين عليه السلام، وكان من رؤساء الشيعة وخيارهم، وكان قد ذهبت عينه
اليسرى يوم الجمل، والأخرى يوم صفين، وكان لا يكاد يفارق المسجد الأعظم، يصلي فيه
إلى الليل ثم ينصرف إلى منزله.
فلما سمع مقالة ابن زياد وثب إليه وقال: "يا ابن مرجانة! إن الكذاب وابن الكذاب
أنتَ وأبوك! ومن استعملك وأبوه! يا عدو الله ورسوله! أتقتلون أبناء النبيين
وتتكلمون بهذا الكلام على منابر المسلمين؟!".
فغضب ابن عبيد الله بن زياد وقال: "من المتكلم!".
فقال: "أنا المتكلم يا عدو الله!
أتقتل الذرية الطاهرة الذين أذهب الله عنهم الرجس في كتابه وتزعم أنك على دين
الإسلام؟ واغوثاه! أين أولاد المهاجرين والأنصار لينتقموا من هذا الطاغية اللعين بن
اللعين على لسان رسول الله ورب العالمين؟!".
فازداد غضب ابن زياد حتى انتفخت أوداجه، فقال: "عليّ به!".
فوثب إليه الجلاوزة فأخذوه، فنادى بشعار الأزد: "يا مبرور".
وكان عبد الرحمن ابن مخنف الأزدي في المسجد، فقال: "ويح نفسك! أهلكتها وأهلكت
قومك!".
وحضر إلى الكوفة يومئذٍ سبعمائة مقاتل من الأزد، فوثبت إليه فتية من الأزد فانتزعوه
منهم وانطلقوا به إلى منزله!
ودعا ابن زياد بعد عودته إلى القصر عمرو بن الحجاج الزبيدي، ومحمد بن الأشعث، وشبث
بن ربعي، وجماعة من أصحابه، فقال لهم:"اذهبوا إلى هذا الأعمى الذي أعمى الله
قلبه كما أعمى عينيه، فأتوني به!".
فانطلقوا يريدون عبد الله بن عفيف، وبلغ الأزد ذلك، فاجتمعوا وانضمت إليهم قبائل من
اليمن ليمنعوا صاحبهم.
فبلغ ذلك ابن زياد، فجمع قبائل مضر وضمهم إلى محمد بن الأشعث، وأمره أن يُقاتل
القوم!.
فأقبلت قبائل مضر، فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى قتلت جماعة من العرب، ووصل القوم إلى
دار عبد الله بن عفيف، فكسروا الباب واقتحموا عليه!
فصاحت ابنته: "يا أبت أتاك القوم من
حيث تحذر!".
فقال: "لا عليكِ يا بُنية ! ناوليني
السيف!".
فناولته السيف، فجعل يذب عن نفسه، فقالت له ابنته: "ليتني
كنتُ رجلاً فأقاتل بين يديك هؤلاء الفجرة".
وجعل القوم يدورون عليه من يمينه وشمائله وورائه، وهو يذب عن نفسه بسيفه وهو يرتجز:
أقسم لو يفسح لي عن بصري**ضاق عليكم موردي ومصدري
فلم يقدرعليه أحد، وكلما جاءوه من جهة قالت ابنته: "جاؤوك
يا أبت من جهة كذا!" حتى تكاثروا
عليه من كل ناحية، وأحاطوا به، فقالت ابنته: "واذلاه!
يُحاط بأبي وليس له ناصر يستعين به!".
وأخذوه إلى عبيد الله بن زياد، فلما أُدخل عليه، قال له: "الحمد الذي أخزاك!".
فقال ابن عفيف: "يا عدو الله! بماذا أخزاني! والله لو يكشف عن بصري..".
فقال له: "ماذا تقول في عثمان؟".
فقال: "يا ابن مرجانة! يا ابن سميه! يا عبد بني علاج! ما أنت وعثمان؟! أحسن أم
أساء؟ أصلح أم أفسد؟ الله ولي خلقه يقضي بينهم بالعدل والحق، ولكن سلني عنك وعن
أبيك! وعن يزيد وأبيه!".
فقال ابن زياد: "لا سألتك عن شيء أو تذوق الموت!".
فقال ابن عفيف: "الحمد لله رب العالمين، كنت أسأل الله أن يرزقني الشهادة قبل أن
تلدك أمك مرجانة، وسألته أن يجعل الشهادة على يدي ألعن خلقه وأشرّهم وأبغضهم إليه،
ولما ذهب بصري ايست من الشهادة، أما الان فالحمد لله الذي رزقنيها بعد اليأس منها،
وعرّفني الاستجابة منه لي في قديم دعائي!".
فقال عبيد الله: "اضربوا عنقه! فضربت، وصلب!".
وقد حاول ابن زياد كسب مودّة الأزد وبعض العشائر ذات الثقل الإجتماعي في الكوفة،
وعدم إثارتها ضده بعدم مقتل بعض وجوههم الموالية لال البيت عليهم السلام.
ابن زياد يطالب ابن سعد بكتاب الأمر بقتل الإمام الحسين عليه السلام
بعد عودة عمر بن سعد من واقعة قتل الإمام الحسين عليه السلام، طالبه ابن زياد
بالكتاب الذي أرسله إليه ويأمره فيه قتل الإمام الحسين عليه السلام.
فقال ابن سعد: "مضيتُ لأمرك وضاعَ الكتاب!".
قال: "لتجئني به".
قال ابن سعد : "ضاع!".
قال: "لتجئني به!".
قال ابن سعد: "تُرك والله يُقرأ على عجائز قريش بالمدينة اعتذاراً إليهن! أما والله
لقد نصحتك في الحسين نصيحة لو نصحتها أبي سعد بن أبي وقّاص لكنتُ قد أديّت حقه!".
فقال عثمان بن زياد أخو عبيد الله: "صدق! والله لوددت أنه ليس من بني زياد رجل إلا
وفي أنفه خزامة إلى يوم القيامة وأنّ الحسين لم يُقتل!" فما أنكر ذلك عبيد الله بن
زياد!.
المختار الثقفي يعلم باستشهاد الإمام الحسين عليه السلام
لم يستطع عبيد الله بن زياد قتل المختار الثقفي لقرابة الأخير من عبد الله بن عمر
بن الخطاب وعمر بن سعد، وقد استخرج ابن زياد المختار من الحبس، بعد أن كان زجه فيه
بعد قتل مسلم وهانى، فبعد وصول كتاب يزيد الذي أمر فيه ابن زياد بالقتل والحبس على
الظنة، حبس جماعة من الشيعة منهم المختار، فبقي في السجن حتى جيء برأس الإمام
الحسين عليه السلام ووضع بين يديه فغطاه بمنديل، واستخرج المختار من الحبس، فلّما
نظر المختار إلى الرأس الشريف صاح صيحة مدوية. وقد أطلق سراح المختار في ما بعد،
بعد أن جرح اللعين ابن زياد عينه.
كيف حمل بقية أهل البيت عليهم السلام إلى يزيد
لمّا وصل كتاب ابن زياد إلى يزيد بن معاوية، يأمره فيه بحمل رأس الإمام الحسين عليه
السلام إليه وروؤس من قُتل معه، وبحمل أثقاله ونسائه وعياله.
ولما فرغ القوم من التطوف بالرأس المقدس، دفعه ابن زياد إلى زحر بن قيس، ودفع إليه
رؤوس أصحابه، وسرحه إلى يزيد بن معاوية، وانفذ معه أبا بردة بن عوف الأزدي، وطارق
بن أبي ظبيان، في جماعة من أهل الكوفة حتى وردوا بها على يزيد بدمشق.
وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قال: قال لي أبي محمد بن علي: "سألتُ
أبي علي بن الحسين عن حمل يزيد له، فقال : حملني على بعير بغير وطاء! ورأس الحسين
عليه السلام على عَلم! ونسوتنا خلفي على بغال ... إن دمعت من أحدنا عين قُرع رأسه
بالرمح! حتى إذا دخلنا دمشق صاح صائح: يا أهل الشام هؤلاء سبايا أهل البيت
المعلون!".
وبذلك تكون مدة بقاء الركب الحسيني في الكوفة إثني عشر يوماً 24.
منازل الطريق من الكوفة إلى دمشق
هناك طريقان يصلان بين الكوفة ودمشق:
1- الطريق السلطاني: وهذا
الطريق مع طوله وكثرة منازلة لا يمكن لسالك ان يجدّ السير فيه ولا يلوي على أحد ولا
يتوقف في منزل أن يسلكه في أقل من عشرة أيام، ولو أردنا أن نقبل بأن مسير الركب
الحسيني كان على هذا الطريق، ونقبل جميع ما حدث لهم في منازله لاستغرق ذلك سنة من
الزمان على قول بعض المحققين، اهم منازل هذه الطريق: حران، حصاصة، تكريت، وادي
النخلة، برصاباد، الموصل، عين الوردة، قنسرين، معرّة النعمان، كفر طاب، الشيرز،
الحمى حماة، حمص، بعلبك.
2- الطريق المستقيم طريق عرب عقيل: وهو
طريق يمكن قطعه في مدة أسبوع لكونه مستقيماً، وهي الطريق التي يسلكها البريد.
ولعل أعداء الله ورسوله صلى الله عليه واله كانوا قد سلكوا ببقية الركب الحسيني في
سفرهم من الكوفة إلى الشام أقصر الطرق مسافة، ذلك لأن من الطبيعي يومذاك أن يحرص كل
من يزيد وابن زياد واتباعهما الموكلين ببقية الركب الحسيني على وصول الركب في أسرع
وقت ممكن، فيزيد يتلهف ليروي ظمأه إلى التشفي من أهل البيت عليهم السلام، اما ابن
زياد فرغبة منه ليري يزيد كيف نفذ أوامره كما يحب ويرضى! اما من رافق الركب الحسيني
فهم أشد لهفة للوصول إلى الشام لينالوا الجوائز.
وتجدر الإشارة أن جلاوزة ابن زياد حينما خرجوا برأس الحسين عليه السلام من الكوفة
كانوا يخافون من قبائل العرب أن تثور فيهم الغيرة والحميّة، فكانوا يشيعون بين
القبائل انهم يحملون رأس خارجي.
وهناك رأي اخر يفيد بأن من الأرجح أنهم تعمدوا سلوك الطريق الذي يمر بأكبر عدد ممكن
من المدن والقبائل، لأن النظام في مثل هذه الحالة يستعمل الترهيب وسيلة لفرض هيبته،
وهو ما يؤيده أصل الإقدام على حمل الرؤوس من بلد إلى بلد.
على مقربة من دمشق
لما وصل الركب الحسيني المأسور إلى مقربة من دمشق، دنت السيدة أم كلثوم من شمر
فقالت: "لي إليك حاجة!".
فقال: "ما حاجتك؟".
قالت: "إذا دخلت بنا البلد، فاحملنا
بدرب قليل النظارة، وتقدم إليهم أن يخرجوا هذه الرؤوس من بين المحامل، وينحونا عنها
فقد خُزينا من كثرة النظر إلينا ونحن في هذه الحال!".
فأمر اللعين في جواب سؤالها أن تجعل الرؤوس التي كانت على الرماح في وسط المحامل!
وسلك بهم بين النظارة على تلك الصفة حتى أتى بهم باب دمشق.
وكان اليوم الذي أدخل فيه رأس الإمام الحسين عليه السلام مدينة دمشق الأول من شهر
صفر.
* رحلة السبي. نشر: جمعية المعارف الاسلامية الثقافية. إعداد: معهد
سيد الشهداء للمنبر الحسيني. ص: 17-41 الطبعة الاولى تموز 2006 م - 1426 هـ .
1- أقبح أنواع الغدر.
2- سكنت و جفت بعد جريانها.
3- الصوت الحزين عند البكاء
4- خيط الصوف ينقض ويفل ليغزل ثانية.
5- المكر والخيانة.
6- الذي يمدح نفسه بما ليس فيه
7- المتلطخ بالعيب.
8- المبغض.
9- الإظهار باللسان لما ليس في القلب.
10- الغمز عنا بمعنى الطعن والذم، وطعن العدو مضرب المثل كما لا يخفى.
11- مكان تراكم أرواث الحيوانات.
12- الجثة الموضوعة في القبر.
13- الخزي.
14- تغسلوها.
15- قد تبدل الألف هاء كما في أراق وهراق، ومدره ومدرأ، والمدرأ والمدره الزعيم
الذي يدرأ عن القوم ويدفع عنهم. وإضافة مدره إلى السنة معناه: محورها ومدارها. صحاح
الجوهري، بتصرف.
16- مكشوفة مذهلة.
17- شديدة الإعوجاج، متفاقمته.
18- كملى الأرض.
19- كناية عن عظم حجم هذه الجريمة.
20- الإمهال.
21- المسارعة الى الشيء.
22- لا يُبزى: لا يقهر.
23- أي لم يكن لأحد عليه أحقاد شخصية ولا ثارات.
24- يبدو في ضوء النصوص أن هناك طريقاً مستقيماً بين الشام والعراق يمكن ان يقطعه
المسافر عادة خلال مدة اسبوع، وكان عرب عقيل يسلكون هذا الطريق، كما أن عرب صليب
يذهبون من حوران للنجف في نحو ثمانية أيام. وإذا افترضنا ان ابن زياد كتب إلى يزيد
بخبر واقعة الطف مباشرة بعد انتهائها، وان البريد تحرك برسالته في ليلة الحادي عشر
او في اليوم الحادي عشر، فإنه يمكن الاحتمال، على فرض ان مدة البريد اسبوع، ان
البريد وصل إلى دمشق حوالي اليوم السابع عشر من المحرم.
وإذا افترضنا أيضاً أن البريد تحرك من دمشق إلى الكوفة بجواب يزيد في نفس اليوم،
فإنه من المحتمل أيضاً أنه يصلها حوالي اليوم الرابع والعشرين من المحرم.