يتم التحميل...

الأصل الكريم

ولادة الإمام المجتبى(ع)

في ليلة النصف من رمضان. كان بيت الرسالة يستقبل وليده الحبيب، وقد كان ينتظره طويلا.. واستقبله كما تستقبل الزهرة النضرة قطرة شفافة من الندى بعد العطش الطويل.

عدد الزوار: 252

ولادته ونشأته

1- النبي في رحلة:
في ليلة النصف من رمضان. كان بيت الرسالة يستقبل وليده الحبيب، وقد كان ينتظره طويلا.. واستقبله كما تستقبل الزهرة النضرة قطرة شفافة من الندى بعد العطش الطويل.

والوليـــد يتشابه كثيراً وجدَّه الرسول العظيم، ولكنّ جدَّه لم يكن شاهَد ميلاده حتى تُحمل إليه البشرى. فقد كان في رحلة سوف يرجع منها قريباً.
وكان أفراد الأسرة ينتظرون باشتياق، ولا يتحفون الوليد بسنن الولادة، حتى إذا جاء الرسول صلى الله عليه واله وسلم أسرع إلى بيت فاطمة عليه السلام على عادته في كل مرة عندما كان يدخل المدينة بعد رحلة. وعندما أتاه نبأ الوليد غَمَره الْبُشر، ثم استدعاه. حتى إذا تناوله أخذ يشمّه ويقبّله ويؤذِّن له ويُقيم، ويأمر بخرقة بيضاء يلف بها الوليد، بعدما ينهى عن الثوب الأصفر.

ثم ينتظر السماء هل فيها للوليد شيء جديد، فينزل الوحي، يقول: إن اسم ابن هارون - خليفة موسى عليه السلام كان شبَّراً.. وعلي منك بمنزلة هارون من موسى فسمِّه حَسَناً، ذلك أن شُبَّراً يرادف الحسن في العربية.

وسار في المدينة اسم الحسن، كما يسير عبق الورد. وجاء المبشرون يزفون أحر آيات التهاني إلى النبي صلى الله عليه واله وسلم، ذلك أن الحسـن عليه السلام كان الولد البكر لبيت الرسالة، يتعلق به أمل الرسول وأصحابه الكرام. فهو مجدد أمر النبي الذي سوف يكون القدوة والأسوة للصالحين من المسلمين.. إنه امتداد رسالة النبي من بعده. وفي الغد يأمر الرسول صلى الله عليه واله وسلم بكبش، يعق عنه، فلما يأتون به يجيء بنفسه ليقرأ الدعاء الخاص بالمناسبة.

عقيقة عن الحسن:
اللـهم عظمُها بعظـه، ولحمُها بلحمه، ودمُها بدمه، وشعرُها بشعره، اللـهمَّ اجعلها وقاءً لمحمد وآلـــه.
ثم يأمر بأن يوزع اللحم على الفقراء والمساكين، لتكون سنّة جارية من بعده، تَذبح كلّ أسرة ثريَّة كبشاً بكل مناسبة متاحة، لتكون الثروة موزعة بين الناس، لا دَولة بين الأغنياء منهم.

ثم يأخذه الرسول ذات يوم وقد حضرت عنده لبابة - أم الفضل - زوجة العباس بن عبد المطلب عمِّ النبيِّ صلى الله عليه واله وسلم فيقول لها: رأيتِ رؤيا، في أمري..
فتقول: نعم يا رسول اللـه..
فيقول صلى الله عليه واله وسلم : قُصِّيها.
فتقول: رأيت كأن قطعة من جسمك وقع في حضني.
فناولها الرسول صلى الله عليه واله وسلم الرضيع الكريم، وهو يبتسم ويقول: نعم هذا تأويل رؤياك. إنه بضعة مني. وهكذا أصبحت أم الفضل مرضعة الحسن عليه السلام.
.. ويشب الوليد في كنف الرسول الأعظم صلى الله عليه واله وسلم، وتحت ظلال الوصي عليه السلام، وفي رعاية الزهراء عليه السلام، ليأخذ من نبع الرسالة كلّ معانيها، ومن ظلال الولاية كلّ قِيَمِها ومن رعاية العصمة كلّ فضائلها ومكارمها. ولايزال النبي والوصي والزهراء عليهم جميعاً صلوا ت اللـه يُوْلُون العناية البالغة التي تنمي مؤهلاته.

الوراثة:
وليس هناك من شك بأن للوراثة أثرها الكبير في صياغة الفرد صياغة مكيّفة بالبيئة التي انبعث منها وخلق فيها. وبيتُ أبناء أبي طالب، كان خير البيوت لإنشاء الإنسان الكامل، فكيف وقد وُلد الحسن عليه السلام من عبد المطلب مرتين، مرة من علي بن أبي طالب وأخرى من فاطمة بنت محمد بن عبد اللـه بن عبد المطلب (صلى اللـه عليهم وآلهم)؟. كما كان علي عليه السلام مولوداً عن هاشم مرتين. ولا نريد أن نشرح مآثر بيت هاشم، وبالخصوص أسرة عبد المطلب فيهم، فإنها ملأت السهل والجبل، بل أقول: ناهيك عن بيت بزغ منه الرسول الأكرم، محمد صلى الله عليه واله وسلم، والوصي العظيم علي عليه السلام، وحسب علمِ حساب الوراثة أن التأثير قد يكون من جهة الأب فيستصحب كلّ سماته وصفاته. وقد يكون من جانب الأم، وقد تحقق في الحسن عليه السلام هذا الأخير. فقد برزت فيه سمات أمه الطاهرة لتعكس صفات والدها العظيم محمد النبي صلى الله عليه واله وسلم، فكان أشبه ما يكون بالنبي منه بالإمام، وطالما كان يطلق النبي قوله الكريم:"الحسن مني والحسين من علي".

وقد يمكن أن نجد تفسيراً لهذه الكلمة في الأحداث التي جرت بعد الرسول صلى الله عليه واله وسلم وطبيعة الظروف التي قضت عند الحسن عليه السلام أن يتخذ منهج الرسول أُسوةً له دقيقة التطبيق شاملة التوفيق، فيعطي الناس من عفوه وصفحه، ويعطي أعداءه من صُلحه ورِفقه، مثلما كان يعطي الرسول تماماً.. كما اقتضت عند الحسين عليه السلام أن يبالــــغ في شدّته في الدِّين، وغيرته عليه، ويبدي من منعته ورفعته في أمـوره، ما جعـل تشابهاً كبيراً بينه وبين عهد علي عليه السلام مع المشركين والكافرين والضالين.

التربية:
ولقد أولاه النبيُّ والوصيُّ والزهراءُ عليهم الصلاة والسلام من التربية الإسلامية الصالحة ما أهَّله للقيادة الكبرى. فإن بيت الرسالة كان يربي الحسن وهو يعلم ما سوف يكون له من المنزلة في المجتمع الإسلامي، كما يوضح للمؤمنين منزلته وكرامته.
فكان النبيُّ صلى الله عليه واله وسلم يرفعه على صدره، ثم يقيمه لكي يكون منتصباً ويأخذ بيديه يجره إلى طرف وجهه الكريم جرَّاً خفيفاً وهو ينشد قائلاً:"حزقَّةً حزقَّة تَرَقَّ عينَ بَقَّة".

ويلاطفه ويداعبه.. ثم يروح يدعو: اللـهم إني أُحبه فأَحبَّ من يحبه ويقصد أن يسمع الناس من أتباعه لكي تمضي سيرتُه فيه أسوة للمؤمنين، بكرامة الحسن عليه السلام واحترامه.
ومرة يصلي النبي بالمسلمين في المسجد، فيسجد ويسجدون، يرددون في خضوع:"سبحان ربي الأعلى وبحمده"مرة بعد مرة، ثم ينتظرون الرسول أن يرفع رأسه ولكن النبيَّ يطيل سجوده، وهم يتعجبون: ماذا حدث؟. ولولا أنهم يسمعون صوت النبي لايزال يَبعث الهيبة والضراعة في المسجد لظنوا شيئاً.
ولا يزالون كذلك حتى يرفع النبي رأسه، وتتم الصلاة، وهم في أحر الشوق إلى معرفة سبب إبطائه في السجود فيقول لهم: جاء الحسن فركب عنقي، فأشفقت عليه من أن أُنزله قسراً، فصبرت حتى نزل اختياراً.

وحيناً: يصعد النبي صلى الله عليه واله وسلم المنبر ويعظ الناس ويرشدهم، فيأتي الحسنان من جانب المسجد فيتعثَّران بـثَوْبَيهمــــا فإذا به يهبط من المنبر مسرعاً إليهما حتى يأخذهما إلى المنبر، يجعــل أحدهمــــا علــــى وركــــه اليمنــــى، والآخــر على اليسرى، ويستمر قائلاً: صدق اللـه ورسوله، ﴿اَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَــةٌ (الانفال/28) نظرت إلى هذين الصبيَّين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما".

وكان يصطحبهما في بعض أسفاره القريبة، ويُردفهما على بغلته من قُدَّامه ومن خَلْفه لئلا يشتاق إليهما فلا يجدهما، أو لئلا يشتاقا إليه فلا يجدانه. وكان يشيد بذكرهما في كلّ مناسبة، ويظهر كرامتهما إعلاناً أو تنويهاً. فقد أخذهما معه يوم المباهلة وأخذ أباهما وأمهما فظهر من ساطع برهانهم جميعاً ما أذهل الأساقفة".
ودخل رسول اللـه دار فاطمة عليه السلام، وسلم ثلاثاً على عادته في كلّ دار، فلم يجبه أحد. فانصرف إلى فنـــاء، فقعد في جماعة من أصحابه ثم جاء الحسن ووثب في حبوة جدّه فالتزمه جدّه، ثم قبله في فيه ثـــم راح يقول: الحسن مني والحسين من علي.

وكثيراً ما كان الناس يتعجبون من صنع الرسول هذا، كيف يعلنها لإبْنَيهِ إعلاناً، فذات مرة شاهده أحـــد أصحابه وهو يقبل الحســـن ويشمه فقال - وقد كره هذا العمل -: إن لي عشرة ما قبَّلت واحـــداً منهم، فقال رسول اللـه: من لايرحم لايُرحم. وفي رواية حفص قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم حتى التمع لونه وقال للرجل: ان كان اللـه نزع الرحمة من قلبك ما أصنع بك؟ ثم لما رأى مناسبة سانحة أردف قائلاً:"الحسن والحسين ابناي، مَن أَحبَّهما أحبني ومن أحبني أحبه اللـه، ومن أحبه اللـه أدخله الجنة. ومن أبغضهما أبغضني، ومن أبغضني أبغضه اللـه، ومن أبغضه اللـه أدخله النار".

ثم أخذهما هذا عن اليمين وذاك عن الشمال، مبالغة في الحب.
ولطالما كان يسمع الصحابة قولته الكريمة:"هذان ابناي وابنا بنتي، اللـهم إني أُحبهما، وأُحب من يحبهما".
أو كلمته العظيمة يقولها وهو يشير إلى الحسن عليه السلام :"وأُحب من يحبه".
ويرى أبو هريرة الإمام الحسن عليه السلام بعد وفاة جده الرسول فيقول له: أرني أقبل منك حيث رأيت رسول اللـه يقبّل، ثمّ قبّل سرّته. ومن ذلك يظهر أن رسول اللـه صلى الله عليه واله وسلم كان يعلن ذلك إعلاناً، حتى يراه الناس جميعاً.
وقد بالغ النبيُّ صلى الله عليه واله وسلم في مدح الحسنين، حتى لكان يُظن أنهما أفضل من والدهما علي عليه السلام، مما حدا به إلى أن يستدرك ذلك فيقول: هما فاضلان في الدنيا والآخرة وأبوهما خير منهما.

.. وطالما كان يرفعهما على كتفيه - يذرع معهما طرقات المدينة والناس يشهدون، وقد يقول لهما:"نعم الْجَمل جَمَلُكما، ونعم الراكبان أنتما".

وطالما كان ينادي الناس فيقول:"الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة".أو:"الحسن والحسين ريحانتاي من الدنيا".أو:"الحسن والحسين إمامان إن قاما وإن قعدا".

ولقد قال - مرة -:"إذا كان يوم القيامة زين عرش رب العالمين بكلّ زينة، ثم يؤتى بمنبرين من نور طولهما مائة ميل، فيوضع أحدهما عن يمين العرش، والآخر عن يسار العرش، ثم يؤتى بالحسن والحسين فيقوم الحسن على أحدهما والحسين على الآخر، يزيِّن الرب تبارك وتعالى بهما عرشه كما يُزَيِّنُ المرأةَ قرطاها".
وعن الرضا عن آبائه عليه وعليهم السلام، قال: قال رسول اللـه:"الولد ريحانة وريحانتاي الحسن والحسين".

وعن رسول اللـه صلى الله عليه واله وسلم :"من أحبّ الحسن والحسين فقد أحبني ومن أبغضهما فقد أبغضني".
وعنه صلى الله عليه واله وسلم :"الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة".
وروى عمران بن حصين عن رسول اللـه صلى الله عليه واله وسلم أنه قال له:"يا عمران بن حصين ! إن لكلّ شيء موقعاً من القلب، وما وقع موقع هذين من قلبي شيء قط..
فقلت: كل هذا يا رسول اللـه !
قال:"يا عمران وما خفي عليك أكثر، إن اللـه أمرني بحبّهما".

وروى أبو ذر الغفاري قال: رأيت رسول اللـه يقبِّل الحسن بن عليّ وهو يقول:"من أحب الحسن والحسين وذريتهما مخلصاً لم تلفح النار وجهه، ولو كانت ذنوبه بعدد رمل عالج، إلاّ ان يكون ذنباً يخرجه من الإيمان".
وروى سلمان فقال: سمعت رسول اللـه يقول في الحسن والحسين:"اللـهم إنّي أُحبُّهما فأَحبَّهما وأَحبب من أحبَّهما..".
وقال:"من أحبّ الحسن والحسين أحببته، ومن أحببته أحبه اللـه، ومن أحبه اللـه أدخله الجنة ومن أبغضهما أبغضته، ومن أبغضته أبغضه اللـه، ومن أبغضه اللـه أدخله النار".

وما إلى ذلك من أقوال مضيئة نعلم - علم اليقين - أنها لم تكن صادرة عن نفسه، بل عن الوحي الذي لم يكن ينطق إلاّ به.
ولازالت عناية الرسول تشمل الوليد حتى شبّ، وقد أخذ من منبع الخير ومآثره، فكان أهلاً لقيادة المسلمين. وهكذا رآه الرسول ومن قبله إله الرسول، إذ أوحى إليه أن يستخلف عليّــــاً، ثم حسناً وحسينـاً، فطفق يأمر الناس بمودَّتهم واتِّباعهم واتخاذ سبيلهم. ولئن شككنا في شيء فلن نشك في أن من رباه الرسول، كان أولى الناس بخلافته.

بعد فقد الرسول:
وكــان للحســن عليه السلام من العمر زهاء ثمانية أعوام حينما لحق الرسول صلى الله عليه واله وسلم بالرفيــــق الأعلى (في السنــــة الحادية عشرة من الهجرة) فأثَّر في قلبه ألم الفاجعة، وأضرم فيه نيران الكآبة والحزن.
ولانصراف دفة الحكم عن أمير المؤمنين عليه السلام، الذي كان له الحق الشرعي فيها، أحسّ الحسن عليه السلام بمزيد من الحزن والغيظ، لا لأن والده حُرم حقّاً هو له، أو منصباً هو أهله، أو زوي عنه من الدنيا ما كان لهم.. كلا، لأنّه كان يرى أن انحراف المسلمين عن الجادة، يعني انحدارهم إلى هوة الضلال بعد انتشالهم عنها، ورجوعهم إلى مفاسد الجاهلية، بعد تخلصهم منها، لذلك حزن واشتد حزنه.
وذات يوم دخل المسجد فرأى الخليفة الأول يخطب في الناس على منبر جده، بل أبيه، فثارت في فؤاده لوعة وكآبة، فانقلبت إلى غيظ وسخط، فاخترق الجميع حتى بلغ المنبر قائلاً: انزلْ، انزلْ عن منبر أبي..

فسكت الخليفة الأول:وكرر الحسن عليه السلام يقول: وقد تقدم إلى المنبر شيئاً: انزل، إياك أَعني. فقام صحابي، وضمّ الحسن عليه السلام إلى نفسه يُسكت عنه الروع، وساد الصمت حيناً، ثم اخترقه الخليفة الأول وهو يقول: صدقتَ فمنبر أبيك، ولم يزد شيئاً. ولكنه عاتب عليّاً عليه السلام بعد ذلك وقد ظن أنه أثار الحسن عليه، بيد أن الإمام عليه السلام حلف له أنه لم يفعل.

ونلتقي بالحسن عليه السلام بعد هذا الحادث بثلاث وعشرين سنة حينما اندلعت الثورة الجامحة من المسلمين تطالب الخليفة الثالث بخلع نفسه من الخلافة.. والثورة كانت تضطرم شيئاً فشيئاً، وينضم إليها المسلمون أفواجاً وأفواجاً.. وقد اشتد بهم الحنق على سياسة الخليفة وسلوك تابعيه، وكانت الثورة تنقاد بأمر العظماء من أصحاب الرسول صلى الله عليه واله وسلم وزعماء المسلمين، أمثال عمار بن ياسر، ومالك بن الحارث (الأشتر)، ومحمد بن أبي بكر، غير أنه انضوى تحت ألويتهم عدة غير قليلة من سواد الشعب من العراق، ومصر وطائفة من الأعراب، ولم يكن هؤلاء - طبعاً - ذوي سداد في الرأي، وحنكة في التجربة بل أُولي نخوة ومصالح.. واشتد أمر الثورة، حتى حاصروا دار عثمان يطالبونه: إما أن يخلع نفسه وإما أن يلبي دعوتهم. وأبى عثمان إلاّ الإعتماد على جيش معاوية. الذي استنجده وذلك الجيش كان قد أمره معاوية بالوقوف خارج المدينة حتى يأذن له بدخولها.

وذات يوم أراد الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام أن يخبر عثمان بعزمه على الدفاع عنه، والمشورة له والنصح للعالم الإسلامي، إن أراد ذلك.. ولكن من يبلّغ هذه الرسالة إلى عثمان، وحول بيته عشرات الألوف يهزون الرماح ويسلّون السيوف. فقام الحسن عليه السلام قائلا: أنا لذلك. ثم أخذ يخترق الجميع في عزيمة الشجاع العظيم، حتى أتى دار عثمان، فدخلها بكلّ طمأنينة وبلَّغ رسالة والده، وجلس ينصحه ويشير عليه بالخير غير مبالٍ بما يثيره الثوار خارج البيت من صلصلة سيوف، ودمدمة سروج، ودغدغة رماح. فإنهم كانوا في حالة صَرَع، لا يؤمن أن يخترقوا الدار، فيقتلوا من فيها، وفيها الحسن. غير أنه جلــــس رابــــط الجــــأش ثابت العزيمة، شجاع الفؤاد، لأنه علم أنه إن أصيب بشـــيء ففي سبيــــل النصح في سبيل اللـه ودفع غائلة الفتنة عن المسلمين.

وهكذا جلس حتى أتمّ واجبه وبلّغ رسالته، ورجع يخترق جموع الثوار مرة أخرى..
وحيناً آخر نجد الإمام الحسن عليه السلام، وقد قتل عثمان وازدحمت الحوادث من بعده، يرى من هنا معاوية يدعو إلى نفسه، ومن هنا الناكثون يحشدون الجيوش تحت قميص عثمان، وقد أُخرجت زوجة الرسول صلى الله عليه واله وسلم في الموكب لتنتقم.

والإمام الحسن عليه السلام كان يومئذ فتىً له كلّ مؤهلات القيادة والوصاية، وقد كان له الحظ الأوفر بعد أبيه في تسيير القضايا وتدبير الأمور، والعالم الإسلامي آنذاك أحوج ما يكون إلى تدبيره وسياسته، لأن خطأة واحدة كانت كفيلة بإبادتها رأساً.. والإمام أمير المؤمنين كان يتردد بين أمرين ما أصعب الإختيار بينهما. وهما أن يقعد ويتقاعس عن الحرب وقد أرادها له خصومه ليستولي على الأمور أولو المطامع والشهوات. أو أن يحارب - وقد فعل - وفي الحرب مذبحة المسلمين..
ولا يهمنا من ذلك إلاّ أن الإمام الحسن عليه السلام عاش تجارب والده الذي كانت تجاربه بنفسه.

حيث إن والده العظيم كان يشاطره أمور الخلافة كلها لسببين:
أولاً: لِمَا كان فيه من الكفاءة والمقدرة.
ثانياً: لكي يهدي الناس إلى الإمام من بعده، وليروا في نجله العظيم القائدَ المحنَّكَ الحازمَ، والحاكمَ العادل الرؤوف. ففي اليوم الذي بويع والده بالخلافة كان عليه أن يرقى المنبر على عادة الخلفاء من قبله ليبين سياسته، لكي يكون الناس على خبرة وعلم. هكذا روت الأحاديث أنه عليه السلام استدعى الحسن عليه السلام ليصعد المنبر لئلا تقول قريش من بعده إنه لا يَحسن شيئاً،"هكذ"كما صرح بذلك أمير المؤمنين ذاته. فصعد المنبر، ووعظ الناس وأبلغ، ثم راح الإمام يردد فضائل السبطين على الملأ العام.

وظــلّ الحسن عليه السلام الساعد المتين لوالده العظيم، في تلك الفتنة الكبرى، التي رافقت خلافة علي عليه السلام، نعم ففي فتنة البصرة بعث الإمام نجله على رأس وفد فيه عبد اللـه بن العباس، وعمار بن ياسر وقيس بن سعد، يستنفر أهل الكوفة لحرب الغدرة من أصحاب الجمل، وقد حمل معه كتاباً عن أمير المؤمنين فيه عرض خاطف عن قصة مقتل عثمان، وبيان الحقيقة في ذلك.. فجاء الإمام، يريد استنهاض الناس الذين كانت، ولازالت، ولاتها تثبطهم عن الخروج مع الإمام فعاتب أولاً أبا موسى الأشعري المراوغ، على تثبيطه الناس، وكان يومئذٍ والياً على الكوفة، ثم تلا عليهم الكتاب بنصه:"إني خرجت مخرجي هذا، إمّا ظالماً وإمّا مظلوماً، وإمّا باغياً وإمّا مبغيّاً عَلَيّ، فأُنشد اللـه رجلاً بلغه كتابي هذا إلاّ نفر إليَّ، فإن كنت مظلوماً أعانني، وإن كنت ظالماً استعتبني".

ثم أخذ يحثهم على الجهاد وهو يقول على ما في بعض الروايات:"أيها الناس إنّا جئنا ندعوكم إلى اللـه وإلى كتابه وسنّة رسوله، وإلى أفقه من تفقه من المسلمين، وأعدل من تعدلون، وأفضل من تفضلون، وأوفى من تبايعون، من لم يعبه القرآن، ولم تجهله السنّة، ولم تقعد به السابقة. إلى من قرَّبه اللـه تعالى ورسولُه، قرابتين: قرابة الدين، وقرابة الرحم، إلى من سبق الناس إلى كلِّ مأثرة. إلى من كفى اللـه به ورسوله، والناسُ متخاذلون. تقرَّب منه والناس متباعدون، وصلى معه وهم مشركون، وقاتل معه وهم منهزمون، وبارز معه وهم مُحجمون، وصدَّقه وهم يكذبون ؛ إلى من لا ترد له راية ولا تكافأ له سابقة.وهو يسألكم النصر ويدعوكم إلى الحقّ ويأمركم بالمسير إليه، لتؤازروه وتنصروه على قوم نكثوا راية بيعتـــه، وقتلوا أهل الصلاح من أصحابه، ومثّلوا بعمُاله، وانتهبوا بيت ماله، فأشخصوا إليه رحمكم اللـه، فأمروا بالمعروف، وأنهوا عن المنكر، واحضروا بما يحضر به الصالحون..".

هكذا أتم المقطوعة الأولى من خطبته.. فبيَّن لهم أولاً دستور صاحب الدولة، بنص الكتاب الذي أرسله الخليفة، ثم راح يبيِّن شخصية الداعي لهم حتى يأتمنوه على دينهم ودنياهم. ثم أخذ ببيان جانب الفتنة ليبعث فيهم الروح الإنسانية التي تحثهم على الدفاع عن المقدَّسات، وأخيراً تكلم معهم عن الناحية الدينية، فأبلغ بذلك كمال مراده.

ثم أَتبع هذه الخطبة، بأخرى، ألهب فيها حماساً، ودعا إلى الجهاد، ولازال بهم حتى إحتشد منهم جمع كثير، وكان هناك تدابير أخرى تتبع هذه الخطب، وتنفذها.
وسار الجيش إلى البصرة، والتقى الفريقان والتحم الجيشان، ورأى الإمام: أن الراية المعادية هي المركز الذي يجب أن يقصد، فإن وقعت فالعدو منهزم، وإن بقيت فإن في ذلك مقتلاً كبيراً من الفريقين ولا يريد ذلك الإمام عليه السلام.

فتوجه إلى محمد بن الحنفية - نجله الشجاع الصنديد الذي كان مضرب المثل في الناس بالقوة والشجاعة - يأمره بالإقدام، ومحاولة اسقاط العلم، وقد كانت تلك المحاولة صعبة جدّاً، حيث إن الجيوش كانت تعتبر العلم كلّ شيء في نصرها أو هزيمتها، فكانت تدافع عنه بما أوتيت من قوة وبأس.

فــأقــدم محمد في عزيمة ثابتة، بيد أنه لم يَخْطُ خُطوات حتى عرف الخصم مناوءه، فجعل الجيش كلــــه يُمطر عليه السهام، فإذا به يجد نفسه تحت وابل من النبال، فرجع إلى مركز القيادة عند أمير المؤمنيـن.. فزجره الإمام فأجاب: إنه إنما صبر حتى يخف النبل وثم يتابع زحفه وهنا يكتب بعض الرواة: أن الإمام عزم على إنجاز المهمة بنفسه، بيد أن الإمام الحسن قام يكفيه ذلك، فقال له والده، بعد تردد ربما كان ناشئاً عن محافظته الكبيرة على حياة السبطين لأنه كان ينحدر منهما نسل النبي صلى الله عليه واله وسلم، فإذا استشهد فمن الذي يحفظ نسب النبي صلى الله عليه واله وسلم؟. ومن الذي يكون إمتداداً له؟

قال له بعد أن تردد بعض الوقت: سر على اسم اللـه.
واقتحم الإمام خضم الجيش.. فتقاطرت عليه النبال، وعلي عليه السلام ينظر إليه عن كثب، ومحمد على جنبه يرق.. ولم يزل الحسن عليه السلام يغيب في لجج الرجال ويطفو عليها حيناً آخر، حتى بلغ مركز الراية فأسقطها، وهزم الجيش وتمّ النصر على يده عليه السلام.
.. ولو ظللنا نتابع الأحداث التي جرت على خلافة أمير المؤمنين.. نتحسس عن شخصية الإمام الحسن عليه السلام، لطال ذلك بنا كثيراً، لأنها كانت الشخصية الثانية في تلك الأحداث الرهيبة، ولها من اللمعان والوضاءة ما يبهر الأبصار ويُدهش العقول1.


1-الإمام الحسن قدوة وأسوة/ اية الله مدرسي.

2012-08-03