يتم التحميل...

مواقف الإمام الكاظم عليه السلام في عهد المنصور

شهادة الإمام الكاظم(ع)

إنّ حركة الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ونشاطه إزاء هذه الظروف التي تحدثنا عنها لم يسعفنا التاريخ بتفاصيلها ولم يحدّد لنا بالأرقام بشكل واضح حركة الإمام فيها، إلاّ أنّ بعض الروايات التاريخية تشير إلى ان الإمام عليه السلام

عدد الزوار: 284

إنّ حركة الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ونشاطه إزاء هذه الظروف التي تحدثنا عنها لم يسعفنا التاريخ بتفاصيلها ولم يحدّد لنا بالأرقام بشكل واضح حركة الإمام فيها، إلاّ أنّ بعض الروايات التاريخية تشير إلى ان الإمام عليه السلام قد مارس اُموراً في سنوات حكم المنصور العشرة بعد استشهاد الإمام الصادق عليه السلام.

وقد انتقينا بعض ممارسات الإمام عليه السلام التي لا تتعارض مع هذه الفترة وتنسجم مع ظروفها. ثم حاولنا بعد ذلك التركيز على الخط الذي سلكه الإمام بشكل عام تاركين التعرض للتفاصيل.

كما أنّ الخط العام والنهج الذي اتّخذه الإمام في هذه الفترة يتضمّن ما كان يهدف إليه من اُسلوب علاجي لبعض الظواهر الانحرافية، كما يتضمّن ما كان يريد أن يؤسّس فيه لثوابت مستقبلية. من هنا يقع الكلام في هذا البحث ضمن عدّة اتجاهات:

الاتّجاه الأوّل: الإمام الكاظم عليه السلام وإحكام المواقع
ونتناول في هذا الاتجاه دور الإمام عليه السلام في إبرازه للقدرات الغيبية التي تميّز الإمام عن غيره من الادعياء وزعماء الفرق والطوائف الضالّة في زمانه، وبهذا قد لفت أنظار الاُمة وأعطاها حسّاً تقارن وتحاكم به هذه التيّارات وتفرز بين الحق والباطل بماامتلكته من مقاييس مستلهمة من مشاهد مثيرة حسية كان قد حققها الإمام عليه السلام.

وهذا ينبئ عن محاولات إسقاط الحيرة الفكرية السائدة في هذه الفترة. والنشاطات التي قام بها الإمام عليه السلام في هذا الاتجاه هي كما يلي:
النشاط الأول: إخبار الإمام موسى عليه السلام لعامة الناس ببعض الغيبيات التي لا يمكن للانسان العادي أن يتوصّل اليها، والروايات التي تتضمّن هذا النوع من الإخبار كثيرة جداً ننقل بعضاً منها:
المثال الأول: عن اسحاق بن عمار قال: "سمعت العبد الصالح عليه السلام ينعى الى رجل من شيعته نفسه، فقلت في نفسي: وإنه ليعلم متى يموت الرجل من شيعته ! فالتفت اليّ شبه المغضَب فقال: يا اسحاق قد كان رشيد الهجري يعلم علم المنايا والبلايا والإمام أولى بعلم ذلك، ثم قال: يا اسحاق اصنع ما أنت صانع فإنّ عمرك قد فنى وقد بقي منه دون سنتين... فلم يلبث اسحاق بعد هذا المجلس إلاّ يسيراً حتى مات".

المثال الثاني: قال خالد بن نجيح: قلت لموسى عليه السلام إنّ أصحابنا قدموا من الكوفة وذكروا أن المفضّل شديد الوجع، فادع الله له. فقال عليه السلام: "قد استراح"، وكان هذا الكلام بعد موته بثلاثة أيّام.

المثال الثالث: قال ابن نافع التفليسي: خلّفت والدي مع الحرم في الموسم وقصدت موسى بن جعفر عليه السلام فلما أن قربت منه هممت بالسلام عليه فأقبل عليّ بوجهه وقال: "برّ حجك ياابن نافع، آجرك الله في أبيك فإنّه قد قبضه إليه في هذه الساعة، فارجع فخذ في جهازه، فبقيت متحيراً عند قوله، وقد كنت خلّفته وما به علّة، فقال: ياابن نافع أفلا تؤمن؟ فرجعت فاذا أنا بالجواري يلطمن خدودهنّ فقلت: ما وراكنّ؟ قلن: أبوك فارق الدنيا، قال ابن نافع: فجئت إليه أسأله عمّا أخفاه ورائي فقال لي: أبداً ما أخفاه وراءك، ثم قال: يا ابن نافع ان كان في اُمنيتك كذا وكذا أن تسأل عنه فأنا جنب الله وكلمته الباقية وحجته البالغة.

النشاط الثاني: ومن قدرات الإمام عليه السلام الخارقة للعادة والتي تميّزه أيضاً عن غيره هي تكلّمه بعدّة لغات من غير أن يتعلّمها بالطرق الطبيعية للتعلّم، وإنّما بالالهام. وفي هذا المجال تطالعنا مجموعة من الشواهد:
الشاهد الأول: عن أبي بصير قال: دخلت على أبي الحسن الماضي عليه السلام ، ما لبثت أن دخل علينا رجل من أهل خراسان فتكلّم الخراساني بالعربية، فأجابه هو بالفارسية.

فقال له الخراساني: أصلحك الله ما منعني أن اكلّمك بكلامي إلاّ أني ظننت أنك لا تحسن فقال: "سبحان الله! إذا كنت لا أحسن أن أجيبك فما فضلي عليك؟!"

ثم قال: "يا أبا محمد إنّ الإمام لا يخفى عليه كلام أحد من الناس ولا طير ولا بهيمة ولا شيء فيه روح. بهذا يعرف الامام، فاذا لم تكن فيه هذه الخصال فليس هو بإمام".

الشاهد الثاني: روي عن أبي حمزة أنه قال: كنت عند أبي الحسن موسى عليه السلام اذ دخل عليه ثلاثون مملوكاً من الحبشة اُشتروا له، فتكلم غلام منهم وكان جميلا بكلام فأجابه موسى عليه السلام بلغته فتعجّب الغلام وتعجّبوا جميعاً وظنوا أنه لا يفهم كلامهم.
فقال له موسى عليه السلام: "اني أدفع اليك مالا، فادفع الى كل (واحد) منهم ثلاثين درهماً".

فخرجوا وبعضهم يقول لبعض: "إنّه أفصح منا بلغتنا، وهذه نعمة من الله علينا.

قال علي بن أبي حمزة: فلما خرجوا قلت: يا ابن رسول الله! رأيتك تكلم هؤلاء الحبشيين بلغاتهم ! قال: نعم. وأمرت ذلك الغلام من بينهم بشيء دونهم؟

قال: نعم أمرته أن يستوصي بأصحابه خيراً وأن يُعطي كل واحد منهم في كل شهر ثلاثين درهماً، لأنّه لمّا تكلم كان أعلمهم، فانه من أبناء ملوكهم، فجعلته عليهم، وأوصيته بما يحتاجون إليه، وهو مع هذا غلام صدق.

ثم قال: لعلك عجبت من كلامي ايّاهم الحبشية ؟ قلت: اي والله.

قال عليه السلام: لا تعجب فما خفي عليك من أمري أعجب وأعجب".

الشاهد الثالث: قال بدر مولى الإمام الرضا عليه السلام: "إنّ اسحاق بن عمار دخل على موسى بن جعفر عليه السلام فجلس عنده اذ استأذن عليه رجل خراساني يكلّمه بكلام لم يسمع مثله قطّ كأنه كلام الطير.

قال اسحاق: فأجابه موسى عليه السلام بمثله وبلغته الى أن قضى وطره في مساءلته، فخرج من عنده، فقلت: ما سمعت بمثل هذا الكلام.

قال: هذا كلام قوم من أهل الصين وليس كل كلام أهل الصين مثله.

ثم قال: أتعجب من كلامي بلغته؟ قلت: هو موضع التعجب.

قال عليه السلام: أُخبرك بما هو أعجب منه انّ الإمام يعلم منطق الطير، ومنطق كلّ ذي روح، وما يخفى على الإمام شيء.

الاتّجاه الثاني: الإمام الكاظم عليه السلام ومعالجة الانهيار الأخلاقي

لقد أصاب القيم الإسلامية بفعل الاسباب التي ذكرناها اهتزاز كبير وتعرّضت الاُمة الى هبوط معنوي وتميّع مشهود، تغذّيه وتحركه أيد سلطانية هادفة، هنا سلك الإمام الكاظم عليه السلام سبيلين من أجل أن يحدّ من هذا الانهيار الذي تعرّضت له الاُمة.
الأول عام. والثاني يختص بالجماعة الصالحة.

وقد اتّخذ الإمام عليه السلام أساليب عديدة للموعظة والإرشاد ومعالجة الانهيار الأخلاقي الذي أخذ ينتشر ويستحكم في أعظم الحواضر الإسلامية التي كان الإمام عليه السلام يتواجد فيها.

واستطاع الإمام عليه السلام من خلال توجيهه لمجموعة من طلاّب الحقيقة وتأثيره عليهم أن يربّي في المجتمع الإسلامي نماذج حيّة تكون قدوة للناس في كبح جماح الشهوات الهائجة وإطفاء نيران الهوى المشتعلة بسبب المغريات المتنوّعة والتي كان يؤججها انسياب الحكّام في وادي الهوى نتيجة للثروات التي كانوا يحرصون على جمعها ويقتّرون في إنفاقها إلاّ على شهواتهم الى جانب اقتدارهم السياسي والعسكري.

وممّن تأثّر بالإمام الكاظم عليه السلام ولمع اسمه في حواضر المجتمع الإسلامي ; أبو نصر بشر بن الحارث بن عبدالرحمن المروزي الأصل البغدادي المسكن والذي أصبح من العرفاء الزهّاد بعد أن كان من أهل المعازف والملاهي، حيث تاب على يدي الإمام الكاظم عليه السلام.

وقد ذكر المؤرخون في سبب توبته أن الإمام عليه السلام حين اجتاز على داره ببغداد سمع الملاهي وأصوات الغناء والقصب تعلو من داره، وخرجت منها جارية وبيدها قمامة فرمت بها في الطريق، فالتفت الإمام إليها قائلا: "يا جارية: صاحب هذه الدار حر أم عبد؟

فأجابت: (حر).

فقال عليه السلام: صدقت، لو كان عبداً لخاف من مولاه.

ودخلت الجارية الدار، وكان بشر على مائدة السكر، فقال لها: ما أبطأك؟ فنقلت له ما دار بينها وبين الإمام عليه السلام فخرج بشر مسرعاً حتى لحق الإمام عليه السلام فتاب على يده، واعتذر منه وبكى وبعد ذلك أخذ في تهذيب نفسه واتصل بالله عن معرفة وإيمان حتى فاق أهل عصره في الورع والزهد".

وقال فيه ابراهيم الحربي: ما أخرجت بغداد أتمّ عقلا، ولا أحفظ لساناً، من بشر بن الحارث كان في كل شعرة منه عقل.

نعم لقد أعرض بشر ببركة توجيه الإمام الكاظم عليه السلام له وتنبيهه عن غفلته حتى أعرض عن زينة الحياة الدنيا ورضي بالقناعة وقال فيها: لو لم يكن في القناعة شيء إلاّ التمتع بعزّ الغناء (الغنى) لكان ذلك يجزي.

وقال: "مروءة القناعة أشرف من مروءة البذل والعطاء.

وممّا رواه الخطيب البغدادي عنه أنه جعل يبكي يوماً ويضطرب ويقول: "اللهم إن كنت شهرتني في الدنيا ونوّهت باسمي ورفعتني فوق قدري على أن تفضحني في القيامة، الآن فعجّل عقوبتي وخذ منّي بقدر ما يقوى عليه بدني".

وروى عن حجّاج بن الشاعر انّه كان يقول لسليمان اللؤلؤي: رؤي بشر ابن الحارث في النوم فقيل له: ما فعل الله بك يا أبا نصر؟ قال: غفر لي، وقال: يا بشر: ما عبدتني على قدر ما نوّهت باسمك.

وإذا تتبّعنا ما أثر عن الإمام الكاظم عليه السلام من كلمات وجدنا نصوصاً تشير الى اهتمامه بمعالجة الفساد الأخلاقي بشتّى نواحيه، فضلاً عن سيرته العطرة وسلوكه السويّ الذي كان قبلة للعارفين واُسوة للمتقين وشمساً مضيئة للمؤمنين وقمراً متلألئاً للمسلمين.

ونختار ممّا قاله الإمام عليه السلام بصدد معالجة الانهيار الأخلاقي ما يلي:

1 "إنّ العاقل: الذي لا يشغل الحلال شكره ولا يغلب الحرام صبره".

2 "من سلّط ثلاثاً على ثلاث فكأنّما أعان هواه على هدم عقله".
"من أظلم نور فكره بطول أمله، ومحا طرائف حكمته بفضول كلامه وأطفأ نور عبرته بشهوات نفسه فكأنّما أعان هواه على هدم عقله، ومن هدم عقله أفسد عليه دينه ودنياه".

3 "رحم الله من استحيا من الله حقّ الحيا، فحفظ الرأس وما حوى والبطن وما وعى وذكر الموت والبِلى وعلم أن الجنة محفوفة بالمكاره والنار محفوفة بالشهوات".

4 "من رضي من الله بالدنيا فقد رضي بالخسيس".

5 "من لم يعمل بالخطيئة أروح هماً ممّن عمل الخطيئة، وإن أخلص التوبة وأناب".

6 "إنّ صغار الذنوب ومحقراتها من مكائد إبليس يحقّرها لكم ويصغّرها في أعينكم فتجتمع وتكثر وتحيط بكم ".

7 "إنّ الله حرّم الجنة على كلّ فاحش بذيء قليل الحياء لا يبالي ما قال ولا ما قيل فيه.

وللإمام الكاظم عليه السلام معالجة شاملة وأساسية ذات اُسس قرآنية وتأريخية عريقة سوف تجدها بالتفصيل في وصيّته القيّمة لهشام في فصل تراثه عليه السلام.

الاتّجاه الثالث: الإمام الكاظم والتحدّيات الداخلية

وهنا ندرس بعض مواقف الإمام موسى الكاظم عليه السلام من جملة من التحدّيات الداخلية التي كان لها تأثير سلبي مباشر على المذهب، ومنها تحدّيات السلطة لمرجعية الإمام العلمية.

الموقف الاول: إنّ موقف الإمام الكاظم عليه السلام من أخيه عبد الله (الافطح) لم يكن موقفاً عدائياً سافراً رغم أنه ادّعى الإمامة لنفسه بعد أبيه. وهذا الادعاء الخطير يؤثر على الوجود الشيعي ومستقبله، فلم يكرّس عليه السلام كامل جهده وطاقاته لحلّ هذه المشكلة، ولم يسلك مساراً يضغط به من الخارج على الخصم، ولم يفرض على الصف الشيعي أن ينقسم الى فريقين الى أنصار وخصوم.

كما أنه عليه السلام لم يدخل الحرب النفسية ولا الكلامية وانما عالج هذا الشرخ الجديد بأسلوب هادئ، وكفيل بعلاج هذه الأزمة.

ويتضح ذلك مما يلي:
أوّلا: ترك للشيعة وعلمائها الحرية في أن تكتشف بنفسها كفاءة هذا المدّعي وعلميّته أو تكتشف غيرها من الطاقات فيما إذا كان يمتلكها، عن طريق الفحص المباشر، أو المقارنة بينه وبين الإمام موسى عليه السلام كما حدث مع مؤمن الطاق وهشام بن سالم الذين تقدم ذكرهما.

ثانياً: أبقى الإمام عليه السلام علاقته مع أخيه ودّية ولم يجعل من المشكلة سبباً للمقاطعة بدليل أنه دعاه للحضور في منزله كما تذكره الرواية التي سنذكرها بعد قليل.

ثالثاً: استخدم الإمام عليه السلام اسلوب المعجزة التي تميّزه عن عبد الله باعتباره عليه السلام اماماً مفترض الطاعة فقام عليه السلام باثبات ذلك أمام جمع من خواصّ الشيعة.

فقد قال المفضّل بن عمر: لمّا قضى الصادق عليه السلام كانت وصيّته في الإمامة الى موسى فادّعى أخوه عبد الله الإمامة وكان أكبر ولد جعفر في وقته ذلك هو المعروف بالافطح فأمر موسى عليه السلام بجمع حطب كثير فيوسط داره فأرسل الى أخيه عبدالله يسأله أن يصير إليه فلمّا صار عنده ومع موسى عليه السلام جماعة من وجوه الإمامية وجلس إليه أخوه عبدالله ، أمر موسى عليه السلام أن يجعل النار في ذلك الحطب كله فأحترق كله ولا يعلم الناس السبب فيه، حتى صارالحطب كله جمراً ثم قام موسى عليه السلام بثيابه في وسط النار وأقبل يحدّث الناس ساعة، ثم قام فنفض ثوبه ورجع الى المجلس، فقال لاخيه عبد الله: "ان كنت تزعم انك الإمام بعد أبيك فاجلس في ذلك المجلس"، فقالوا: رأينا عبد الله قد تغير لونه، فقام يجرّ رداءه حتى خرج من دار موسى عليه السلام.

والجدير بالذكر أن الطائفة التي اتبعته قد رجع أكثرهم بعد ذلك الى القول بإمامة أخيه "موسى الكاظم" لمّا تبيّنوا ضعف دعواه وقوّة رأي أبي الحسن "موسى الكاظم" ودلالة حقه، وبراهين امامته.

الموقف الثاني: موقف الإمام موسى عليه السلام من العناصر التي تصدّت للمرجعية العلمية والدينية، وأصبحت فيما بعد مرجعاً عاماً يُدعم من قبل السلطان ويحظى برعايته، ليجعل منهم أدوات طيّعة تبرّر له سلوكه وخلافته.

وانطلاقاً من ضرورة الحفاظ على الصيغ الاصيله ، ومخافة أن تتعرض الشريعة للتحريف بسبب الاتّجاهات والمناهج التي وجدت في مدرسة الخلفاء.

تصدّى الإمام موسى الكاظم عليه السلام لتلك المناهج والاتّجاهات وحاول أن يسلبها الصيغة الشرعية الزائفة التي كان يتمتع بها أصحابها حينما جعلوا في مواقع الفتيا في الدولة.

قال يونس بن عبد الرحمن: قلت: لأبي الحسن الأول (وهو الإمام الكاظم): بِمَ أُوحد الله ؟

فقال عليه السلام: "يا يونس لا تكونن مبتدعاً، من نظر برأيه هلك، ومن ترك أهل بيت نبيّه ضلّ، ومن ترك كتاب الله وقول نبيّه كفر.

وقال الإمام الكاظم في موضع آخر: "مالكم والقياس؟! إنمّا هلك من هلك من قبلكم بالقياس".

ولم يقتصر الإمام عليه السلام على إدانة هذا الاتّجاه فحسب وانما حاول أن يعرّف مواقع الخطأ والانحراف بشكل تفصيلي.

فعن محمد الرافعي أنه قال: كان لي ابن عم يقال له (الحسن بن عبدالله) وكان زاهداً وكان من أعبد أهل زمانه، وكان يلقاه السلطان، وربّما استقبله بالكلام الصعب يعظه ويأمر بالمعروف، وكان السلطان يحتمل له ذلك لصلاحه.

فلم يزل على هذه الحالة، حتى كان يوماً دخل أبو الحسن موسى عليه السلام المسجد فرآه فأدناه إليه، ثم قال له: "يا أبا علي، ما أحبّ اليّ ما أنت فيه وأسرّني بك، إلاّ انه ليست لك معرفة، فاذهب فاطلب المعرفة.

قال: جعلت فداك وما المعرفة؟

قال: اذهب وتفقّه واطلب الحديث.

قال: عمن ؟

قال: عن مالك بن أنس وعن فقهاء أهل المدينة، ثم اعرض الحديث عليّ.

قال: فذهب فتكلّم معهم، ثم جاءه فقرأه عليه فأسقطه كلّه".

الاتّجاه الرابع: الإمام الكاظم عليه السلام وتركيز القيادة الشرعية السياسيّة

ركّز الإمام موسى الكاظم عليه السلام على مسألة القيادة والولاية الشرعية المتمثّلة بالإمام المعصوم والموقف من القيادة السياسية المنحرفة، وتعريف الخواص بالإمامة والقيادة الحقة عبر أساليب تربويّة.

وفي هذا الاتجاه قام الإمام عليه السلام تعميقاً لهذا المعنى بعدة نشاطات:

النشاط الأوّل: في المجال الفكري

فقد عمق الإمام عليه السلام الاُسس والثوابت العقائدية والفكرية التي اسّس لها الأئمة (عليهم السلام) من قبله، والتي تشكّل تحصينات وقائية تطرد بدورها الفكر المضاد والدخيل الذي تعتمده الخلافة العباسية في نظرية الحكم والتي تحاول به الخلط بين ماهو أصيل ودخيل بهدف تضليل الاُمة بعد ما رفعت شعار الدعوة الى الرضيّ من آل محمّد.

لذا أعطى الإمام عليه السلام مقياساً واضحاً تميّز به الاُمّة وتطبقه على كل من يدّعي القيادة والخلافة الشرعية.

فعن أبي بصير عن أبي الحسن الماضي عليه السلام قال: دخلت عليه فقلت له: جعلت فداك بم يعرف الإمام؟ فقال:"بخصال: أمّا أوّلهن فشيء تقدم من أبيه فيه، وعرّفه الناس، ونصّبه لهم علماً، حتى يكون حجّة عليهم،لأن رسول الله نصّب علياً عليه السلام علماً وعرّفه الناس، وكذلك الأئمة يعرّفونهم الناس وينصبونهم لهم حتى يعرفوه، ويسأل فيجيب، ويسكت عنه فيبتدي، ويخبر الناس بما في غد، ويكلّم الناس بكلّ لسان".

وجاء عن أبي خالد الزبّالي أنه قال: "نزل أبو الحسن عليه السلام (موسى الكاظم) منزلنا في يوم شديد البرد في سنة مجدبة، ونحن لا نقدر على عود نستوقد به فقال: يا أبا خالد ائتنا بحطب نستوقد به.

قلت: والله ما أعرف في هذا الموضع عوداً واحداً.

فقال: كلاّ يا أبا خالد! ترى هذا الفجّ؟ خذ فيه فإنك تلقى أعرابياً معه حملان حطباً فاشترهما منه ولا تماسكه.

قال: فركبت حماري وانطلقت نحو الفجّ الذي وصف لي فإذا اعرابي معه حملان حطباً فاشتريتهما منه وأتيته بهما، فاستوقدوا منه يومهم ذلك. وأتيته بطرف ما عندنا فطعم منه.

ثم قال: يا أبا خالد! انظر خفاف الغلمان ونعالهم فأصلحها حتى نقدم عليك في شهر كذاوكذا.

قال أبو خالد: فكتبت تاريخ ذلك اليوم فركبت حماري في اليوم الموعود حتى جئت الى لزق ميل ونزلت فيه فإذا أنا براكب مقبل نحو القطار فقصدت إليه فإذا يهتف بي ويقول: يا أبا خالد!

قلت: لبيك جعلت فداك.

قال: أتراك وفيناك بما وعدناك؟ ثم قال: يا أبا خالد! ما فعلت بالقبتين اللتين كنا نزلنا فيهما؟

فقلت: جعلت فداك قد هيأتهما لك. وانطلقت معه حتى نزل في القبتين اللتين كان نزل فيهما.

ثم قال: ما حال خفاف الغلمان ونعالهم؟ قلت: قد أصلحناها فأتيته بهما. فقال عليه السلام: يا أبا خالد سلني حاجتك؟

فقلت: جعلت فداك أخبرك بماكنت فيه. كنت زيدي المذهب حتى قدمت عليّ وسألتني الحطب، وذكرت مجيئك في يوم كذا، فعلمت أنك الإمام الذي فرض الله طاعته.

فقال عليه السلام: يا أبا خالد من مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية وحوسب بما عمل في الإسلام.

النشاط الثاني: في المجال العملي

كان الإمام عليه السلام يحاسب شيعته واتباعه المتعاطفين مع الحكّام والولاة ولا يسمح لهم بالانخراط في دائرة الظالمين واعوان الظالمين إلاّ في موارد خاصة كان هو الذي يأمر بها ويشرف على سيرها وتصرّفاتها.

قال زياد بن أبي سلمة دخلت على أبي الحسن موسى عليه السلام فقال لي: يا زياد، انك لتعمل عمل السلطان ؟

قال: قلت أجل: قال لي: ولم؟!

قلت: أنا رجل لي مروّة وعليّ عيال وليس وراء ظهري شيء.

فقال لي: يا زياد لان أسقط من على حالق ( المكان الشاهق ) فأقطّع قطعة قطعة، أحب اليّ من أن أتولّى لاحد منهم عملا أو أطأ بساط رجل منهم، إلاّ، لماذا ؟

قلت: لا أدري جعلت فداك.

قال: إلاّ لتفريج كربة عن مؤمن، أو فكّ أسره، أو قضاء دينه.

يا زياد! إنّ أهون ما يصنع الله بمن تولّى لهم عملا أن يضرب عليه سرادقاً من نار الى أن يفرغ من حساب الخلائق.

يا زياد! فان وليت شيئاً من أعمالهم، فأحسن الى اخوانك، فواحدة بواحدة والله من وراء ذلك.

يا زياد! أيّما رجل منكم تولى لاحد منهم عملا، ثم ساوى بينكم وبينهم، فقولوا له: أنت منتحل كذاب.

يازياد! اذا ذكرت مقدرتك على الناس فاذكر مقدرة الله عليك غداً ونفاذ ما أتيت اليهم عنهم، وبقاء ما أتيت اليهم عليك".

ويأتي إخبار الإمام الكاظم عليه السلام باُمور مستقبليّة مثل إخباره بموت المنصور قبل تحقّقه وهو في أوج قدرته دليلاً عمليّاً وحسيّاً آخر على مبدأ إمامته، فضلاً عن ما يفرزه هذا الإخبار بالمستقبل من آمال بانفراج الأزمة التي كانت تتمثّل في عتوّ المنصور وجبروته.

الإمام موسى بن جعفر عليه السلام يخبر بموت المنصور

وأراد أبو جعفر المنصور الذهاب الى مكة وذلك قبيل وفاته فأخبر الإمام عليه السلام بعض خواص الشيعة بموته قبل أن يصل اليها. وفعلا مات قبل الوصول اليها كما أخبر به الإمام عليه السلام.

قال علي بن أبي حمزة: سمعت أبا الحسن موسى عليه السلام يقول: "لا والله لا يرى أبو جعفر بيت الله أبداً.

فقدمت الكوفة فأخبرت أصحابنا، فلم نلبث ان خرج فلمّا بلغ الكوفة قال لي أصحابنا في ذلك فقلت: لا والله لا يرى بيت الله أبداً.

فلما صار الى البستان اجتمعوا أيضاً اليَّ فقالوا: بقي بعد هذا شيء ؟ قلت: لا والله لا يرى بيت ا لله أبداً.

فلما نزل بئر ميمون أتيت أبا الحسن عليه السلام فوجدته في المحراب قد سجد فأطال السجود ثم رفع رأسه اليَّ فقال: اخرج فانظر ما يقول الناس. فخرجت فسمعت الواعية على أبي جعفر فأخبرته. قال: الله أكبر ما كان ليرى بيت الله أبداً".

وهكذا انتهت حياة المنصور العبّاسي واستولى على الحكم من بعده ابنه المهدي وذلك في سنة ( 158 هـ ) ، وبذلك بدأ عهد سياسي جديد له ملامحه وخصائصه. وسوف نرى مواقف الإمام الكاظم عليه السلام الرساليّة في هذا العهد الجديد.1

 


 1-  اعلام الهداية / سيرة الامام الكاظم عليه السلام.

2012-12-21