يتم التحميل...

حول الأخلاق

فلسفة الأخلاق

كل إنسان يستشعر في ظروف معينة نداء الضمير الحي والفطرة النقية حتى ولو كان أشد الناس إلحاداً وأكثرهم جهلاً، ومن الذي لا تتحرك انسانيته وتثور عاطفته إذا رأى طفلة تلتهمها النيران، وهي تصرخ وتستغيث؟ وكل فعل يصدر عن هذا الإحساس الإنساني النبيل وينبعث من القلب لا من خارجه فهو من الأخلاق في الصميم...

عدد الزوار: 76

كل إنسان يستشعر في ظروف معينة نداء الضمير الحي والفطرة النقية حتى ولو كان أشد الناس إلحاداً وأكثرهم جهلاً، ومن الذي لا تتحرك انسانيته وتثور عاطفته إذا رأى طفلة تلتهمها النيران، وهي تصرخ وتستغيث؟ وكل فعل يصدر عن هذا الإحساس الإنساني النبيل وينبعث من القلب لا من خارجه فهو من الأخلاق في الصميم، فالشرط الأساسي في الفعل الخلقي أن يصدر عن باعث خلقي صرف أو يصدر عن باعث ديني بحت، فإن طاعة الدين لله وللدين تماماً كفعل الخير لوجه الخير.

وإذا تحركت العاطفة واتجهت نحو الخير ومحاسن الأخلاق في بعض المواقف فانها تثور وتتحرك نحو الشر ومساوئ الأخلاق في كثير من المواقف كالذي ينساق مع حسده وحقده وغضبه ومآربه بلا روية وتفكير.

وفي يقيني وعقيدتي أنه لا خلق أسوأ وأضرّ من خلق الذين يرفعون شعارات الخير وهم أعدى أعدائه!. ينادون بالحرية ويبطشون بالأحرار، ويتبجحون بالعدالة، ويقتلونها غيلة وغدراً، ويتباكون على الإلفة والوحدة وهم الذين فرقوا ومزقوا الصفوف: ﴿يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ. فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ1

موضوع علم الأخلاق
موضوع الأخلاق: سلوك الإنسان وأفعاله الصادرة عنه بإرادة مباشرة أو بالواسطة، ومرادنا بالواسطة هنا أن علم الأخلاق يدين المخطئ إذا قصر وأهمل الاحتياط والتحفظ. طبعاً مع قدرته عليه حيث لا تقصير مع العجز.

تعريفه
وعلم الأخلاق مجموعة من المبادئ المعيارية التي ينبغي أن يجري السلوك البشري على مقتضاها، والياء في المعيارية 2 "قالوا: العلوم المعيارة ثلاثة: الاخلاق وتبحث عن قيمة الخير، والجمال ويبحث عن قيمة الجميل، والمنطق ويبحث في قيمة الحق".
نسبة إلى المعيار الذي يقاس به غيره "أي أن مبادئ الأخلاق ترسم طريق السلوك الحميد وتحدد أهدافه وبواعثه".

الغاية
إذا كانت الغاية من علم النحو صون اللسان عن الخطأ في المقال، ومن علم المنطق صون الفكر عن الخطأ في الأحكام، فإن الغاية من علم الأخلاق صون الإنسان عن الخطأ في سلوكه بحيث يكون مستقيماً في قصده وفعله وغرضه بعيداً عن الهوى والتقليد الأعمى، وبكلمة فإن الغاية من كل علم ما عدا علم الأخلاق أن نبتعد عن الخطأ في مسائله وقضاياه. أما الغاية من علم الأخلاق فهي ان يوجد مجتمع يسود فيه العدل والأمن والتعاون على صيانة الحياة من الفساد والمظالم، ومن كل ما يشقيها ويرهقها، والسير بها إلى الاكمل والأفضل.

ومعنى هذا أن علم الأخلاق يتوخى اصلاح الفرد والجماعة بملازمة الصراط المستقيم في السلوك.

مصدره
ومصدر علم الأخلاق كتاب الله وسنة نبيه وآله الأطهار والعقل والمشاهدة والفطرة. وبعض الكتّاب يعبر عنها بالجهاز الدقيق الموجود في داخل الإنسان يدرك تلقائياً الكثير مما يصلحه ويسعده ولا يُشقيه ويفسده كحبه للحرية والمساواة وكراهيته للعبودية والمحاباة، ورغبته في كل ما يوفر له الحياة الفضلى ويجعله شيئاً مذكوراً. وبعض المؤلفين يسمي هذا الجهاز بقانون القلب الذي يدرك الشيء تلقائياً. في مقابل قانون العقل الذي ينتقل من مجهول إلى معلوم، من شاهد إلى غائب.

بين علم الطبيعة وعلم الأخلاق
قطب الرحى في علم الطبيعة الكشف عن أسرارها وعناصرها كما يدركها علماء الطبيعة بالتجربة والمشاهدة، ويصوغونها في قواعد مضبوطة يستعينون بها على تطويع الطبيعة لمصلحة الإنسان ومساعدته فيما يواجه من مشكلات العيش والحياة، ومن شأن هذا العلم أن يتطور ويتقدم تبعاً لتطور قوى الانتاج ووسائله، وقد تعاظم شأن هذا العلم في أيامنا بصورة هي فوق الوهم والخيال!. وعلماء الطبيعة هم الذين يصنعون الحضارات، ويغيرون الحياة المادية، ويهدمون العديد من التقاليد والعادات، وأي إنسان في هذا الكوكب من أدناه إلى أقصاه تخلو حياته اليومية من آثار العلوم الطبيعية الحديثة؟. وقال كاتب معاصر: "العلم الحديث موضوعه الطبيعة والمادة حية وميتة وما يخرج عنها من طاقات، أما ما لا يرى فليس لهذا العلم إليه من سبيل.. فإن أنكر عالم طبيعي وجود الروح ونحوها فهو انما يفعل ذلك خارج مهمته كالمحامي يقضي في موضوع طبي، أو كالطبيب يقضي في شؤون الجن وأمراضها.!

وقطب الرحى في علم الأخلاق هو: كيف ينبغي أن يكون عليه سلوك الإنسان، كما سبقت إليه الإشارة، وما من أحد يستطيع العيش بلا سلوك أو بسلوك بلا منهج ونظام، وعلماء الأخلاق يرسمون ويرسون هذا المنهج والنظام الذي يسترشد به الإنسان إلى الغاية المثلى.

ومعنى هذا أن حياة الإنسان بحاجة ماسة إلى جهود علماء الطبيعة وفلاسفة الأخلاق معاً، وإلى التنسيق والتوازن بين المصالح المادية والحاجات الروحية، ولكن طغت المادة وأشياؤها في أيامنا هذه على الأخلاق وقيمها، وانقلبت المفاهيم، وأصبحت الفضيلة هي المصلحة الذاتية، وتحوّلت أكثر العقول أو الكثير منها إلى آلة حاسبة لأرقام الأرباح والفوائد!. وعسى أن يكتب الله لعباده الإنابة والهداية.

بين الدين والأخلاق
الوحي عندنا مصدر من مصادر الأخلاق، ويكفي في الدلالة على ذلك أن الأخلاق كلها سلوك وعمل حتى ضبط النفس فإنه نوع من العمل، ونحن نهتدي بكتاب الله وسنة نبيه في سلوكنا معه سبحانه ومع الأسرة والمجتمع وسائر الكائنات، وأيضا كل من دعوة الإسلام وعلم الأخلاق إنسانية عالمية لا تتقيد بزمان أو مكان ولا بأمة أو طائفة.

وإن كان هناك من فرق فهو أن مفهوم الأخلاق لا يدخل فيه فكر مجرد ونظر محض في حال من الأحوال. أما مفهوم الدين فانه يعمّ ويشمل الفكر والإيمان الذي لا يستدعي أي شعار أو جهد وأثر تراه الأبصار وتمسه الأيدي كالاعتقاد بوجود الجن والملائكة حيث ورد ذكرهما في القرآن الكريم.

هذا أولاً، وثانياً أن مبادئ الدين وتعاليمه لا تكون ولن تكون إلا بوحي من السماء، أما مبادئ الأخلاق وقيمها فتكون بوحي من الله سبحانه، وبوحي من الفطرة النقية وجوهر الإنسانية، بل إن كثيراً من الفلاسفة ربط الأخلاق بالطبيعة البشرية وحدها، واعتبرها ظاهرة إنسانية لا صلة لها بالدين على الإطلاق، وإن التقت معه على صعيد واحد في كثير من المبادئ والأحكام.

أما نحن فكما أشرنا نؤمن ونعتقد بأن الأخلاقي يحتكم إلى دينه وضميره معاً، وأن العلاقة بين محكمة الدين ومحكمة الضمير هي علاقة التعاضد والتأزر وان حكم احداهما يزيد حكم الثانية قوة وإبراماً وثباتاً وإحكاماً. ...ان المسؤولية الدينية تتحول حتماً إلى المسؤولية الأخلاقية الطبيعية في نفس المؤمن لأن الإيمان والضمير كلاهما من الحقائق الكامنة في ذات الإنسان وأعماقه لا في خارجه.

بين عالم الدين وعالم الضمير
ولا شيء أصدق في الدلالة على الصلة القوية الوثيقة بين أخلاقية الدين وأخلاقية الضمير، من قوله تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ2. ﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى3 .. ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً4 وقال سيد الكونين صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا أراد الله بعبد خيراً جعل له واعظاً من نفسه يأمره وينهاه"، وقال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "من لم يعن على نفسه حتى يكون له منها واعظ وزاجر لم يكن له من غيرها زاجر وواعظ". والمراد بالواعظ هنا وهناك الضمير الاخلاقي الذي يضبط النفس عن الهوى.

والآن تعال معي لنستمع إلى انشودة الأناشيد، إلى نشوة الروح من عطر هذا الإمام العابد ((المعبود)): زين العابدين عليه السلام حيث يقول بقلب واجف خافق:

"اللهم خذ لنفسك من نفسي ما يخلصها، وابق"
"لنفسي من نفسي ما يصلحها، فان نفسي هالكة أو تعصمها".

معضلة مشكلة تأخذ بالخناق: كيف ينتشل الإنسان عدوه من ذاته، ويطهرها منه والمفروض أن عدوه هو ذاته لا غيرها؟ وهل من سبيل إلى الفرار إذا كان الحصار من الداخل؟.. أبداً لا مناص ولا خلاص إلا أن يغيّر هذا الإنسان ذاته، فيهدمها من الأساس ويبنيها من جديد، كما جاء في الآية 11 من الرعد: ﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ بحيث يصبح الإنسان جديداً وضميراً رشيداً يسير على هديه، ويعيش في ظل الله وظله.

إلى الله تُرجع الأمور
سبقت الإشارة أن بين أخلاقية الدين وأخلاقية الضمير صلة وثيقة وقوية، ويمكن القول بأنهما شيء واحد بالنظر إلى المصدر، ان الله سبحانه هو الذي شرع الدين وانزل الوحي، وأيضاً هو الذي خلق الضمير والعقل، وأودع فيه ملكة التمييز بين الخير والشر "وهديناه النجدين".

ومن جهة ثانية فان العقل يأمر بطاعة الله ويوجب ما أوجب ويحرم ما حرم، ومن هنا اتفق الشيعة على أن كل ما حكم به الشرع يحكم به العقل، وكل ما حكم به العقل يحكم به الشرع، وقالوا: إن العقل بيان من الداخل، والشرع بيان من الخارج، وأيضاً قالوا: "السمعيات ألطاف في العقليات".

وأرادوا بهذه الجملة أن الأحكام العقلية بمجردها لا تبعث على فعل الخير وترك الشر، فجاء الوحي مؤازراً لها ومناصراً بالتأكيد والتأييد تارة، وبالوعد والوعيد تارة أخرى، وسموا هذه المؤازرة والمناصرة بقاعدة اللطف.

ونستخلص من كل ما تقدم أن من فعل الخير وهو مؤمن بالله، كان فعله هذا دينياً وأخلاقياً في آن واحد، وإن يك من الجاحدين نظرنا: فإن كان من الذين يعترفون ويؤمنون بالأخلاق وواقعها وقيمها وأصولها كان فعله للخير أخلاقياً لا دينياً، وان كان لا يؤمن بشيء على الإطلاق فعمله لا ديني ولا أخلاقي، بل هباء وهواء لأنه حالة من حالات الفوضى واللامبالاة حيث لا قياس ومنهج ولا نظام ومبدأ.

والخلاصة ان الدين يعتبر العمل بمبدأ العدالة الإنسانية والأحكام العقلية الفطرية نوعاً من طاعة الله وشريعته، كما أن العقل والضمير الحي يرى العمل بأحكام الله وشريعته نوعاً من العمل بمبادئ الأخلاق وقيمها.

* فلسفة الأخلاق في الإسلام، الشيخ محمد جواد مغنية، دار التيار الجديد،بيروت لبنان، ط5-1412هـ -1992م، ص11-18.


1- البقرة: 9-10
2- الشعراء:89
3- الكهف: 13
4- البقرة: 10
2011-03-31