البخل، حقيقته، آثاره وكيفية معالجته
دراسات أخلاقية::الأخلاق المذمومة
الشّخصيّة البخيلة شخصيّة ظلاميّة، تبثّ أجواء البؤس واليأس أينما حلّت، وتجعل الحياة ضيّقة تكاد تخنق كلّ من عايشها. والبخيل إنسانٌ منع نفسه الفرصة الكبرى في هذه الحياة الدّنيا، وهي التّنعّم بالموارد الإلهيّة اللامتناهيّة.
عدد الزوار: 391
تمهيد
الشّخصيّة البخيلة شخصيّة ظلاميّة، تبثّ أجواء البؤس واليأس أينما حلّت، وتجعل
الحياة ضيّقة تكاد تخنق كلّ من عايشها. والبخيل إنسانٌ منع نفسه الفرصة الكبرى في
هذه الحياة الدّنيا، وهي التّنعّم بالموارد الإلهيّة اللامتناهيّة.
والكثير من النّاس لا يرون أيّ أمل بمعالجة البخيل، وهم يرجعون هذه الخصلة إلى
الطّبع الموروث عن الآباء والأمّهات، ويقصدون بذلك أنّه غير قابل للعلاج.
فما هو البخل؟ ومن أين ينشأ؟ وكيف يمكن معالجته؟
ما هو البخل؟
يعرف الإنسان بوجدانه أنّ العطاء هو أحد الخصال الإنسانيّة التي ميّزت بني آدم عن
غيرهم من كائنات العالم. فالتّراحم الذي أودعه الله في قلوب البشر لكي يتواصلوا
فيما بينهم، يستلزم العطاء والتّبادل. وعندما يتوقّف الإنسان عن العطاء ـ أي يبخل ـ
فهذا يعني أنّ الرّحمة فُقدت من قلبه وأصبح خارج نطاق الإنسانيّة.
وبالطّبع لا يُعرف البخيل من موقف أو موقفين، بل هو سيرة عامّة في شخصيّته. فليس كلّ
من منع بخيل، لكنّ البخل هو المنع حين لا يكون مبرّر. وهو ضدّ السّخاء، كما جاء في
حديث جنود العقل والجهل: "والسّخاء وضدّه البخل".
ولأجل تحديده بصورةٍ أفضل، فقد جُعل في مقابل الإسراف حيث يتوسّط السّخاء بينهما، "والسّخاء
يتوسّط بين بين الإسراف والبخل"1.
ففي الأوّل، يجب على الإنسان أن يتّجه نحو السّخاء في عالم الأخلاق والفضائل
النّفسيّة، ويكون على هذا الأساس إمّا سخيًّا أو بخيلًا. وفي مجال السّلوك العمليّ
عليه أن يعتدل في إنفاقه، فلا يسرف ولا يبخل.
من أين ينشأ البخل؟
وسواء أكان البخل طبعًا موروثًا أم خلقًا مستجدًّا، فإنّ ما يشكّله ويمنحه صفة
الملكة في النّفس أمران أساسيّان ذكرهما الإمام الخمينيّ قدس سره:
1- قوّة الشّهوة
قوّة الشّهوة، حيث يقول قدس سره: "وقوّة الشّهوة وفروعها الشّره والحرص والطمع
والبخل ونظائرها"2.
2. احتجاب الفطرة
يقول الإمام قدس سره: "وهذا الخلق الفاسد (الحرص) يُعدّ من لوازم الفطرة المحجوبة
ومن جنود الجهل، لأنّ جميع أسسه مقامة على الجهل، والجهل بحدّ ذاته ناشئٌ من احتجاب
الفطرة... وهذا يدفع الإنسان إلى التّعلّق بالدنيا، ويقوّي جذور شجرة حبّها في قلبه،
ويزيّن له زخارفها، ويروث فيه مجموعة من الأخلاق والأعمال القبيحة مثل البخل
والطمع"3.
فعندما تقوى الشّهوة وتستحكم في النّفس يزداد تعلّق الإنسان بمتاع الدّنيا (حتّى لو
كانت حقيرة ووضيعة)، ويزداد حرصه عليها فيشتدّ ولعه وتمسّكه بها، وعندئذٍ تصبح هذه
الأشياء جزءًا أساسيًّا في نفسه. فإذا طُلب منه العطاء كان كمن يُسلخ عنه جلده
ولحمه وربّما عظامه.
وعندما تحتجب فطرته فلا يرى بعدها حقيقة الكمال أو مظاهره الواقعيّة يضيق العالم في
عينيه، فيراه صغيرًا محدودًا جدًّا، ويرى حاله في حرمانٍ دائمٍ مهما كان يمتلك أو
يقتني، ولذلك قال أمير المؤمنين عليه السلام: "عَجِبْتُ لِلْبَخِيلِ يَسْتَعْجِلُ
الْفَقْرَ الَّذِي مِنْهُ هَرَبَ، وَيَفُوتُهُ الْغِنَى الَّذِى إِيَّاهُ طَلَبَ،
فَيَعِيشُ فِي الدُّنْيَا عَيْشَ الْفُقَرَاءِ، وَيُحَاسَبُ فِي الآخِرَةِ حِسَابَ
الاْغْنِيَاءِ"4.
عندما تجالس البخيل تراه يشكو دومًا من قلّة الموارد والنّعم، وليس هذا إلّا من
احتجاب الفطرة التي خلقها الله لكي تدرك الكمال اللامتناهي والجمال المطلق في عالم
الوجود. ولا شكّ بأنّ من استيقظت الفطرة فيه سيرى العالم كذلك، وعندها لن يكون من
خسارةٍ أو نقصان في أن ينفق القليل مقابل ما أعدّ الله له من كثيرٍ لا نهاية له،
﴿وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾5.
فلهذا نجد أمير المؤمنين عليه السلام يقول: "من أيقن بالخلف، جاد بالعطيّة"6.
مثل هذا الشّخص البخيل هو الذي حذّرنا من عشرته ومصاحبته ومشاورته، كما قال عليّ
عليه السلام: "وَلَا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلًا يَعْدِلُ بِكَ عَنِ
الْفَضْلِ وَيَعِدُكَ الْفَقْر"7.
ما هي عواقب البخل؟
لا يوجد مثل أولياء الله العارفين بحقائق الموجودات وأسرار العالم من يمكن أن
يدلّنا على عواقب البخل وآثاره.
1- البعد عن الله ودخول النّار
فعن الإمام الرّضا عليه السلام أنّه قال: "السَّخَاءُ شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ
أَغْصَانُهَا فِي الدُّنْيَا، فَمَنْ تَعَلَّقَ بِغُصْنٍ مِنْهَا أَدَّتْهُ إِلَى
الْجَنَّةِ، وَالْبُخْلُ شَجَرَةٌ فِي النَّارِ أَغْصَانُهَا فِي الدُّنْيَا فَمَنْ
تَعَلَّقَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا أَدَّتْهُ إِلَى النَّارِ أَعَاذَنَا اللَّهُ،
وَإِيَّاكُمْ مِنَ النَّارِ!"8.
وعن الإمام الصّادق عليه السلام أنّه قال: "صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ وَحُسْنُ
الْبِشْرِ يَكْسِبَانِ الْمَحَبَّةَ وَيُدْخِلَانِ الْجَنَّةَ، وَالْبُخْلُ
وَعُبُوسُ الْوَجْهِ يُبْعِدَانِ مِنَ الله وَيُدْخِلَانِ النَّارَ"9.
2- محق الدّين
وعنه عليه السلام أيضًا، أنّه قال: "مَنْ عَرَفَ الله خَافَهُ، وَمَنْ خَافَ الله
حَثَّهُ الْخَوْفُ مِنَ الله عَلَى الْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ وَالْأَخْذِ بِتَأْدِيبِهِ،
فَبَشِّرِ الْمُطِيعِينَ الْمُتَأَدِّبِينَ بِأَدَبِ الله وَالْآخِذِينَ عَنِ الله
أَنَّهُ حَقٌّ عَلَى الله أَنْ يُنْجِيَهُ مِنْ مَضَلَّاتِ الْفِتَنِ، وَمَا
رَأَيْتُ شَيْئاً هُوَ أَضَرُّ لِدِينِ الْمُسْلِمِ مِنَ الشُّح"10.
وقريبٌ من هذا المعنى، ما ورد في الكافي الشّريف، عن جعفر، عن أبيه، قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَا مَحَقَ الْإِسْلَامَ مَحْقَ الشُّحِ شَيْءٌ"، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ لِهَذَا الشُّحِ دَبِيباً كَدَبِيبِ النَّمْلِ، وَشُعَباً
كَشُعَبِ الشِّرَكِ"11.
3- الدّاء
وعندما يصبح البخل سجيّة عامّة وخصلة اجتماعيّة ذات أعراف ومبرّرات، فإنّه يسوق
المجتمع نحو أفظع الموبقات، كما فعل بقوم لوط، حيث جاء في حديث عن رسول الله أنّه
كان يتعوّذ من البخل، فقال: "نَعَمْ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، فِي كُلِّ صَبَاحٍ
وَمَسَاءٍ وَنَحْنُ نَتَعَوَّذُ بِاللَّهِ مِنَ الْبُخْلِ، الله يَقُولُ:
﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾12، وَسَأُخْبِرُكَ عَنْ
عَاقِبَةِ الْبُخْلِ: إِنَّ قَوْمَ لُوطٍ كَانُوا أَهْلَ قَرْيَةٍ أَشِحَّاءَ عَلَى
الطَّعَامِ، فَأَعْقَبَهُمُ الْبُخْلُ دَاءً لَا دَوَاءَ لَهُ فِي فُرُوجِهِمْ"13.
4- ذهاب الإيمان
وما يلفت نظرنا تلك التّصريحات الواردة في الأحاديث حول التّضاد الكامل بين الإيمان
والبخل، ففي حديث الإمام حول الصّادق عليه السلام قال: "الْمُؤْمِنُ لَا يَبْخَلُ،
وَإِنْ بُخِلَ عَلَيْهِ صَبَرَ"14.
أو ما جاء عنه عليه السلام: "لَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ جَبَاناً وَلَا حَرِيصاً
وَلَا شَحِيحاً"15.
وأيضًا قوله عليه السلام: "الْمُؤْمِنَ لَا يَكُونُ سَجِيَّتُهُ الْكَذِبَ
وَالْبُخْلَ وَالْفُجُورَ، وَرُبَّمَا أَلَمَّ مِنْ ذَلِكَ شَيْئاً لَا يَدُومُ
عَلَيْهِ"16.
وعندما نأتي إلى أصل هذه الشّجرة الطّيبّة، نراه صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "لَا
يَجْتَمِعُ الْإِيمَانُ وَالْبُخْلُ فِي قَلْبِ امْرِئ"17.
وقد عرفنا أنّ الإيمان بالله تعالى يعني شعور القلب بحضور الله في شؤونه الجماليّة
كالرّحمة واللطف والوهب والإنعام، ومن لم يلحظ هذا الحضور الإطلاقي في الوجود فليس
بمؤمن، قال الله تعالى:
﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا﴾18.
وأقلّ ما يُقال عن البخيل أنّه لو لاحظ هذه النّعمة المطلقة لما مُنع من الخير الذي
يأتيه من ربّه. والبخيل شخصٌ لا يؤمن أنّ ما لديه أمانة من ربّه إليه، ولو كان
يعتقد أنّ ما لديه هو من عند نفسه فهذا الأحمق بعينه.
5- منشأ كلّ سوء
ويكفي البخل شرًّا أنّه كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "الْبُخْلُ جَامِعٌ
لِمَسَاوِئِ الْعُيُوبِ، وَهُوَ زِمَامٌ يُقَادُ بِهِ إِلَى كُلِّ سُوءٍ"19.
المعالجة
وإذ عرفت التّضادّ بين البخل والإيمان، وأدركت أنّ البخل والجبن والحرص غرائز شتّى
يجمعها سوء الظّن بالله، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام، تعلم أنّ المظهر
الأعظم من هذا العار والقذارة المعنويّة هو أن نضع برنامجًا لحياتنا نزداد فيه
إيمانًا ونثبّت فيه الإيمان، ونجعل الإيمان هدفًا ساميًا لسعينا وجهادنا في هذه
الأرض.
ولا ينبغي أن يضلّك الشّيطان، فتظنّ أنّ هذا المرض لا علاج له، فعن الإمام الخمينيّ
قدس سره أنّه قال: "وأمّا القول المعروف بأنّ بعض الأخلاق السيّئة والرّذائل من
الأمور الذّاتيّة فلا يمكن تغييرها، وهو ممّا لا أصل له، بل هو كلامٌ فارغٌ صادرٌ
من قلّة التّدبّر. ومقولة عدم تغيّر الذاتيّات لا تصدق على هذا الباب، بل إنّ من
الممكن تبديل وتغيير جميع الصّفات الإنسانيّة بالرّياضات والمجاهدات، حتّى الجبن
والبخل والطّمع يمكن استبدالها بالشّجاعة والكرم والقناعة وعفّة النفس"20.
"إنّ النّبتة التي غُرست حديثاً يمكن لشخصٍ واحدٍ أن يقلعها، ولكن إذا ترسّخت
جذورها في الأعماق عجزت الأفلاك عن قلعها، وما أكثر ما يحدث أنّ خُلُقاً سيّئاً ،
مثل البخل أو الحسد ، يظهر في الشّاب الفتى، فيكون بالإمكان إصلاحه بقليل من
المراقبة والسّعي، بل واستبداله بالخلق الصّالح المقابل له، لأنّه ما يزال ضعيفًا
لم يترسّخ بعد، ولكن إذا غفل عنه صاحبه مدّة وتهاون في أمره احتاج الإصلاح إلى
رياضات شديدة، ومجاهدات شاقّة طويلة، قد لا يمهل الأجل المحتوم الإنسان المجاهد
لإكمالها، فيرحل إلى العالم الآخر بتلك الأخلاق المظلمة، والأرجاس المعنويّة، وهي
علّة ومنشأ الضّغطات والظّلمات في القبر والبرزخ والقيامة"21.
* دراسات أخلاقية - الأخلاق المذمومة، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- الأربعون حديثًا، ص 424.
2- جنود العقل والجهل، ص 89.
3- (م.ن), ص 211 - 212.
4- نهج البلاغة، ص491.
5- سورة المنافقون، الآية 7.
6- نهج البلاغة، ص494.
7- (م.ن), ص 430.
8- مستدرك الوسائل، ج7، ص 14، باب وجوب الجود والسّخاء بالزّكاة.
9- الكافي، ج2، ص103.
10- بحار الأنوار، ج67، ص 400.
11- الكافي، ج4، ص45.
12- سورة الحشر، الآية 9.
13- مستدرك الوسائل، ج7، ص30.
14- الكافي، ج2، ص 226.
15- وسائل الشيعة، ج9، ص40.
16- الكافي، ج2، ص 442.
17- مستدرك الوسائل، ج7، ص 26.
18- سورة إبراهيم، الآية 34.
19- نهج البلاغة، ص543.
20- جنود العقل والجهل، ص 60.
21- (م.ن), ص 153.