يتم التحميل...

كيف نتجاوز التجزئة؟

الوحدة الإسلامية

إذا كانت حالات التجزئة السياسية التي حدثت في تاريخ الأمة السابق، ناتجة عن نزعات فردية أو توجهات محلية انفصالية، فإن التجزئة السياسية في الواقع المعاصر ترتبط بنظام عالمي..

عدد الزوار: 31

إذا كانت حالات التجزئة السياسية التي حدثت في تاريخ الأمة السابق، ناتجة عن نزعات فردية أو توجهات محلية انفصالية، فإن التجزئة السياسية في الواقع المعاصر ترتبط بنظام عالمي قد ترسخت جذوره وتمكنت هيمنته.

ذلك أن النظام العالمي المعاصر قائم على أساس اعتماد الدولة الحديثة أو الدولة القومية، كوحدة أساسية في النظام الدولي. وأصبحت لهذه الدولة شرعيتها على مستوى العالم، وسيادتها على مستوى الوطن، وارتبطت حياة الناس وأوضاعهم بهذه الكيانات القومية القائمة.

"لقد بدأ هذا الشكل السياسي المحدد الذي نطلق عليه مصطلح "الدولة الحديثة" أو "لدولة القومية" الظهور والتبلور في القرون الأربعة الماضية على الساحة الأوروبية، ومنها انتشر خارج أوروبا، حتى أصبح النمط السائد في النظام العالمي المعاصر. ويؤرخ معظم الكتاب لبداية ظهور الدولة بهذا المعنى، بمعاهدة وستفاليا عام 1648م بعد حروب دينية طاحنة حرب المائة عام، ثم حرب الثلاثين عاماً، وهي المعاهدة التي أرست قواعد التعامل والعلاقات بين الأقطار الأوروبية، التي كانت تتكون منها الإمبراطورية الرومانية المقدسة.

معاهدة وستفاليا أرست البذور الجنينية لظهور الدول القومية في بعض دول أوروبا ذاتها، ومنها انتشر هذا النمط من أنماط التنظيم السياسي في بقية أوروبا والقارات الأخرى في القرون التالية، حتى أصبحت الدولة هي الوحدة الأساسية في التنظيم العالمي المعاصر. "فالأمم المتحدة ومن قبلها عصبة الأمم لا تقبل في عضويتها الكاملة إلا دولاً بالمفهوم الذي عرّفناه".

فالإنسان المسلم اليوم يولد وينشأ ويتربى في ظل كيان الدولة القطرية، وترتبط شؤون حياته بكيانها، ويعبأ باتجاه الولاء السياسي لها، ودول العالم وشعوبها والنظام العالمي يتعامل معه باعتباره مواطناً لهذه الدولة القطرية.

وهكذا وجدت الأجيال المسلمة المعاصرة نفسها مرتبطة نفسياً وسلوكياً بهذه الكيانات القطرية، والتي تشكل صيغة للتعايش السياسي على مستوى العالم.

فكيف يمكن تجاوز هذا الواقع، وإلغاء هذه الكيانات القطرية، لصالح قيام كيان واحد للأمة يجمع شملها ويوحد أقطارها تحت راية الإسلام؟
إنها أمنية عزيزة وغالية يطمح كل مسلم غيور أن يراها متحققة متجسدة، لكن ذلك ليس قريب المنال بل يعترضه آلاف العقبات والعراقيل الداخلية والخارجية، فالقوى المهيمنة في النظام الدولي لا تترك للأمة فرصة التوحد، والطبقة الحاكمة في الدول القطرية الإسلامية، متشبثة بمواقعها وسلطاتها، والتيار المتأثر بالثقافات الأجنبية داخل الأمة، يناوئ أي تحرك توحيدي باتجاه الدين ، وجمهور المواطنين نشأ على أساس الولاء للدولة القطرية.

بالطبع لا يعني ذلك كله الخضوع لهذا الواقع والقبول به وتطبيعه نفسياً وفكرياً، بل لابد من السعي باتجاه الوحدة ضمن برامج وطروحات تمهيدية وتدريجية نتجاوز بها مآسي وآلام التجزئة.

تعميق الولاء للإسلام:
تحيط بالإنسان عدة دوائر عاطفية واجتماعية وفكرية، تتنافس على كسب ولائه وانقياده لمحورها، فهناك المحيط العائلي الأسري، والانشداد للأرض والوطن، والانتماء للعرق واللغة، والارتباط بالفكر والمبدأ، كل ذلك يضاف إلى الاهتمام المصلحي الذاتي، الذي هو حجر الأساس الطبيعي في شخصية الإنسان.

ويختلف الناس عادة في أولويات انشداداتهم وولاءاتهم بين هذه الدوائر. والدائرة الأكثر استقطاباً للإنسان تكون هي محور انتمائه ويصبح تفاعله واستجابته لسائر الانشدادات، خاضعاً لمصلحة هذه الدائرة.

والإنسان المسلم ليس مطلوباً منه أن يتنكر لأي دائرة من هذه الدوائر، فمن حقه بل من الواجب عليه أن يهتم بعائلته وعشيرته ضمن عنوان صلة الرحم ﴿وَأُلُو الأَرْحَامِ بَعَضُهُم أَوْلَى بِبَعْضٍ في كِتَابِ اللهِ ومن الطبيعي أن يحب وطنه بل إن "حب الوطن من الإيمان". كما أنه ليس خطأً أن يحب الإنسان المسلم قومه؛ فقد سئل صلى الله عليه وآله: "أمن العصبية أن يحب الرجل قومه؟ فأجاب: لا ولكن من العصبية أن ينصر الرجل قومه على الظلم".

لكن الولاء الأساسي والانشداد المحوري عند الإنسان المسلم، يجب أن يكون لدائرة الدين والمبدأ، وفي ظلها وعلى هديها يتفاعل مع بقية الولاءات والانتماءات، فالدين هو الأولوية الأولى والمطلقة في حياة الإنسان المسلم، وفي غير هذه الصورة، وإذا ما تغلب أي انشداد على ولائه لدينه، فقد خرج من رقبة الإيمان وعرّض نفسه لغضب الرحمن.

يقول تعالى: ﴿قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُم وأبْنَاؤُكُم وإخْوَانُكُم وأزْوَاجُكُم وعَشِيرَتُكُم وأمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وتِجَارَةٌ تخْشَونَ كَسَادَهَا ومَسَاكِنَ تَرضَونَها أَحبَ إلَيْكُم مَنَ اللهِ ورَسُولِهِ وجِهَادٍ في سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ واللهُ لا يُهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ.

فالمؤمن الحقيقي يطوّع سائر الانشدادات والولاءات لولائه الديني وليس العكس. يقول تعالى: ﴿لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ باللهِ واليَومِ الآخرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ ورَسُولَهُ ولَو كَانُوا آبَاءَهُم أو أبْنَاءَهُم أو إِخْوَانَهُم أو عَشِيرَتَهم أولَئِكَ كتب في قُلُوبِهِمُ الإيمان.

نشر الوعي الوحدوي:
الوحدة كشعار حماسي، وكأمنية قلبية، أمر متوفر في ساحة الأمة، لكن ما نحتاج إليه هو الوعي بضرورة الوحدة وأهميتها على مستوى الحقائق والمعلومات والأرقام، بأن يدرك كل مسلم ويتعرف على حقيقة واقع التجزئة، والأضرار والخسائر التي تصيب الأمة من خلال هذا الواقع، وأن يطلع على قدرات الأمة وإمكاناتها البشرية والمادية والعلمية، وأن يرصد الجهود التي تبذل لعرقلة وحدة الأمة من الداخل والخارج، وأن يتابع البرامج والطروحات الوحدوية ليكون له دور في دعمها وتأييدها.
وذلك يستلزم وجود جهات وأجهزة ومراكز تهتم بتوفير الوعي الوحدوي لأبناء الأمة وجماهيرها مدعماً بالحقائق والأرقام.

معالجة أسباب التجزئة والانفصال:
إن وجود حالات ظلم وحرمان وتمييز بين المواطنين في أي بلد إسلامي، على أساس التمايز القومي أو المذهبي أو القبلي أو المناطقي، يشكل أرضية خصبة تنبت مشاريع التجزئة وتغذي التوجهات الانفصالية، مما يعطي الفرصة للأعداء لتمرير مؤامراتهم في الإمعان في تجزئة الأمة وزيادة تمزيقها.

واعتماد الحل العسكري والأمني وحده في مواجهة دعوات الانفصال ومشاريع التجزئة، لا يكفي بل قد يقدم لها المزيد من المبررات ويشعل أوارها أكثر، بينما التوجه إلى الثغرات ونقاط الضعف المتمثلة في السياسات الخاطئة القائمة على التمييز بين المواطنين، واستضعاف بعض طوائفهم، باستبعادهم عن المشاركة السياسية، وحرمانهم من بعض حقوقهم المشروعة.. هذا التوجه هو العلاج الصائب والجذري الذي يفشل محاولات التجزئة والانفصال.

فإذا ما شعر كل المواطنين في أي بلد إسلامي متنوع الانتماءات، بالمساواة وتكافئ الفرص وإتاحة المجال للمشاركة السياسية والتداول السلمي للسلطة؛ فإن ذلك سيكون أفضل حماية للوحدة في ذلك البلد 1.


1- الشيخ حسن الصفار.

2013-01-24