يتم التحميل...

اعتقالات الإمام عليه السلام حتى استشهاده

شهادة الإمام الكاظم(ع)

لسنا الآن بصدد التعرض الى تفاصيل أسباب سجن الإمام من قبل الرشيد. لأن سلوك الإمام وتأثيره في الاُمة كما عرفت كان كافياً لأن يدفع بالرشيد الذي لا يتبنى حكمه على اُصول مشروعة ليخطط لسجن الإمام عليه السلام وبالتالي اغتياله،

عدد الزوار: 62

التخطيط لسجن الإمام عليه السلام
لسنا الآن بصدد التعرض الى تفاصيل أسباب سجن الإمام من قبل الرشيد. لأن سلوك الإمام وتأثيره في الاُمة كما عرفت كان كافياً لأن يدفع بالرشيد الذي لا يتبنى حكمه على اُصول مشروعة ليخطط لسجن الإمام عليه السلام وبالتالي اغتياله، هذا فضلا عن كون الرشيد قد قطع على نفسه بداية تسلّمه للحكم بأن سوف يستأصل الوجود العلوي فإذا كان هذا شعاره أول الأمر مع كل العلويين فكيف بزعيم العلويين وقائدهم وسيدهم.

وينبغي أن نفرق بين الاسباب الواقعية وبين الاسباب التي كان يتذرع بها الرشيد لتبرير سلوكه العدائي مع الإمام عليه السلام.
لقد أصبح الإمام بعد عقد من حكم الرشيد وجوداً ثقيلا على هارون لقوة تأثيره في الاُمة واتساع الامتداد الشيعي حتى وجدناه يقدر المتطوعين في جيش الإمام بمائة ألف سيف. من هنا ضاق صدره وازعجه انتشار صيت الإمام لأن الناس غدت تتناقل مآثر الإمام وعلمه وأخلاقه.
وكانت حادثة زيارة هارون لقبر الرسول صلى الله عليه وآله ولقاء الإمام به بحيث أغضب الرشيد حتى قال بعدها مخاطباً الرسول صلى الله عليه وآله: "بأبي أنت واُمي إني أعتذر اليك من أمر عزمت عليه، انّي اُريد أن آخذ موسى بن جعفر فأحبسه لأني قد خشيت أن يلقي بين اُمتك حرباً يسفك بها دماءهم".

وكان للوشاة دورٌ سلبي ضد الإمام عليه السلام فلقد تحرك يحيى بن خالد قبل ذلك ليهيئ مقدمات الاعتقال للإمام فأغرى ابن أخ الإمام محمد بن اسماعيل أو علي بن اسماعيل لغرض الوشاية بالإمام.
لنلاحظ موقف الإمام السامي ازاء تصرف ابن أخيه الشنيع بعد أن استجاب محمد لاغراء يحيى والتقى بالطاغية في بغداد وطعن بالإمام عليه السلام بما يرغب به الرشيد.

عن علي بن جعفر بن محمد عليه السلام قال: جاءني محمد بن اسماعيل بن جعفر يسألني أن أسأل أبا الحسن موسى عليه السلام أن يأذن له في الخروج الى العراق وأن يرضى عنه، ويوصيه بوصية.
قال: فتنحيت حتى دخل المتوضأ وخرج وهو وقت يتهيأ لي أن أخلو به وأكلّمه.
قال: فلما خرج قلت له: إنّ ابن أخيك محمد بن اسماعيل سألك أن تأذن له بالخروج الى العراق، وأن توصيه، فأذن له عليه السلام.
فلمّا رجع الى مجلسه قام محمد بن اسماعيل وقال: يا عمّ أحب أن توصيني.
فقال عليه السلام: أوصيك أن تتقي الله في دمي.

فقال: لعن الله من يسعى في دمك ثم قال: يا عم أوصني فقال عليه السلام: أوصيك أن تتقي الله في دمي.
قال: ثمّ ناوله أبو الحسن صرة فيها مائة وخمسون ديناراً فقبضها محمد، ثم ناوله اُخرى فيها مائة وخمسون ديناراً فقبضها، ثم أعطاه صرة أُخرى فيها مائة وخمسون ديناراً فقبضها، ثم أمر له بألف وخمسمائة درهم كانت عنده.
فقلت له في ذلك، واستكثرته. فقال: هذا ليكون أوكد لحجتي إذا قطعني ووصلته.

قال: فخرج الى العراق، فلما ورد حضرة هارون أتى باب هارون بثياب طريقه من قبل أن ينزل، واستأذن على هارون، وقال للحاجب: قل لأمير المؤمنين انّ محمد بن اسماعيل بن جعفر بن محمد بالباب.
فقال الحاجب: انزل أولا وغيّر ثياب طريقك وعُد لادخلك عليه بغير إذن، فقد نام أمير المؤمنين في هذا الوقت. فقال: أعلم أمير المؤمنين أني حضرت ولم تأذن لي.

فدخل الحاجب وأعلم هارون قول محمد بن اسماعيل، فأمر بدخوله، فدخل وقال: يا أمير المؤمنين خليفتان في الأرض: موسى بن جعفر بالمدينة يُجبى له الخراج، وأنت بالعراق يُجبى لك الخراج؟! فقال: والله؟! فقال: والله!
قال: فأمر له بمائة ألف درهم فلما قبضها وحُمل الى منزله، أخذته الذبحة في جوف ليلته فمات، وحوّل من الغد المال الذي حُمل اليه.
هذه هي بعض الأساليب التي كان قد خطط لها يحيى بايعاز من الرشيد.
وأخيراً تم اعتقال الإمام عليه السلام بسرعة واخفاء وتعمية على الاُمة لئلا تعرف محل سجن الإمام عليه السلام.

اعتقال الإمام عليه السلام
وبعد زيارة الرشيد لقبر الرسول صلى الله عليه وآله ولقائه بالإمام عليه السلام أمر الطاغية هارون باعتقال الإمام عليه السلام وفعلا اُلقي القبض على الإمام وهو قائم يصلي عند رأس جدّه النبي صلى الله عليه وآله ولم يمهلوه لإتمامها.

فحمل وقيّد فشكى الإمام لجدّه الرسول صلى الله عليه وآله قائلا: "اليك أشكو يا رسول الله" وبعد اعتقال الإمام غدت الناس تتحدث فيما بينها باستنكار هذا الحدث المهم، فتألمت الاُمة كثيراً فلم يبق قلب الاّ وتصدّع من الأسى والحزن فخافت السلطات أن يكون اعتقال الإمام محفزاً للثورة عليها.فحمل جملين، واحداً الى البصرة والثاني الى الكوفة لغرض الايهام على الناس، أي: لئلاّ يعرف محل حمل الإمام في أيّهما.

الإمام عليه السلام في سجن البصرة:
كان المأمور بحراسة الإمام عليه السلام أثناء الطريق من المدينة الى البصرة حسان السروي وقبل أن يصل الى البصرة تشرّف بالمثول بين يديه عبدالله ابن مرحوم الازدي فدفع له الإمام كتباً وأمره بايصالها الى وليّ عهده الإمام الرضا وعرّفه بأنه الإمام من بعده وسارت القافلة تطوي البيداء حتى وصلت البصرة، وأخذ حسّان الإمام ودفعه الى عيسى بن أبي جعفر فحبسه في بيت من بيوت المحبس وأقفل عليه أبواب السجن فكان لا يفتحها الاّ في حالتين: احداهما في خروجه للطهور، والاُخرى لادخال الطعام له عليه السلام .

أمّا نشاطه عليه السلام في داخل السجن:
فلقد انقطع عليه السلام الى الله في عبادته فكان يصوم النهار ويقوم الليل وكان يقضي وقته في الصلاة والسجود والدعاء، ولم يضجر ولم يسأم من السجن واعتبر التفرّغ للعبادة من أعظم النعم، وكان يقول في دعائه:"اللهم انك تعلم اني كنت اسألك ان تفرغني لعبادتك، اللهم وقد فعلت فلك الحمد.ولمّا شاع خبر اعتقال الإمام في البصرة وعلم الناس بمكانه هبّت اليه العلماء وغيرهم لغرض الاتّصال به من طريق خفيّ فاتصل به ياسين الزيات الضرير البصري وروى عنه.

الايعاز لعيسى باغتيال الإمام عليه السلام
وأوعز الرشيد الى عيسى يطلب منه فوراً القيام باغتيال الإمام لكن لمّا وصلت أوامر الرشيد لعيسى باغتيال الإمام عليه السلام ثقل عليه الأمر، وجمع خواصّه وثقته فعرض عليهم الأمر فأشاروا عليه بالتحذير من ارتكاب الجريمة فاستصوب رأيهم، وكتب الى الرشيد رسالة يطلب فيها اعفاءه عن ذلك.

حمل الإمام عليه السلام الى بغداد
واستجاب الرشيد لطلب عيسى وخاف من عدم تنفيذه لطلبه أن يساهم في اطلاق سراح الإمام عليه السلام ويخلّي سبيله، فأمره بحمله الى بغداد وفرح عيسى بذلك، ولمّا وصل الإمام الى بغداد أمر الرشيد باعتقاله عند الفضل فأخذه وحبسه في بيته.
وأشرف هارون على سجن الإمام عليه السلام إذ كان يتوجّس في نفسه الخوف من الإمام عليه السلام فلم يثق بالعيون التي وضعها عليه في سجنه فكان يراقبه ويتطلّع على شؤونه خوفاً من أن يتصل به أحداً ويكون الفضل قد رفّه عليه، فأطلّ من أعلى القصر على السجن فرأى ثوباً مطروحاً في مكان خاص لم يتغيّر عن موضعه.

فقال للفضل: ماذاك الثوب الذي أراه كل يوم في ذلك الموضع؟!
فقال الفضل: يا أمير المؤمنين، وما ذاك بثوب، وانّما هو موسى بن جعفر له في كل يوم سجدة بعد طلوع الشمس الى وقت الزوال، فانبهر هارون وقال: أما إنّ هذا من رهبان بني هاشم !
والتفت اليه الربيع بعد ما سمع منه اعترافه بعبادة وزهد الإمام قائلا له:
يا أمير المؤمنين مالك قد ضيقت عليه في الحبس؟!! فأجابه هارون قائلا: هيهات، لابد من ذلك.

دعاء الإمام عليه السلام واطلاق سراحه
ولمّا طالت مدة الحبس على الإمام عليه السلام وهو رهين السجون، قام في غلس الليل البهيم فجدّد طهوره وصلى لربه أربع ركعات وأخذ يدعو بهذا الدعاء:"يا سيدي: نجّني من حبس هارون، وخلّصني من يده، يا مخلّص الشجر من بين رمل وطين، ويا مخلّص النار من بين الحديد والحجر، ويا مخلص اللبن من بين فرث ودم، ويامخلّص الولد من بين مشيمة ورحم، ويامخلّص الروح من بيت الاحشاء والامعاء، خلصني من يد هارون".

واستجاب الله دعاء العبد الصالح فأنقذه من سجن الطاغية هارون وأطلقه في غلس الليل.
لقد مكث الإمام عليه السلام في سجن الفضل مدة طويلة من الزمن لم يعيّنها لنا التأريخ.
وبقي عليه السلام بعد إطلاق سراحه في بغداد لم يخرج منها الى يثرب وكان يدخل على الرشيد في كل اسبوع مرة يوم الخميس.

الاعتقال الثاني للإمام عليه السلام
ولمّا شاع ذكر الإمام عليه السلام وانتشرت فضائله ومآثره في بغداد، ضاق الرشيد من ذلك ذرعاً، وخاف منه فاعتقله ثانية فاودعه في بيت الفضل بن يحيى.ولمارأى الفضل عبادة الإمام عليه السلام واقباله على الله وانشغاله بذكره أكبر الإمام، ولم يضيّق عليه وكان في كل يوم يبعث اليه بمائدة فاخرة من الطعام، وقد رأى عليه السلام من السعة في سجن الفضل ما لم يرها في بقية السجون.
ولمّا أوعز الرشيد للفضل باغتيال الإمام عليه السلام امتنع ولم يجبه الى ذلك وخاف من الله لأنه كان ممّن يذهب الى الإمامة ويدين بها، وهذا هو الذي سبب تنكيل الرشيد بالفضل واتهام البرامكة بالتشيع.

الإمام عليه السلام في سجن السّندي بن شاهك
وبعد سجن الفضل أمر هارون بنقل الإمام عليه السلام الى سجن السندي بن شاهك وأمره بالتضييق عليه فاستجاب هذا الاثيم لذلك فقابل الإمام عليه السلام بكل جفوة وقسوة، والإمام صابر محتسب فأمره الطاغية أن يقيّد الإمام عليه السلام بثلاثين رطلا من الحديد ويقفل الباب فيوجهه ولا يدعه يخرج الاّ للوضوء.

وامتثل السندي لذلك فقام بإرهاق الإمام عليه السلام وبذل جميع جهوده للتضييق عليه، ووكّل بشّاراً مولاه، وكان من أشد الناس بغضاً لآل أبي طالب ولكنه لم يلبث أن تغير حاله وآب الى طريق الحق; وذلك لما رآه من كرامات الإمام عليه السلام ومعاجزه، وقام ببعض الخدمات له.

نشاط الإمام عليه السلام داخل السّجن
وقام الإمام بنشاط متميّز من داخل السجن، وفيما يلي نلخّص ذلك ضمن عدة نقاط:
1 ـ عبادته داخل السّجن:
أقبل الإمام كما قلنا على عبادة الله تعالى فكان يصوم النهار ويقوم الليل ولا يفتر عن ذكر الله.
وهذه اُخت الجلاّد السندي بن شاهك تحدّثنا عمّا رأته من اقبال الإمام وطاعته لله والتي أثّرت في نفسها وأصبحت فيما بعد من الصالحات فكانت تعطف على الإمام عليه السلام وتقوم بخدمته وإذا نظرت اليه أرسلت ما في عينيها من دموع وهي تقول: خاب قوم تعرضوا لهذا الرجل.

2 ـ اتّصال العلماء به:
واتّصل جماعة من العلماء والرواة بالإمام عليه السلام من طريق خفي فانتهلوا من نمير علومه فمنهم موسى بن إبراهيم المروزي، وقد سمح له السندي بذلك لأنّه كان معلّماً لولده، وقد ألّف موسى بن إبراهيم كتاباً مما سمعه من الإمام.

3 - إرسال الاستفتاءات إليه:
وكانت بعض الأقاليم الإسلامية التي تدين بالإمامة ترسل عنها مبعوثاً خاصاً للإمام عليه السلام حينما كان في سجن السندي، فتزوده بالرسائل فكان عليه السلام يجيبهم عنها، وممن جاءه هناك علي بن سويد، فقد اتّصل بالإمام عليه السلام وسلّم إليه الكتب فأجابه عليه السلام.

4 ـ نصب الوكلاء:
وعيّن الإمام عليه السلام جماعة من تلامذته وأصحابه، فجعلهم وكلاء له في بعض البلاد الإسلامية، وأرجع إليهم شيعته لأخذ الأحكام الإسلامية منهم، كما وكّلهم في قبض الحقوق الشرعية، لصرفها على الفقراء والبائسين من الشيعة وانفاقها فيوجوه البر والخير، فقد نصب المفضل بن عمر وكيلا له في قبض الحقوق وأذن له في صرفها على مستحقيها.

ومن هنا بدأت ظاهرة الوكالة في تخطيط أهل البيت عليهم السلام  لإدارة الجماعة الصالحة وتطوّرت فيما بعد بمرور الزمن. كما سوف نلاحظ ذلك في حياة الإمام الجواد والهادي والعسكري والإمام المهدي عليهم السلام .

5 ـ تعيينه لولي عهده:
ونصب الإمام عليه السلام من بعده ولده الإمام الرضا عليه السلام فجعله علماً لشيعته ومرجعاً لاُمة جدّه، فقد حدّث الحسين بن المختار، قال: لمّا كان الإمام موسى عليه السلام في السجن خرجت لنا ألواح من عنده وقد كتب فيها "عهدي الى أكبر ولدي".

6 ـ وصيته عليه السلام :
وأوصى الإمام عليه السلام ولده الإمام الرضا عليه السلام وعهد إليه بالأمر من بعده على صدقاته ونيابته عنه في شؤونه الخاصة والعامة وقد أشهد عليها جماعة من المؤمنين وقبل أن يدلي بها ويسجّلها أمر باحضار الشهود.

7 ـ صلابة الإمام وشموخه أمام ضغوط الرّشيد:
وبعد ما مكث الإمام عليه السلام زمناً طويلا في سجن هارون تكلّم معه جماعة من خواصّ شيعته فطلبوا منه أن يتكلم مع بعض الشخصيات المقرّبة عند الرشيد ليتوسط في اطلاق سراحه، فامتنع عليه السلام وترفّع عن ذلك وقال لهم: حدثني أبي عن آبائه أن الله عزّ وجلّ أوحى الى داود، يا داود إنه ما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي دوني، وعرفت ذلك منه الاّ قطعت عنه أسباب السماء، وأسخت الأرض من تحته.

الإمام الكاظم عليه السلام يتحدّى كبرياء هارون
لقد تنوعت ضغوط هارون على الإمام هو في السجن، ونجد الإمام عليه السلام وهو في أوج المحنة يتحدّى كبرياء هارون بكل صلابة وشدّة حتى فشل هارون بكل ما اُوتي من حول وقوّة ولم يجد أمامه حلاًّ ينسجم مع نزعاته إلاّ سمّ الإمام عليه السلام واغتياله.

وإليك جملة من ضغوط هارون على الإمام الكاظم عليه السلام وهو في السجن:
1 ـ إرسال جارية له
"أنفذ هارون الى الإمام عليه السلام جارية وضّاءة بارعة في الجمال والحسن، أرسلها بيد أحد خواصّه لتتولى خدمة الإمام ظانّاً أنه سيفتتن بها، فلما وصلت إليه قال عليه السلام لمبعوث هارون:قل لهارون: بل أنتم بهديتكم تفرحون، لا حاجة لي في هذه ولا في أمثالها.
فرجع الرسول ومعه الجارية وأبلغ هارون قول الإمام عليه السلام فالتاع غضباً وقال له:ارجع إليه، وقل له: ليس برضاك حبسناك ولا برضاك أخدمناك واترك الجارية عنده، وانصرف.

فرجع ذلك الشخص وترك الجارية عند الإمام عليه السلام وأبلغه بمقالته.
وأنفذ هارون خادماً له الى السجن ليتفحص عن حال الجارية، فلما انتهى إليها رآها ساجدة لربّها لا ترفع رأسها وهي تقول في سجودها: قدوس، قدوس.فمضى الخادم مسرعاً فأخبره بحالها فقال هارون: سحرها والله موسى ابن جعفر، عليّ بها.
فجيئ بها إليه، وهي ترتعد قد شخصت ببصرها نحو السماء وهي تذكر الله وتمجّده، فقال لها هارون:ما شأنك؟!
قالت: شأني الشأن البديع، إني كنت عنده واقفة وهو قائم يصلّي ليله ونهاره، فلمّا انصرف من صلاته قلت له: هل لك حاجة أُعطيكها؟
فقال الإمام عليه السلام: وما حاجتي إليك؟
قلت: إني اُدخلت عليك لحوائجك.

فقال الإمام عليه السلام: فما بال هؤلاء - واشار بيده الى جهة- فالتفتُّ فاذا روضة مزهرة لا أبلغ آخرها من أولها بنظري، ولا أولها من آخرها، فيها مجالس مفروشة بالوشي والديباج، وعليها وصفاء ووصايف لم أر مثل وجوههنّ حسناً، ولا مثل لباسهنّ لباساً، عليهن الحرير الأخضر، والاكاليل والدر والياقوت، وفي أيديهن الاباربق والمناديل، ومن كل الطعام، فخررت ساجدة حتى أقامني هذا الخادم، فرأيت نفسي حيث كنت.

فقال لها هارون وقد اترعت نفسه بالحقد:يا خبيثة لعلّك سجدت، فنمت فرأيت هذا في منامك!
قالت لا والله يا سيدي، رأيت هذا قبل سجودي، فسجدت من أجل ذلك.
فالتفت الرشيد الى خادمه، وأمره باعتقالها واخفاء الحادث لئلاّ يسمعه أحد من الناس، فأخذها الخادم، واعتقلها عنده، فأقبلت على العبادة والصلاة، فاذا سئلت عن ذلك قالت: هكذا رأيت العبد الصالح".

2 ـ محاولة سم الإمام عليه السلام
ولم يتحمل الرشيد سماعه لمناقب الإمام ومآثره وانتشارها بين الناس فعزم على قتله، فدعا برطب وأخذ رطبة من ذلك الرطب المهيّأ له، فوضع فيها سماً، وقال لخادمه احمله الى موسى بن جعفر وقل له:إنّ أمير المؤمنين أكل من هذا الرطب ويقسم عليك بحقه لمّا أكلته عن آخره فاني اخترته لك بيدي ولا تتركه يبقي شيئاً ولا يطعم منه أحداً.

فحمل الخادم الرطب وجاء به الى الإمام عليه السلام وأبلغه برسالة هارون فأخذ الإمام يأكل من الرطب وكانت للرشيد كلبة عزيزة عنده، فجذبت نفسها وخرجت تجرّ بسلاسلها الذهبية حتى حاذت الإمام عليه السلام فبادر بالخلال الى الرطبة المسمومة ورمى بها الى الكلبة فأكلتها فلم تلبث أن ضربت بنفسها الأرض وماتت، واستوفى الإمام باقي الرطب وباء مخطط الرشيد بالفشل والخيبة فلم تنجح محاولته في اغتيال الإمام عليه السلام فأنقذه الله منه وصرف عنه السوء.

3 ـ توسط لإطلاق سراحه
واستدعى الرشيد وزيره يحيى بن خالد فقال له:يا أبا علي أما ترى مانحن فيه من هذه العجائب؟ ألا تدبّر في أمر هذا الرجل تدبيراً تريحنا من غمّه؟
فأشار عليه بالصواب وأرشده الى الخير فقال له:الذي أراه لك يا أمير المؤمنين إن تمنن عليه وتصل رحمه فقد والله أفسد علينا قلوب شيعتنا وكان يحيى يتولاّه وهارون لا يعلم ذلك.

فاستجاب الرشيد لنصحه وقال له:انطلق إليه وأطلق عنه الحديد وأبلغه عني السلام وقل له: يقول لك ابن عمّك:إنه قد سبق مني فيك يمين أني لا أخليك حتى تقرّ لي بالإساءة وتسألني العفو عمّا سلف منك وليس عليك في اقرارك عار ولا في مسألتك إيّاي منقصة، وهذا يحيى بن خالد ثقتي و وزيري وصاحب أمري فاسأله بقدر ما أخرج من يميني. وانصرف راشداً.

ولم يخف على الإمام ذلك لأنه يريد أن يأخذ من الإمام عليه السلام اعترافاً بالإساءة ليتخذها وسيلة الى التشهير به ومبرّراً لسجنه له.
فلما مثل يحيى عنده وأخبره بمقالة الرشيد.

فقال له الإمام عليه السلام: "أولا سيجري عليك أنت واسرتك من زوال النعمة على يد هارون، وحذّره من بطشه" ثم ردّ ثانياً على مقالة الرشيد قائلا:"يا أبا علي، أبلغه عنّي: يقول لك موسى بن جعفر: يأتيك رسولي يوم الجمعة فيخبرك بما ترى -أي بموته- وستعلم غداً إذا جاثيتك بين يدي الله من الظالم والمعتدي على صاحبه والسلام".

4 ـ رسالة الإمام موسى الكاظم عليه السلام لهارون:
وكتب الإمام موسى الكاظم عليه السلام رسالة من داخل السجن لهارون جواباً منه عليه السلام لمحاولات هارون الفاشلة بالاغراء أو التنكيل بالإمام بأنها لا تقدم ولا تؤخر شيئاً.عن محمد بن اسماعيل قال: بعث موسى بن جعفر عليه السلام الى الرشيد من الحبس رسالة كانت: "انه لن ينقضي عني يوم من البلاء إلاّ انقضى عنك معه يوم من الرخاء، حتى نقضي جميعاً الى يوم ليس له انقضاء يخسر فيه المبطلون".

اغتيال الإمام موسى الكاظم عليه السلام
لقد عانى الإمام الكاظم عليه السلام أقسى ألوان الخطوب والتنكيل، فتكبيل بالقيود، وتضييق شديد في التعامل معه ومنعه من الاتصال بالناس، وأذى مرهق، وبعد ما صبّ الرشيد عليه جميع أنواع الأذى أقدم على قتله بشكل لم يسبق له نظير محاولا التخلص من مسؤولية قتله وذهب أكثر المؤرخين والمترجمين للإمام الى أن الرشيد أوعز الى السندي بن شاهك الأثيم بقتل الإمام عليه السلام فاستجابت نفسه الخبيثة لذلك وأقدم على تنفيذ أفضع جريمة في الإسلام فاغتال حفيد النبي العظيم صلى الله عليه وآله.

فعمد السندي الى رطب فوضع فيه سماً فاتكاً وقدّمه للإمام فأكل منه عشر رطبات فقال له السندي "زد على ذلك" فرمقه الإمام بطرفه وقال له: "حسبك قد بلغت ما تحتاج اليه".

ولمّا تناول الإمام تلك الرطبات المسمومة تسمّم بدنه وأخذ يعاني آلاماً شديدة واوجاعاً قاسية، قد حفت به الشرطة القساة ولازمه السندي بن شاهك الخبيث فكان يسمعه في كل مرة أخشن الكلام وأغلظه ومنع عنه جميع الاسعافات ليعجل له النهاية المحتومة.

وفي الاثناء استدعى السندي بعض الشخصيات والوجوه المعروفة في قاعة السجن، وكانوا ثمانين شخصاً كما حدّث بذلك بعض شيوخ العامة ـ حيث يقول: أحضرنا السندي فلما حضرنا انبرى إلينا فقال:انظروا الى هذا الرجل هل حدث به حدث؟ فإنّ الناس يزعمون أنّه قد فُعل به مكروه، ويكثرون من ذلك، وهذا منزله وفراشه موسّع عليه غير مضيّق، ولم يرد به أمير المؤمنين ـ يعني هارون ـ سوءاً وإنما ينتظره أن يقدم فيناظره، وها هو ذا موسّع عليه في جميع اُموره فاسألوه.

يقول الراوي: ولم يكن لنا همّ سوى مشاهدة الإمام عليه السلام ومقابلته فلما دنونا منه لم نر مثله قطّ في فضله ونسكه فانبرى إلينا وقال لنا:"أما ما ذكر من التوسعة، وما أشبه ذلك، فهو على ما ذكر،غير أني أُخبركم أيها النفر أني قد سقيت السمّ في تسع تمرات، واني اصفر غداً وبعد غد أموت".

ولمّا سمع السندي ذلك انهارت قواه واضطرب مثل السعفة التي تلعب بها الرياح العاصفة فقد أفسد عليه ما رامه من الحصول على البراءة من المسؤولية في قتله.

إلى الرفيق الأعلى
وبعد أكله للرطب سرى السمّ في جميع أجزاء بدن الإمام عليه السلام وقد علم أنّ لقاءه بربّه قد حان فاستدعى السندي. "فلمّا مثل عنده أمره أن يحضر مولى له ينزل عند دار العباس بن محمد في مشرعة القصب ليتولى غسله، وسأله السندي أن يأذن له في تكفينه فأبى وقال عليه السلام:إنّا أهل بيت مهور نسائنا وحجّ صرورتنا وأكفان موتانا من طاهر أموالنا، وعندي كفني.

واُحضر له السندي مولاه، وثقل حال الإمام عليه السلام، وأشرف على النهاية المحتومة، فأخذ يعاني آلام الموت فاستدعى المسيب بن زهرة فقال له:إني على ما عرّفتك من الرحيل الى الله عزّ وجلّ فإذا دعوت بشربة من ماء فشربتها ورأيتني قد انتفخت، واصفرّ لوني واحمرّ واخضرّ وتلوّن ألواناً فاخبر الطاغية بوفاتي.

قال المسيب: فلم أزل أراقب وعده حتى دعا عليه السلام بشربة فشربها ثم استدعاني، فقال لي:يا مسيب، إنّ هذا الرجس السندي بن شاهك سيزعم أنه يتولى غسلي ودفني. وهيهات هيهات أن يكون ذلك أبداً.

فإذا حملت الى المقبرة المعروفة بمقابر قريش فالحدوني بها، ولا ترفعوا قبري فوق أربعة أصابع مفرّجات، ولا تأخذوا من تربتي شيئاً لتتبركوا به فإنّ كل تربة لنا محرمة إلاّ تربة جدّي الحسين بن علي فإنّ الله عز وجل جعلها شفاءاً لشيعتنا وأوليائنا.

قال المسيب: ثم رأيت شخصاً أشبه الاشخاص به جالساً الى جانبه، وكان عهدي بسيدي الرضا عليه السلام وهو غلام، فأردت أن أسأله، فصاح بي سيدي موسى، وقال: أليس قد نهيتك؟
ثمّ إنّ ذلك الشخص قد غاب عني، فجئت الى الإمام وإذا به جثّة هامدة قد فارق الحياة فأنهيت الخبر الى الرشيد بوفاته".
لقد لحق الإمام بالرفيق الأعلى وفاضت نفسه الزكية الى بارئها فاُظلمّت الدنيا لفقده وأشرقت الآخرة بقدومه، وقد خسر الإسلام والمسلمون ألمع شخصية كانت تذبّ عن كيان إلاسلام، وتنافح عن كلمة التوحيد وتطالب بحقوق المسلمين وتشجب كل اعتداء غادر عليهم.
فسلام عليك يا بن رسول الله،يوم ولدت، ويوم استشهدت، ويوم تبعث حياً.

والمشهور أن وفاة الإمام عليه السلام كانت سنة ( 183 هـ ) لخمس بقين من شهر رجب وقيل سنة ( 186 هـ ).
وكانت وفاته في يوم الجمعة وعمره الشريف كان يوم استشهاده خمساً وخمسين سنة أو أربعاً وخمسين سنة.

التّحقيق في قتل الإمام عليه السلام
بعد قتل الإمام عليه السلام حاول هارون أن يتخلّى عن مسؤولية قتله للإمام وأشاع بين الناس بأن الإمام قد مات حتف أنفه، وأنّ هارون وأجهزته لا علاقة لهما بالحادث وذلك ضمن خطوتين:
الخطوة الاُولى:
قام السندي بن شاهك بالخطوة الاُولى من مسلسل التخلي ليمهّد الأجواء لسيده هارون في أن يتخلّى فيما بعد بنفسه عن مسؤولية هذه الجريمة.
يحدثنا عمربنواقد عن تحرك السندي وكيفية تنصّله عن الحادث،قال: أرسل إليَّ السندي بن شاهك في بعض الليل وأنا ببغداد يستحضرني، فخشيت أن يكون ذلك لسوء يريده بي، فأوصيت عيالي بما احتجت إليه، وقلت: إنّا لله وانّا اليه راجعون، ثم ركبت اليه.
فلما رآني مقبلا، قال: يا أبا حفص لعلّنا أرعبناك وأفزعناك؟

قلت: نعم قال: فليس هناك إلاّ خير.
قلت: فرسول تبعثه الى منزلي يخبرهم خبري. فقال نعم.
ثم قال: يا أبا حفص أتدري لم أرسلت إليك؟ فقلت: لا.
فقال: أتعرف موسى بن جعفر؟ فقلت إي والله، اني لأعرفه، وبيني وبينه صداقة منذ دهر.
فقال: من هاهنا ببغداد يعرفه ممن يُقبل قوله؟ فسميت، وجاء بهم كما جاء بي، فقال: هل تعرفون قوماً يعرفون موسى بن جعفر؟
فسموا له قوماً، فجاء بهم، فاصبحنا ونحن في الدار نيفاً وخمسين رجلا ممن يعرفون موسى بن جعفر عليه السلام قد صحبه.

قال: ثم قام فدخل وصلينا، فاخرج كاتبه طوماراً، فكتب أسماءنا ومنازلنا وأعمالنا وحِلالنا، ثم دخل إليه السندي.
قال: فخرج السندي فضرب يده إليَّ فقال: قم يا أبا حفص فنهضت ونهض أصحابنا ودخلنا.
فقال لي: يا أبا حفص اكشف الثوب عن وجه موسى بن جعفر فكشفته فرأيته ميتاً، فبكيت واسترجعت.
ثم قال للقوم: انظروا إليه فدناواحد بعد واحد فنظروا إليه.

ثم قال: تشهدون كلّكم أنّ هذا موسى بن جعفر بن محمد؟ فقلنا: نعم، نشهد أنه موسى بن جعفر بن محمد.
ثم قال: يا غلام اطرح على عورته منديلا واكشفه، قال: ففعل.
فقال: أترون به أثراً تنكرونه؟ فقلنا: لا، ما نرى شيئاً ولا نراه إلاّ ميتاً.
ثم سجّل شهادتهم وانصرفوا.

الخطوة الثّانية:
وفي الخطوة الثانية قام هارون بنفسه ليعلن أمام حشد من وجوه الشيعة بأنه بريء من جريمة قتل الإمام.
عن محمد بن صدفة العنبري، قال: لمّا توفي أبو ابراهيم موسى ابن جعفر عليه السلام جمع هارون الرشيد شيوخ الطالبيّة وبنى العباس وسائر أهل المملكة والحكّام واحضر أبا ابراهيم موسى بن جعفر عليه السلام فقال: هذا موسى ابن جعفر قد مات حتف انفه، وما كان بيني وبينه ما استغفر الله منه في أمره ـ يعني في قتله ـ فانظروا إليه.
فدخل عليه سبعون رجلا من شيعته، فنظروا الى موسى بن جعفر وليس به أثر جراحة ولا خنق، وكان في رجله أثر الحناء.

وضع الإمام على الجسر
وحسب الأوامرالمعدّة سلفاً من قبل هارون كما تدل عليها القرائن، لاجل أن يتنصل عن قتله للإمام، ليس أمام الشيعة فحسب وإنما أمام الاُمة الإسلامية كلّها، وأن تكون طريقة التخلّي من مسؤولية الحادث بأن يستبطن أن المقتول ما هو إلاّ رجل عادي لا وزن له، فعلام هذا التضخيم والتهويل والتشكيك بموته؟

فتخطّى السندي بن شاهك بالاُسلوب التالي: حيث وضع الإمام على جسر الرصافة وهو ميت ينظر إليه القريب والبعيد وتتفرّج عليه المارّة قد أحاطت بجثمانه المقدّس شرطة الطاغية القاتل وكشفت وجهه للناس قاصدين بذلك انتهاك حرمته عليه السلام والحط من كرامته والتشهير به.

وقد أمر السندي جلاوزته أن ينادوا على جثمان الإمام بذلك النداء المؤلم الذي تذهب النفوس لهوله أسى وحسرة: "هذا إمام الرافضة فاعرفوه" هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنه لايموت فانظروا إليه ميتاً.

متى قالت الشيعة إنّ الإمام موسى لا يموت؟
نعم قالت الواقفية بذلك والشيعة منهم براء وهارون وجلاوزته أعلم من غيرهم بهذه الحقيقة. لكنه وسيلة من وسائل التشهير وإلصاق التهم بالشيعة بسبب أن الواقفية تذهب الى أن الإمام موسى حي لم يمت وأنه رفع الى السماء كما رفع المسيح عيسى بن مريم.
بهذا الاُسلوب حاولت الاجهزة الحاكمة أن تنسب هذا الرأي للشيعة ظلماً، وتبرر الإهانة والاذلال وقد لُحق النداء المذكور بهذا المقطع: ألا من أراد أن يرى الخبيث بن الخبيث موسى بن جعفر فليخرج.

وقد حاول هارون بهذا الاُسلوب ـ بالإضافة الى احتقار الشيعة واذلالهم ـ الوقوف على العناصر الفعّالة منهم والتعرف على مدى نشاطها وحماسها، عن طريق هذا الاستفزاز الصارخ والاعتداء على كرامة الإمام عليه السلام أمامها كأسلوب ماكر للتخلّص من خطرهم ليساقوا بعد ذلك للسجون والقبور.يقول الشيخ باقر القرشي: وأكبر الظن أنّ الشيعة قد عرفت هذا القصد، فلذا لم تقم بأيّ عمل إيجابي ضده.

مبادرة سليمان
كان سليمان بن أبي جعفر المنصور رجلا محنّكاً وذا عقل متزن. وقد رأى أنّ الاعمال التي قام بها هارون ما هي إلاّ لطخة سوداء في جبين العباسيين; فإنّ هارون لم يكتف باغتيال الإمام ودسّ السمّ إليه بل ارتكب جملة من الأعمال الوحشية التي تدل على أنه لا عهد له بالشرف والنبل والمعروف والإنسانية من هنا بادر سليمان ـ حين سمع نبأ اخراج جنازة الإمام الى الجسر والنداء الفظيع على جثمانه الطاهر ـ وحاول أن يتلافى الموقف بالتي هي أحسن.

إنّ قصر سليمان كان مطلاًّ على نهر دجلة وحين سمع النداء والضوضاء ورأى بغداد قد اضطربت، قال لولده وغلمانه: ما هذا؟
قالوا: السندي بن شاهك ينادي على موسى بن جعفر، وأخبروه بذلك النداء الفظيع.

فصاح بولده قائلا: انزلوا مع غلمانكم فخذوه من أيديهم فان مانعوكم فأضربوهم، وخرقوا ما عليهم من سواد ـ وهو لباس الشرطة والجيش.
وانطلق أبناء سليمان وغلمانه الى الشرطة فأخذوا جثمان الإمام منهم، ولم تبد الشرطة معهم أية معارضة، فسليمان عم الخليفة وأهم شخصية لامعة في الاُسرة العبّاسية وأمره مطاع عند الجميع، وحمل الغلمان نعش الإمام عليه السلام فجاءوا به الى سليمان فأمر في الوقت أن ينادى في شوارع بغداد:ألا من أراد أن يحضر جنازة الطيب بن الطيب موسى بن جعفر فليحضر.

وأكبر الظن أن سليمان خاف من انتفاضة شعبية أو تمرّد عسكري لأن الشيعة لم تكن قلة في ذلك العصر فقد اعتنق التشيع خلق كثير من رجال الدولة وقادة الجيش وكبار الموظفين والكتّاب لذا تدارك سليمان الموقف وقام بهذه المهمّة وأنقذ حكومة هارون من الاضطراب والثورة.
وخرج الناس على اختلاف طبقاتهم لتشييع جثمان الإمام وخرجت الشيعة فعبّرت عن حزنها وأساها بعد هذا التشييع الكبير.

تجهيز الإمام عليه السلام
وقام سليمان بتجهيز الإمام فغسّله، وكفّنه، ولفّه بحبرة قد كتب عليها القرآن الكريم بأسره كلّفته الفين وخمسمائة دينار.
وقال المسيب بن زهرة: والله لقد رأيت القوم بعيني وهم يظنون أنهم يغسلونه فلا تصل أيديهم إليه ويظنون أنهم يحنّطونه ويكفّنونه وأراهم أنهم لا يصنعون شيئاً، ورأيت ذلك الشخص الذي حضر وفاته ـ وهو الإمام الرضا عليه السلام ـ هو الذي يتولّى غسله وتحنيطه وتكفينه، وهو يظهر المعاونة لهم، وهم لا يعرفونه فلما فرغ من أمره إلتفت إليَّ فقال عليه السلام:"يا مسيّب مهما شككت في شيء فلا تشكنّ فيّ، فإني إمامك ومولاك وحجة الله عليك بعد أبي.يا مسيب مثلي مثل يوسف الصديق ومثلهم مثل إخوته حين دخلواعليه وهم له منكرون وبعد انتهاء الغسل حُمل الإمام الى مرقده".

تشييع الإمام عليه السلام ودفنه
وبعد الغسل هرعت جماهير بغداد الى تشييع الإمام فكان يوماً مشهوداً لم تر مثله في أيّامها فقد خرج البر والفاجر لتشييع جثمان الإمام عليه السلام والفوز بحمل جثمانه، وسارت المواكب وهي تجوب شوارع بغداد وتردد أهازيج الحزن واللوعة، متّجهة نحو باب التبن يتقدمهم سليمان حافياً حاسراً متسلّباً مشقوق الجيب الى مقابر قريش، وحفر له قبر فيها وأنزله سليمان بن أبي جعفر.
وبعد الفراغ من الدفن أقبلت الناس تعزّيه بالمصاب الأليم1.


1-موسوعة اعلام الهداية سيرة الامام الكاظم

2012-12-21