الحجر الأسود وعالم الذر (الميثاق الإلهي)
الحجر الأسود
قبل البدء بالكلام عن الارتباط بين الحجر الأسود وعالم الذر، لا بد من معرفة هذا العالم لذلك نبدأ البحث بالحديث عنه.
عدد الزوار: 1053
قبل البدء بالكلام عن الارتباط بين الحجر الأسود وعالم الذر، لا بد من معرفة هذا
العالم لذلك نبدأ البحث بالحديث عنه.
عالم الذر
قال اللَّه تبارك وتعالى في كتابه الكريم:
﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ
مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ
بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا
كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾
(الأعراف: 172).
يدور المحور الأساس لموضوع هذه الآية الكريمة على العهد والميثاق الذي قطعه الإنسان
لربِّ العالمين قبل مرحلة إيجاده في هذا العالم المادي حيث أقرّ بالعبودية والتوحيد
الفطري الموجود في أعماق النفس الإنسانية.
والإشارة الهامة في الآية هي إلى الفعل الإلهي الذي تعلق بالبشر جميعاً بعدما أخذ
اللَّه بعضهم من بعض وفصل بين كل واحدٍ منهم وغيره، وهذا الفعل هو إشهادهم على
أنفسهم، ويوضِّح لنا القرآن طبيعة هذه الشهادة المأخوذة منهم، وهي أن يشهدوا
بالربوبية له سبحانه وتعالى وذلك عندما استنطقهم بقوله: "ألست بربكم"، وكان الرّد
منهم بما أشار إليه الخطاب القرآني: "قالوا بلى شهدنا" وهذا اعتراف منهم بوقوع
الشهادة.. فمعنى الآية الإجمالي على هذا يكون: إنّا خلقنا بني آدم في الأرض
وفرّقناهم وميّزنا بعضهم من بعض بالتناسل والتوالد، وأوقفناهم على احتياجهم
ومربوبيتهم للَّه فاعترفوا بذلك قائلين: بلى شهدنا أنك ربنا.. وبعد الاعتراف
والإقرار من البشر بالربوبية تكون الحجة يوم القيامة قد تمّت عليهم، فالفعل الإلهي
الذي صيغ بإشهاد كل فرد من البشر على نفسه بعد أخذه، وعدم إهمال هذا الفعل من
الأساس، وكذلك عدم رفض الإنسان للشهادة بأن اللَّه هو ربُّه يستوجب ويستلزم عدم
إقامة الحجة من الإنسان على اللَّه يوم القيامة وإلغاء أيِّ عذرٍ له بأنه كان غافلاً
عن الربوبية في الدنيا، حيث من الممكن أن يحتجّ الإنسان يوم القيامة أمام اللَّه
بأنه كان غافلاً عن الربوبية المستلزمة للعبادة والطاعة في الدنيا وبالتالي لا
تكليف على الغافل... فينجو الإنسان من المحاسبة والعتاب وإلى هذا أشار القرآن
الكريم بتتمّة هذه الآية: "أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا
إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون" ولعلّ هذا
التفسير هو مورد اتفاق بين جميع المفسِّرين.
ومما ورد في هذا المجال ما جاء في تفسير العياشي عن الأصبغ بن نباتة عن الإمام علي
عليه السلام في أنه أتاه ابن الكواء وقال: أخبرني يا أمير المؤمنين عن اللَّه تبارك
وتعالى هل كلّم أحداً من ولدِ آدم قبل موسى؟ فقال علي عليه السلام: "قد كلّم اللَّه
جميع خلقه برهم وفاجرهم وردّوا عليه الجواب"، فثقل ذلك على ابن الكواء ولم يعرفه
فقال له: "كيف كان ذلك يا أمير المؤمنين؟ فقال له: أو ما تقرأ كتاب اللَّه إذ يقول
لنبيّه: "وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريّتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم
قالوا بلى" فقد أسمعهم كلامه وردّوا عليه الجواب كما تسمع قول اللَّه يا ابن الكواء
"قالوا بلى" فقال لهم إني أنا اللَّه لا إله إلاّ أنا وأنا الرحمن الرحيم فأقرّوا
له بالطاعة والربوبية، وميَّز الرُسل والأنبياء والأوصياء وأمر الخلق بطاعتهم
فأقرّوا بذلك في الميثاق فقالت الملائكة عند إقرارهم بذلك شهدنا عليكم يا بني آدم
أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين".
وإذا كان هذا التفسير مورد اتفاق بين علماء التفسير إلا أن الخلاف وقع بينهم في أمرٍ
هو أعمق وأدق بل هو أهم مما اتفقوا عليه، فإذا كان محلُّ البحث في الآيات الكريمة
هو الحديث عن أخذ العهد من ذريّة آدم بشكلٍ قطعي ويقيني، فإن الخلاف هو في كيفية
أخذ هذا العهد؟!
وقد أعطى المفسرون الآراء المتعددة في هذا المجال، ومن أهم هذه الآراء رأيان:
الأول: حين خلق آدم ظهر أبناؤه على صورة الذّر إلى آخر نسلٍ منهم له من البشر،
وطبقاً لبعض الروايات ظهر هذا الذّر أو الذرات من طينة آدم نفسه، وكان لهذا الذرّ
عقلٌ وشعور كافٍ للاستماع والخطاب والجواب، فخاطب اللَّه سبحانه الذرّ قائلاً "ألست
بربكم"؟! فأجاب الذرّ جميعاً بالقول "بلى شهدنا"... ثم عاد هذا الذرّ أو هذه
الذرّات جميعاً إلى صُلب آدم أو إلى طينته، ومن هنا فقد سُمّي هذا العالم بعالم
الذر وهذا العهد المأخوذ هو المعني بقوله تعالى: "ألست بربكم".
فبناء على هذا فإن الآيتين تدلاّن على عالم الذر، وأن اللَّه أخرج ذريّة آدم من
ظهره، فخرجوا كالذرّ فأشهدهم على أنفسهم وعرّفهم نفسه، وأخذ منهم الميثاق على
ربوبيته فتمّت بذلك الحجّة عليهم يوم القيامة.
الثاني: أن المراد بهذا الظرف المشار إليه بقوله تعالى: "وإذ أخذ ربك" هو الدنيا،
وعبّر البعض عن ذلك بعالم الاستعداد، وعهد الفطرة والتكوين والخلق، فعند خروج أبناء
آدم من أصلاب آبائهم إلى أرحام الأمهات، وهم نطف، وهبهم اللَّه الاستعداد لتقبُّل
الحقيقة التوحيدية، وأودع ذلك السرّ الإلهي في ذاتهم وفطرتهم بصورة إحساسٍ داخلي...
كما أودعه في عقولهم وأفكارهم بشكل حقيقة واعية بنفسها... وبعبارةٍ أخرى فإن اللَّه
سبحانه يُخرج الذرية الإنسانية من أصلاب آبائهم إلى أرحام أمهاتهم ومنها إلى الدنيا،
ويشهدهم في خلال حياتهم على أنفسهم، ويريهم آثار صنعه وآيات وحدانيته، ووجوه
إحتياجهم ويشهدهم ب"ألست بربكم" وهم يجيبونه بلسان حالهم: بلى شهدنا بذلك وأنت ربنا
لا رب غيرك.
وإنما فعل اللَّه سبحانه ذلك كما تقدم لئلا يحتجوا على اللَّه يوم القيامة بأنهم
كانوا غافلين عن المعرفة، أو يحتجّ الذريّة بأنّ آباءهم هم الذين أشركوا، وأما
الذرية فلم يكونوا عارفين بها، وإنما هم ذريّة من بعدهم نشؤوا على شركهم من غير ذنب.
هذا بالإجمال هو خلاصة الرأيين أو النظريتين المعروفتين في تفسير الآية الكريمة وما
يتلوها، وقد استدل أصحاب كل نظرية بوجوه وأدلة متعددة، لا يتّسع لنا المجال لذكرها،
ولكن نشير إلى أن معظم علمائنا الأجلاء قد تبنّوا النظرية الثانية ومن هؤلاء
العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي في تفسيره المعروف بتفسير الميزان، وأبطل
الوجوه التي استدلّ بها أصحاب النظرية الأولى.
الحجر الأسود:
الحجر الأسود هو حجر مصقول بشكل غير منتظم، لونه أسود يميل للاحمرار وفيه نقط حمراء
وتعاريج صفراء وهو ليس حجراً عادياً، فالحجر الأسود قطعة من الجنة. وضع اللَّه فيه
أسراراً لا يمكن للعقل أن يدركها أو أن يصل إليها وقد كشف عنها الأئمة (عليهم
السلام) وبينوها وأظهروا جوهرها، إنه يشهد لمن وافاه يوم القيامة، وهذا ثابت عند
المسلمين كافة. ففي الحديث الصحيح عن الإمام أبي عبد اللَّه جعفر الصادق عليه
السلام: "إذا دنوت من الحجر الأسود فارفع يديك واحمد اللَّه وأثني عليه وصلِّ على
النبي صلى الله عليه وآله وسلم واسأل اللَّه أن يتقبل منك، ثم استلم الحجر وقبِّله، فإن لم تستطع أن
تقبله، فاستلمه بيدك، فإن لم تستطع أن تستلمه بيدك فأشر إليه، وقل: اللهم أمانتي
أديتها وميثاقي تعاهدته، لتشهد لي بالموافاة إن هذا الميثاق ذكر في القرآن في قوله
تعالى: (وإذ أخذ من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا
بلى شهدنا...)".
هذا الميثاق أخذه اللَّه من بني آدم ثم أودعه هذا الحجر المكرّم، فمن أتى إليه
ووافاه شهد له بالوفاء بعهده وقد ورد في الحديث عن أبي عبد اللَّه عليه السلام أنه
قال: "إن اللَّه تبارك وتعالى لما أخذ مواثيق العباد أمر الحجر فالتقمها، فلذلك
يقال: أمانتي أديتها، وميثاقي تعاهدته، لتشهد لي بالموافاة"
(وسائل الشيعة ب13،
ح4).
وفي الخبر: "إن الحجر الأسود ياقوتة من يواقيت الجنة، وأنه يبعث يوم القيامة له
عينان ولسان ينطق به، ويشهد لكل من استلمه بحق وبصدق، وكان النبي صلى الله عليه
وآله وسلم يقبله كثيراً".
(وسائل الشيعة ب13، ح15).
وقبَّله عمر بن الخطاب ثم قال: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت
رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم يقبلك ما قبلتك... وسمعه الإمام علي عليه السلام فقال: يا أمير
المؤمنين بل هو يضر وينفع. قال: وكيف؟ قال: "إن اللَّه تعالى لما أخذ الميثاق على
الذرية، كتب عليهم كتاباً، ثم ألقمه هذا الحجر، فهو يشهد للمؤمن بالوفاء، ويشهد على
الكافر بالجحود".
وفي بعض الروايات أن سبب سواد لون الحجر الأسود هو خطايا بني آدم كما روي عن محمد
بن علي بن الحسين عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنه كان أشد بياضاً من الثلج، وأنه
لولا ما مسّه من أرجاس الجاهلية، ما مسّه ذو عاهة إلا برىء
(الوسائل، ج3، ص318).
الارتباط بين الحجر الأسود وعالم الذر:
هناك شيء واضح في الروايات يشير إلى الارتباط بين هذا الحجر الكريم وعالم خلق
الأرواح وفطرتها على الشهادة للَّه تعالى، حيث أنه هو الجهة المادية التي تسجل فيها
شهادات الخلق للَّه تعالى بالربوبية، وكأنه هو مظهر اللوح المحفوظ، فإذا جاءه
الإنسان في الدنيا، وطاف حول البيت الحرام، واستلمه. فهو يكون قد أقر للَّه تعالى
بالربوبية، وأطاعه، وأقر على نفسه بالعبودية وكأنه قد وفى بعهده، ويشهد له هذا
الحجر في القيامة بذلك، لأنه يأتيه كل من آمن باللَّه على حق المعرفة، وعمل بطاعته
وخضع لربوبيته. أما من لم يأته أو أتاه كافراً بحقه فإنه يترك تأثيره عليه فيزداد
سواداً ويلتقم صورته الحقيقية كنقطة سوداء تبقى وتظهر أيضاً عند الحساب وعرض
الأعمال وظهور البواطن.
إذن الحجر الأسود له ارتباط بفطرة الإنسان ولارتباط الميثاق بالحجر معنى آخر، وهو
أن هذا الحجر الجامد قد وصل إلى هذه المنزلة الكريمة بإقراره التكويني باللَّه
وشهادته به، وهنا يلتقي الإنسان مع الحجر الذي هو من الأرض التي جبلت منه طينته،
ومن المادة التي تكون منها جسده، ويعني ذلك أن اللَّه كما فطر الحجر على الشهادة له
بالخالقية والألوهية والربوبية، كذلك فطر الإنسان، وبهذه الشهادة استحق الحجر أن
يأتيه المؤمنون باللَّه ليستلموه ويفوا بعهدهم للَّه، وبها يستحق الإنسان أن يكون
النقطة التي تدور عليها رحى الخلق والكون. ولعل اللَّه قد أراد باستلامه هذا الحجر
الكريم على صغره بالنسبة لحجم الأرض والكون، أن يوجه الخلائق إلى نقطة ارتكاز واحدة
تتحد فيها وجهتهم "ولكل وجهة هو موليها، فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام، وحيثما كنتم
فولوا وجوهكم شطره..." فهو تعبير عن عودة الخلائق إلى مبدئها، كما يعود الإنسان إلى
الذر، أو الذرة التي خلق منها فتتوجه كل قواه إليها وإلى العهد الذي عاهدت به
اللَّه تعالى، وهي عودة إلى الفطرة الإلهية التي فطر اللَّه تعالى عليها الذر الذي
خلق منه الإنسان.
هذا بعض من معاني ارتباط الحجر الأسود وعالم الذر قد يستفاد من ربطهما في الروايات فلنذكر بذكر الحجر خلقنا، وفطرتنا، وعودنا إلى اللَّه، ولنذكر بسواده خطايانا، ووعدنا للَّه وعهدنا معه.
* سماحة الشيخ خليل رزق.
2013-10-03