يتم التحميل...

أهل القرآن الكريم

المتقون

أَمَّا اللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ، تَالِينَ لأجزاء الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلاً، يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَيَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ، فَإِذَا مَرُّوا بِآيَة فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً، وَتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً،

عدد الزوار: 39
أَمَّا اللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ، تَالِينَ لأجزاء الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلاً، يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَيَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ، فَإِذَا مَرُّوا بِآيَة فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً، وَتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً، وَظَنُّوا أنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ، وَإِذَا مَرُّوا بِآيَة فِيهَا تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ، وَظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وَشَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ، فَهُمْ حَانُونَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ، مُفْتَرِشُونَ لِجَبَاهِهِمْ وَأَكُفِّهِمْ، وَأَطْرَافِ أَقْدَامِهِمْ، يَطْلُبُونَ إِلَى اللهِ فِي فَكَاكِ رِقَابِهِمْ.




دور القرآن الكريم

إن القرآن الكريم أراد الله تعالى له أن يكون كتاب علم وعبرة وتربية، فهو يزود القارئ له بالمعارف والعلوم والأحكام ليصلح بها عقله، كما أنه يقدم له الدروس والعبر ليحافظ على توازن مسيرته في الحياة الدنيا، إضافة إلى أنه يسعى لتربيته روحياً.

وهذا كله تختصره كلمة الهداية التي وردت في وصف القرآن الكريم في العديد من آياته:
﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ1.

والقرآن الكريم يهدي الإنسان سبل السلام مع النفس، ومع الأهل ومع الأولاد، ومع الجيران، ومع الأصدقاء، ومع من يلوذ به:
﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلام2.


الأثر المعنوي للقرآن

القرآن يرفع المعنويات


هل يعقل أن يحزن الإنسان المؤمن، وهو يقرأ قوله تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ* نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ3 أو يحزن والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ4 وكذلك قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ5.

وكيف يحبط من يعلم أن الله تعالى يدافع عنه؟

﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُور6 ولا سبيل لتحقيق ذلك كله إلا من خلال الاستفادة الصحيحة من القرآن الكريم، فترتيله مدخل للمعرفة، والمعرفة مدخل للعمل، وللانتفاع ببيانه والاتعاظ بمواعظه، والعيش في قلب حقائقه.


قراءة القرآن والترتيل

يأمر القرآن المؤمنين بان يقضوا بعض أوقات الليل بتلاوة القرآن، وأن يرتلوا القرآن في صلواتهم عندما يتوجهون إلى الله، وفي خطاب للرسول يقول:
﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً، نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً7.

والترتيل هو قراءة القرآن بحيث تخرج الكلمات من الفم بسهولة واستقامة وهو بمعنى الوضوح في القراءة مع التأني كما في الرواية الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تفسير هذه الآية: "بيّنه تبياناً ولا تنثره نثر الرمل ولا تهذه هذ الشعر"8.

وعن الصادق عليه السلام إنه سئل عن هذه الآية فقال قال أمير المؤمنين عليه السلام بينه بيانا ولا تهذه هذ الشعر ولا تنثره نثر الرمل ولكن أفزعوا قلوبكم القاسية ولا يكن هم أحدكم آخر السورة.
وهذا هو حال المتقين: ﴿أَمَّا اللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ، تَالِينَ لأجزاء الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلاً.


التأمل في الآيات والمعاني


لا ريب بضرورة مطالعة القرآن بهدف دراسته وتعلمه، يصرح القرآن في هذا المجال بقوله: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ9.

إن فهم القرآن الكريم ومعانيه مهم جداً عند تلاوته، وبالإضافة إلى فهمه ينبغي تدربه ثم العمل بمضمونه.

فقد ورد عن الإمام الحسين عليه السلام: "آيات القرآن خزائن العلم فكلما فتحت خزانة فينبغي لك أن تنظر فيها"10.

إن مراعاة هذه الأمور يمكن أن يساهم في إيصال القارئ إلى الهدف الأساسي من القراءة، ويتحقق للقرآن الكريم دوره في حياة الفرد والمجتمع وعلى رأس ذلك التعلم والاعتبار والتربية.


القرآن.. خطاب العقل والوجدان

إن التعليم والتذكير هي إحدى أهداف القرآن الكريم، ومن هذه الجهة يخاطب القرآن الكريم عقل الإنسان، ويتحدث معه بالاستدلال والمنطق، غير أن للقرآن الكريم لغة أخرى أيضاً، والمخاطب فيها بالإضافة للعقل، القلب، وهذه اللغة الثانية تسمى: "الإحساس"..

فالذي يعرف لغة القلب ويخاطب الإنسان بها، يحرك الإنسان من أعماق وجوده، وعندئذ لا يبقى الفكر الإنساني تحت التأثير فحسب، بل ويتأثر كل وجوده. وربما استطعنا أن نضرب الموسيقى مثلا، كنموذج عن لغة الإحساس.

ومعلوم مدى تأثير الأناشيد والمعزوفات العسكرية وقوتها حين تنشد وتعزف في ميادين القتال بحيث تجعل الجندي الذي لا يخرج من خندقه خوف الأعداء تجعله يتقدم إلى الأمام بكل الدفاع ويحارب الأعداء رغم الهجوم الثقيل للعدو. وهناك نوع آخر من الموسيقى يرتبط مع الشهوة فيعرض الإنسان إلى الخمول والانقياد نحو الشهوات، ويدعوه ليستسلم للفساد.

القرآن بنفسه يوصينا أن نقرأه بصوت حسن لطيف. وبهذا النداء السماوي يتحدث القرآن الكريم مع الفطرة الإلهية للإنسان ويسخرها.

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب"11.

إن النداء السماوي للقرآن الكريم، أوجد في مدة قصيرة من (الجاهلين)، في شبه الجزيرة العربية شعباً مؤمناً مستقيماً، استطاعوا أن يحاربوا أكبر القوى الموجودة في ذلك العصر.

فالمسلمون لم يتخذوا القرآن كتاب درس وتعليم فحسب، بل، كانوا ينظرون إليه بمثابة غذاء للروح ومنبع لاكتساب القوة والارتباط بالله تعالى. فكانوا يقرؤون القرآن بكل إخلاص في الليل (يشير الإمام السجاد عليه السلام إلى هذه النقطة بقوله في دعاء ختم القرآن: "واجعل القرآن لنا في ظلم الليالي مؤنسا"12.


المتقون والقرآن

إن شدة يقين المتقين وتأثرهم العميق بالقرآن الكريم جعلهم يتجاوزون الوجود اللفظي للقرآن على الألسنة, والوجود الذهني للمعاني في العقول والإفهام، إلى الوجود الحقيقي في قلب الحقائق كما يقول الإمام: "فهم والجنّة كمن قد رآها فهم فيها منعّمون وهم والنار كمن قد رآها وهم فيها معذّبون", فصاروا في مقام الرّجاء والشوق إلى الثواب وقوّة اليقين بحقايق وعده سبحانه بمنزلة من رأى بحسّ بصره الجنّة وسعادتها، فتنعّموا فيها والتذّوا بلذائذها، وفي مقام الخوف من النار والعقاب وكمال اليقين بحقايق وعيده تعالى بمنزلة من شاهد النّار وشقاوتها فتعذّبوا بعذابها وتألّموا بآلامها (فإذا مرّوا بآية فيها تشويق) إلى الجنّة (ركنوا) مالوا واشتاقوا (إليها طمعا وتطلعت) أشرفت (نفوسهم إليها شوقاً وظنّوا أنّها نصب أعينهم) فأيقنوا أنّ تلك الجنّة الموعودة معدّة لهم حتى صارت كأنها نصب أعينهم. (وإذا مرّوا بآية فيها تخويف) وتحذير من النار (أصغوا) وأمالوا (إليها مسامع قلوبهم وظنّوا) كأن (أنّ زفير جهنّم وشهيقها) صوت توقدها (في أصول آذانهم).

وقد روى في الكافي عن إسحاق بن عمّار قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:

إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم صلّى بالنّاس الصبح فنظر إلى شاب في المسجد وهو يخفق ويهوى برأسه مصفرّاً لونه قد نحف جسمه وغارت عيناه في رأسه، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله:

كيف أصبحت يا فلان؟ قال: أصبحت يا رسول اللّه موقناً، فعجب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من قوله، وقال: إنّ لكلّ يقين حقيقة فما حقيقة يقينك؟ فقال: إنّ يقيني يا رسول اللّه هو الذي أحزنني وأسهر ليلى وأظمأ هواجري13 فعزفت نفسي عن الدّنيا وما فيها، حتّى كأنّي أنظر إلى عرش ربّي وقد نصب للحساب وحشر الخلائق لذلك وأنا فيهم، وكأني أنظر إلى أهل الجنّة يتنعّمون في الجنّة ويتعارفون على الأرائك يتكئون، وكأني أنظر إلى أهل النّار وهم فيها معذّبون مصطرخون، وكأني الآن أسمع زفير النّار يدور في مسامعي، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: هذا عبد نوّر اللّه قلبه بالإيمان ثمّ قال صلّى اللّه عليه وآله وسلّم له: الزم ما أنت عليه، فقال الشّاب: ادع اللّه لي يا رسول اللّه أن ارزق الشهادة معك، فدعا له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النّبي فاستشهد بعد تسعة نفر وكان هو العاشر14.


القرآن شفاء النفوس

قال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا15 فالقرآن شفاء ورحمة لمن غمر الإيمان قلوبهم وأرواحهم، فأشرقت وتفتحت وأقبلت في بشر وتفاؤل لتلقى ما في القرآن الكريم من صفاء وطمأنينة وأمان، وذاقت من النعيـم ما لم تعرفه قلوب وأرواح أغنى ملوك الأرض. إنه حقاً سد منيع يستطيع الإنسان أن يحتمي به من مخاطر كل الهجمات المتتالية على نفسه وقلبه، فيقي القلب من الأمراض التي يتعرض لها كما أنه ينقيه من الأمراض التي علقت به، كالهوى والطمع والحسد ونزغات الشيطان والخبث والحقد... فهو كتاب ومنهج أنزله رب العالمين على قلب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون لعباده هادياً ونذيراً وشفاءً لما في الصدور.

وهذا دأب المتقين كما قال الإمام علي عليه السلام "وَيَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ" فهم يلتمسون الدواء لكل داء كداء الذّنوب الموجب للحرمان من الجنّة والدّخول في النّار، بدواء القرآن عبر التّدبّر والتفكّر.

ويستجيبون لندائه "فاستشفوه من أدوائكم واسـتعينوا به على لأوائكم، فان فيه شفاء من اكبر الداء وهو الكفر والنفاق والغي والضلال" فكانوا المتسمين بطهارة النفوس ومكارم الأخلاق ومرضيّ الصفات "تَرَاهُ قَرِيباً أَمَلُهُ، قَلِيلاً زَلَلُهُ، خَاشِعاً قَلْبُهُ، قَانِعَةً نَفْسُهُ، مَنْزُوراً أَكْلُهُ، سَهْلاً أَمْرُهُ، حَرِيزاً دِينُهُ، مَيِّتَةً شَهْوَتُهُ، مَكْظُوماً غُيْظُهُ...."

* المتقون.سلسلة الدروس الثقافية, نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية. ط: الأولى آب 2007م- 1428ه. ص: 65-71.


1- الإسراء:9.
2- المائدة:16.
3- فصّلت:30-31.
4- النحل:97.
5- الجاثية:21.
6- الحج:38.
7- المزمل:1-4.
8- الهذ: سرعة القراءة.
9- ص:29.
10- الشيخ الكليني- الكافي- دار الكتب الإسلامية، آخوندي- الطبعة الثالثة- ج2 ص609.
11- المجلسي- محمد باقر- بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة- ج82 ص50.
12- الصحيفة السجادية، دعاء ختم القرآن.
13- الهاجرة: نصف النهار عند زوال الشمس.
14- الشيخ الكليني- الكافي- دار الكتب الإسلامية، آخوندي- الطبعة الثالثة- ج2 ص53.
15- الإسراء:82.

2012-10-02