يتم التحميل...

المتخلّفون عن الفتح

برقية الحسين

الملاحَظ في برقيّة الإمام الحسين عليه السلام إلى بني هاشم أنه عليه السلام جعل المقابلة بين الشهداء والمتخلفين عن الفتح، ولم يكُن في مقام الحديث عن المشاركين في قتاله الذين هم أسوأ حالاً ممَّن أخبر الإمام الحسين عليه السلام عن مصيرهم بنصِّه

عدد الزوار: 99

الملاحَظ في برقيّة الإمام الحسين عليه السلام إلى بني هاشم أنه عليه السلام جعل المقابلة بين الشهداء والمتخلفين عن الفتح، ولم يكُن في مقام الحديث عن المشاركين في قتاله الذين هم أسوأ حالاً ممَّن أخبر الإمام الحسين عليه السلام عن مصيرهم بنصِّه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من سمع داعية أهل بيتي، ولم ينصرهم على حقّهم إلا أكبّه الله على وجهه في النار."

وإذا استثنينا المشاركين في الجيش القتالي، وبلحاظ استقراء تاريخ النهضة الحسينية، يمكن تصنيف المتخلفين عن الفَتْح إلى أصناف سبعة:

1- من التحق به من بداية التحرّك من مكة، لكنه انسحب أثناء الطريق.
2- من دعاه الإمام الحسين عليه السلام لنصرته أثناء توجهه إلى العراق، فلم يُلبِّ دعوة النصر.
3- من اشترك في جزء من القتال، وانسحب قبل استشهاد الإمام الحسين عليه السلام.
4- من علم بخروج جيش ابن سعد لقتال الإمام الحسين عليه السلام، ولم يتحرَّك ناصراً.
5- من هرب من جيش عمر بن سعد قبل بدء القتال.
6- من شاهد الملحمة، ولم ينصر الإمام الحسين عليه السلام.
7- من لم يلتحق بالإمام الحسين عليه السلام من بداية تحركه الأول، وهو متوجِّه نحو العراق.


وسنتحدث عن هؤلاء الأصناف في نقاط ثلاث:
الأولى: ذكر نماذج منهم.
الثانية: أسباب عدم الالتحاق.
الثالثة: مصير المتخلّفين في الآخرة.


الصنف (1): من التحق به من بداية التحرك من مكة، وانسحب أثناء الطريق

فقد ذكرت كتب التاريخ أنّ كثيراً من الناس التحق بالإمام الحسين عليه السلام وهو في طريقه من مكة إلى العراق، منهم من ثبت في الركب الحسيني كالمجاهدين البصريين السبعة الذين التحقوا بالركب بعد خطبة يزيد بن نبيط العبدي في البصرة في بيت مارية بنت منقذ الموالية لآل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد انتدب من أولاده العشرة للجهاد اثنين هما عبد الله وعبيد الله، وقال أمام جمع الحاضرين في بيت مارية: "إني قد أزمعت على الخروج، وأنا خارج فمن يخرج معي؟"

فتضامن معه عددٌ قليل، وقال آخرون: "إنّا نخاف عليك أصحاب ابن زياد"، ذلك لأنّ حدود البصرة قد أُقيمت عليها المراصد للقبض على من يخرج، لكنه أصرّ على الخروج قائل: "إني والله، لو قد استوت أخفافها بالجدد، لهان عليَّ طلب من طلبني".

ثم انطلق مع ولديه وعامر بن مسلم العبدي،ومولى عامر، وسيف بن مالك العبدي، والأدهم بن أمية العبدي، فكانت عِدَّتهم سبعة التحقوا بالركب الحسيني في منطقة يقال لها "الأبطح" من مكة، وثبتوا إلى أن قضوا نحبهم عُشَّاقاً شهداء.

وحينما وصل الركب الحسيني إلى حي "جهينة"، تسّرب خبره بين منازل الحي، فلحق به عدد من الأعراب، ومن بينهم مجمع ابن زياد الجهني الذي شهد بدراً وأحداً.

وفي منطقة "زرود" التحق زهير بن القين البجلي بعد أن التقى بالإمام الحسين عليه السلام، وكان في هذا اللقاء بُشرى من الإمام الحسين عليه السلام بالشهادة والفوز بالجنة من خلال حديث طالت عليه الأيام ونسيه زهير. بعدها رجع زُهير إلى أهله وأصحابه في القافلة، ليأخذ متاعه، ويُخبرهم بذلك الحديث، فقال لهم: "من أحبّ منكم أن يتبعني، وإلا فهو آخر عهدٍ مني، إني سأحُدِّثكم حديثاً أنَّا غزونا "بلنجر" من بلاد الخزر، ففتح الله علينا، وأصبنا غنائم، ففرحنا، فقال لنا سلمان الفارسي رحمة الله عليه: "أفرحتم بما فتح الله عليكم، وأصبتم من الغنائم؟. قلن: نعم، قال: "إذا أدركتم سيّد شباب آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معه مما أصبتم من الغنائم". ولم يستجب لحديثه الذي حدّثهم به سوى ابن عمه سليمان بن مضارب البجلي، فالتحقا معاً بالركب الحسيني، وغادر الآخرون. وتابع الركب الحسيني طريقه نحو العراق، وكان الكثير من الناس والأعراب ينضمُّون إليه.

ملامح الخطر

بعد هذا بدت معالم الخطر تظهر، ففي منطقة "الصفاح" أو منطقة"ذات عرق" التقى الإمام الحسين عليه السلام بالفرزدق الذي وصف له أهل الكوفة بقوله: "قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أمية".
لكنّ الإمام عليه السلام أكدّ تصميمه أمام الفرزدق بأبيات شعر قال فيه:
لئن تكنِ الدنيا تُعَدُّ نفيسةً فدارُ ثوابِ اللهِ أعْلى وأنبلُ
وإن كانتِ الأبدانُ للموتِ أُنشئتْ فقَتْلُ امرئٍ بالسيفِ في اللهِ أفضلُ
وإن كانتِ الأرزاقُ شيئاً مقدّراً فقلَّةُ سعيِ المرء في الرزقِ أجملُ
وإن كانتِ الأموال للترك جَمْعُها فما بال متروكٍ به المرءُ يبخلُ!


وقد فهم الفرزدق عزم الإمام عليه السلام، لكنه لم يلتحق به، بل سلّم وانصرف، فحرم نفسه من الفتح.

وبعيداً عن ملاقاة النّاس، وفي منطقة "الثّعلبيّة"، شاهد الإمام الحسين عليه السلام رؤيا عبّر عنها قائلاً لمن معه بشفافيته المعهودة: "رأيتُ فارساً وقف عليَّ، وهو يقول: أنتم تسيرون والمنايا تُسرع بكم إلى الجنّة، فعلمت أنّ أنفسنا قد نُعيت إلينا". وهنا انبرى نجله علي الأكبر متفائلاً قائلاً لأبيه: "أفلسنا على الحق"؟!. فأجابه الإمام عليه السلام: "بلى، يا بني، والّذي إليه مرجع العباد" فقال علي الأكبر: "إذاً لا نبالي بالموت".

خبر سقوط الكوفة

وفي منطقة زبالة علم الإمام الحسين عليه السلام بسقوط الكوفة، واستشهاد مسلم بن عقيل، وهانئ بن عروة، وعبد الله ابن يقطر، فقام خطيباً بين أتباعه، والملتحقين به، وقال لهم بكل شفافيّة: "بسم الله الرّحمن الرّحيم،أمّا بعد، فإنّه قد أتاني خبر فظيع،قتل مسلم بن عقيل،وهانئ بن عروة، وعبد الله بن يقطر، وقد خذلتنا شيعتنا، فمن أحبَّ منكم الانصراف فلينصرف في غير حرج، ليس عليه ذمام".

ينقل ابن جرير الطّبري عن أبي مخنف تعقيباً على خطاب الإمام عليه السلام: "فتفرّق النّاس عنه تفرّقاً، فأخذوا يميناً وشمالاً حتّى بقي من أصحابه الّذين جاؤوا معه من المدينة".

وأسباب انسحاب هؤلاء واضحة، فهم لم يكونوا عقائديين في التحاقهم بالرّكب الحسيني، بل التحقوا به ظنّاً منهم أنّه قادم على بلد قد استقامت له طاعة أهله، فيكونون معه من الظّافرين بالمكاسب الدّنيويّة، أمّا بعد أن ظهر خلاف ذلك، فقد فقدوا ذلك المسوِّغ للالتحاق، وبالتّالي لم يبلغوا الفتح.

الصنف(2): من دعاه الإمام الحسين عليه السلام لنصرته أثناء توجهه إلى العراق، فلم يُلبِّ دعوة النصرة.

التقى الإمام الحسين عليه السلام بعدّة أشخاص أثناء طريقه،ودعاهم إلى نصرته،إلاّ أنّ قسماً من هؤلاء لم يستفد من الفرصة التّاريخيّة ليكون من الفاتحين، فلم يلبّ دعوة النّصرة، إمّا خاذلاً أو مقدّماً أموراً أخرى على الالتحاق المبكر، ونعرض من هؤلاء النماذج التالية:

1- الطرماح بن عديّ الطّائي
كان الطرماح دليل مجموعة من المجاهدين الّذين التحقوا بالرّكب الحسيني بعد محاصرته من قبل الحرّ بن يزيد الرّياحي، ومن هذه المجموعة نافع بن هلال المرادي، وعمرو بن خالد الصّيداوي، وسعد بن عبد الله مولى عمرو، وجنادة أو جابر بن الحارث السّلماني، ومجمع بن عبد الله العائذي، وولده عائذ.

وعلى الرغم من وضوح الشخصية الإيمانية الجهادية عند الطرماح، إلا أنَّ بعض ما ورد في تاريخه يؤثِّر في الحكم عليه بلحاظ منسوب الوعي، وترتيب الأولويات.

فهو ناشد الإمام الحسين عليه السلام أن لا يُقدم على أهل الكوفة قائل: "فأَنشُدُك الله إن قدرت على أن لا تقدم عليهم شبراً إلا فعلت".

وكذلك اقترح على الإمام الحسين عليه السلام الذهاب إلى قبيلة "طيِّئ" عند جبل "أجا". وتكفَّل للإمام عليه السلام بعشرين ألف طائي يقاتلون بين يديه، فقال له: "إن أردت أن تنزل بلداً يمنعك الله به حتى ترى من رأيك، ويستبين لك، فَسِرْ حتى أنزلك مناع جبلنا الذي يُدعى "أجا"، امتنع به -والله-ملوك غسّان وحِمْيَر من النعمان بن المنذر أو من الأسود والأحمر. والله إنْ دخَلَ علينا ذلٌّ قَطّ، فأسير معك حتّى أنزلك القرية، ثم نبعث إلى الرجال ممن بـ "أجا" و"سَلَمى" من "طيِّئ"، فوالله لا يأتي عليك عشرة أيام حتى يأتيك "طيِّئ" رجالاً وركباناً، ثم أقم فينا ما بدا لك، فإن هامك هيج، فأنا زعيم لك بعشرين ألف طائي يضربون بين يديك بأسيافهم، والله لا يوصَل إليك أبداً ومنهم عين تطرف".

ومن الطبيعي، ولأسباب عديدة أن يرفض الإمام الحسين عليه السلام هذا الاقتراح، وهو الذي حصل.

ثم إنّ الطرماح واكب الركب الحسيني في مسيره متصدِّياً فيه لدور الدليل، وهو يحدو بنشيد جميل يقول فيه:
يا ناقتي لا تُذعري من زجري وشمِّري قبل طلوع الفجرِ
بخير ركبانٍ وخير سَفرِ حتى تَحلِّي بكريم النّجر
الماجد الحُرِّ رحيب الصدر أتى به الله لخير أمر

وقد قيل: إنَّ الطرماح بن عدي كان من بين شهداء كربلاء، وهذا يُخرجه من الصنف الثاني، ويُدخله في الفاتحين، إلا أنَّ ابن جرير الطبري روى عن ابن مخنف عن جميل بن مرثد أنّ الطرماح أخبره أنه ترك الركب الحسيني بحجّة أنّ معه مؤونة ونفقة لعياله يريد أن يوصلها إليهم، ثم بعد ذلك يرجع لنصرة الإمام الحسين عليه السلام. والنص الوارد عن الطرماح في حديثه مع جميل هو: "فودّعته-أي الإمام الحسين عليه السلام -، وقلت له: دفع الله عنك شر الجنّ والإنس، إني قد امترت لأهلي من الكوفة ميرة، ومعي نفقة لهم فآتيهم، فأضع ذلك فيهم، ثم أُقبل إليك إن شاء الله، فإن ألحقك، فو الله لأكوننّ من أنصارك. قال عليه السلام: فإن كنت فاعلاً فعجّل رحمك الله... فلمّا بلغت أهلي، وضعت عندهم ما يصلهم وأوصيت، فأخذ أهلي يقولون: إنك لتصنع مرّتك هذه شيئاً ما كنت تصنعه قبل اليوم، فأخبرتهم بما أريد، وأقبلت في طريق "بني ثُعل" حتّى إذا دنوت من "عُذيب الهِجانات" استقبلني سُماعة ابن بدر، فنعاه إليّ، فرجعت".

فعلى صحة هذه الرواية، فإنّ الطرماح على رغم حسن سريرته، إلا أنه لم يرتِّب أولوياته جيداً، ففوَّت عليه أعظم فرصة في حياته بأن يكون من العشَّاق الشهداء الذين لا يسبقهم أحد قبلهم ولا يلحقهم أحد بعدهم.

2- عبيد الله بن الحر الجحفي
وصل الركب الحسيني إلى منطقة "قصر بني مقاتل"، حيث كان هناك فسطاط مضروب، وأمامه رمح قد غرس في الأرض وقباله فرس. إنه فسطاط عبيد الله بن الحر الجحفي (أو الجعفي بحسب رواية الطبري) إحدى شخصيات الكوفة المعروفة، فأرسل الإمام الحسين عليه السلام أحد أنصاره وهو الحجّاج بن مسروق الجعفي الذي دخل عليه مبشِّراً بقوله: "قد أهدى الله إليك كرامة" فسأل عبيد الله عنها، فأجابه الحجاج: "هذا الحسين بن علي يدعوك إلى نصرته، فإن قاتلتَ بين يديه أُجرت، وإن متَّ فقد استشهدت". فإذا بالجحفي يجيب بصراحة: "ما خرجت من الكوفة إلا مخافة أن يدخلها الحسين عليه السلام وأنا فيها لا أنصره".

رجع الحجّاج يجيب إمامه بمقولة ابن الحر، فإذا بالإمام الحسين عليه السلام يذهب بنفسه إلى عبيد الله ويقول له: "يا بن الحر، فاعلم أنّ الله عز وجلّ مؤاخذك بما كسبت، وأسلفت من الذنوب في الأيام الخالية، وأنا أدعوك في وقتي هذا إلى توبةٍ تغسل بها ما عليك من ذنوب،... أدعوك إلى نصرتنا أهل البيت".

وبعد أن فتح الإمام الحسين عليه السلام لابن الحر باباً واسعاً من أبواب الجنة، إذا بعبيد الله يعبِّر عن ازدواجية بين اعتقاده ومسلكه فقال للإمام: "والله إني لأعلم أنّ من شايعك كان السعيد في الآخرة، ولكن ما عسى أن أغني عنك، ولم أخلِّف لك بالكوفة ناصراً، فأنشدك بالله أن تحملني على هذه الخطة، فإنَّ نفسي لم تسمح بعدُ بالموت، ولكن فرسي هذه المُلحقة، والله ما طلبت عليها شيئاً قطّ إلا لحقته، ولا طلبني أحد وأنا عليها إلا سبقته، فخذها فهي لك".

إنه تعبير واضح عن كون مشكلة هذا المتخلِّف ليست في المعرفة، فهو يعتقد بأحقيّة الإمام الحسين عليه السلام، وأنَّ من اتبعه كان السعيد في الآخرة.

ولكنه أيضاً تعبير واضح عن تعلّقه بالدنيا الذي جعل نفسه متمسكة بها رافضة الشهادة.

وقد ختم الإمام الحسين عليه السلام لقاءه مع عبيد الله بن الحرّ بقوله: "إن استطعت ألَّا تسمع صراخنا، ولا تشهد وقعتنا فافعل، لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: من سمع داعية أهل بيتي ولم ينصرهم على حقِّهم، إلَّا أكبّه الله على وجهه في النار".

3- عمرو المشرقي وابن عمّه
وفي نفس المنطقة أي قصر بني مقاتل التقى الإمام الحسين عليه السلام بعمرو بن قيس المشرقي، وبابن عم له كان معه، فسلّما عليه، فقال لهم: "أجئتما لنصرتي"؟ فأجابا بالنفي مسوِّغين: "لا، إنّا كثيرو العيال، وفي أيدينا بضائع للناس، ولم ندر ماذا يكون، ونكره أن نضيِّع الأمانة".

إنَّ هذا المنطق يُلبس خذلان الحقّ لبوس عناوين دينية كالمحافظة على الأمانة، واجتماعية ككثرة العيال تاركين أمانة الله العظيمة المتمثّلة بالإمام الحسين عليه السلام الذاهب مع كثرة عياله إلى المذبح الإلهي.

وأيضاً ختم الإمام الحسين عليه السلام لقاءه معهما بنصيحته المعهودة "انطلقا، فلا تسمعا ولا تريا لي سواداً، فإنه من سمع واعيتنا أو رأى سوادنا، فلم يجبنا، أو يُعنّا كان حقّاً على الله عزَّ وجلّ أن يكبّه على منخريه في النار".

الصنف(3): من اشترك في جزء من القتال، وانسحب قبل شهادة الإمام عليه السلام

من جملة من التقاه الإمام الحسين عليه السلام أثناء طريقه الضحّاك بن عبد الله المشرقي الذي ورد أنّه لبّى دعوة الإمام الحسين عليه السلام إلى نصرته، لكن بشرط عبَّر عنه بقوله الذي رواه ابن جرير الطبري: "أقاتل عنك ما رأيت مقاتلاً، فإذا لم أرَ مقاتلاً، فأنا في حلٍّ من الانصراف" فقبل الإمام الحسين عليه السلام ذلك، وبالفعل ذكر الضحَّاك حسبما رواه عنه عبد الله بن عاصم، أنه لما رأى أصحاب الحسين عليه السلام قد أصيبوا، ولم يبقَ مع الإمام غير أهل بيته ورجلين، ذكّر الإمام بالشرط، فأذن له الإمام عليه السلام بالانصراف، فأقبل وركب فرسه التي كان قد خبّأها في فسطاط، ورمى بها عُرض القوم فأفرجوا له، واتَّبعه منهم خمسة عشر رجلاً لحقوه إلى أن عرفه بعض أولاد عمِّه الذين ناشدوا المقاتلين أن يكفُّوا عنه.

قد نجا الضحّاك بجسده، لكنّه حرم نفسه من الفَتْح العظيم، وأن يكون مع أولئك العشّاق الشهداء.

الصنف(4): من علم بخروج جيش ابن سعد لقتال الإمام الحسين عليه السلام، ولم يتحرّك ناصراً

وهذا الصنف يشمل الكثير من أهل الكوفة وغيرهم ممن علموا بذلك، ومن هؤلاء بعض الشخصيات المعروفة في المجتمع الذين كان سبب عدم تحرّكهم الخوف والجبن، وليس كونهم في السجن، كما هو حال غيرهم.

وقد ذكر العلامة السيد محسن الأمين في كتابه أعيان الشيعة أنّ من بين الشخصيات التي لم تتحرَّك لنصرة الإمام الحسين عليه السلام بسبب الخوف من ابن زياد سليمان بن صرد الخزاعي، وقد ندم سليمان بعد العاشر من المحرم أشدّ الندم، إلى أن قاده ندمه إلى قيادة ثورة التوَّابين التي خطب في رجالها بما يعبّر عن انقلابه النفسي الذي أحدثته فيه نهضة الإمام الحسين عليه السلام في عاشوراء، فقد قال لهم: "ألا انهضوا، فقد سخط عليكم ربُّكم، ولا ترجعوا إلى الحلائل والأبناء حتى يرضى الله، والله ما أظنّه راضياً دون أن تناجزوا من قتله، ألا لا تهابوا الموت، فما هابه أحد قطّ إلا ذلّ".

الصنف(5): من هرب من جيش عمر بن سعد قبل بدء القتال

يذكر تاريخ كربلاء أنّ أحد جنود عمر بن سعد وهو هرثمة بن سلمى، حينما وصل إلى كربلاء تذكّر موقفاً لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام حينما كان مارَّاً بكربلاء، أثناء معركة عسكرية حضرها هرثمة نفسه، وشهد نزول الإمام علي عليه السلام بكربلاء عند بلوغها، حيث صلّى تحت شجرة هناك، ولما فرغ عليه السلام من صلاته رآه هرثمة بأمِّ عينيه قد أخذ من تراب تلك الأرض، وشمّها، ثم قال مستشرفاً المستقبل: "واهاً لك من تربةٍ، لَيُقتلنَّ بك قوم يدخلون الجنّة بغير حساب". فما كان من هرثمة إلا أن جاء إلى الإمام الحسين عليه السلام وحدّثه بما تذكَّره، فسأله الإمام عن انتمائه: "معنا أم علينا؟"إلا أنّ تعلق هرثمة بالدنيا أدّى به إلى أن يجيب الإمام عليه السلام: "لا معك ولا عليك، تركت عيالاً..."، فختم معه الإمام حديثه بما ختمه مع غيره: "ولِّ في الأرض فوالذي نفس حسين بيده، لا يشهد قتلنا اليوم رجل إلا دخل جهنّم"، فانهزم هرثمة هارباً.

من الواضح أنّه لم تنقص هرثمة معرفة، فما تذكَّره كافٍ في انقلاب الإنسان إلى ضفَّة الحق، إلا أنّ ذلك لم ينفعه. فحاله بعكس ذلك الرجل الذي سمع أيضاً بأنّ الإمام الحسين عليه السلام سيُقتل في كربلاء، ولكنه لم يعرف تاريخ ذلك، فما كان منه إلا أن رابط في الصحراء يراقب كربلاء مصمِّماً على الالتحاق بالإمام عليه السلام..

وقد روى ابن عساكر قصة هذا الرجل عن العريان بن الهيثم الذي قال: "كان أبي ينزل قريباً من الموضع الذي كانت فيه الطّف، وكنّا لا نجتاز في ذلك المكان إلا وجدنا رجلاً من بني أسد مقيماً هناك.. فقال له أبي: إني أراك ملازماً هذا المكان ؟ فقال له: بلغني أنّ حسيناً يُقتل ههنا، فإنما أخرج، لعلِّي أصادفه، فأُقتل معه". ويذكر العريان بن الهيثم أنَّ والده قد اصطحبه عقيب انتهاء الواقعة ليبحثا عن ذلك الرجل الأسدي، فوجدوه مع الشهداء الفاتحين.

الصنف(6): من شاهد الملحمة ولم ينصر الإمام عليه السلام

ذكر المؤرّخون أنّه - أثناء الملحمة الحسينية - وقف أشياخ من أهل الكوفة على التل يبكون ويقولون: "اللهمّ أنزل نصرك". إنّها العاطفة المجردة عن السلوك، والدّمعة المجرّدة عن الصدق العملي.

الصنف(7): من لم يلحق بالركب الحسيني من بداية التحرك

وقد تقدّم أنّ من بين هؤلاء رجالاً كباراً في المجتمع، كابن عباس الذي قال للإمام الحسين عليه السلام: "أتخوَّف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال"، وعبد الله بن جعفر الذي خاطب الحسين عليه السلام قائل: "إني أسألك الله لمّا انصرفت حين تقرأ كتابي هذا، فإني مشفق عليك في هذا الوجه أن يكون فيه هلاكك، واستئصال أهل بيتك".

وأمثال هذين لا يمكن تصنيفهم مع الذين منعتهم الدنيا من الالتحاق بالإمام، بل كانت لهم منطلقات أخرى نتحدّث عنها في البحث الآتي.

الأسباب الحقيقية للمتخلِّفين عن الفتح

لاحظنا خلال التعرّض المختصر للأصناف السبعة للمتخلِّفين عن الفَتْح الحالات التالية:
حالة عدم الالتحاق من قِبَل أُناس لا يُتَّهمون بالتعلّق بالدنيا.
حالة عدم الالتحاق بصمت، لكن مع وضوح السبب وهو الخوف من ابن زياد، وهو حال أكثر أهل الكوفة الباقين،ومنهم سليمان ابن صرد على ما تبنّاه السيد محسن الأمين.
حالة عدم الالتحاق، لكن ببكاء ودعاء بالنصرة، كما في أشياخ التلّ.
حالة انسحاب البعض بصمت أيضاً، لكنّ ظرف الانسحاب يوضح الأسباب، كالانسحاب الكبير الذي حصل في "زبالة" بعد خبر سقوط الكوفة.
حالة انسحاب مع تسويغ ذلك بعدم وجود العدد الكافي من المقاتلين، كما حصل مع الضحَّاك.
حالة انسحاب على أمل الرجوع، بحجة إيصال نفقة للعيال، كما حصل مع الطرماح.
حالة رفض الالتحاق ونصرة الإمام عليه السلام، بحجة كثرة العيال، وهذا منطق العديد من المتخلِّفين.
حالة رفض الالتحاق ونصرة الإمام عليه السلام، بحجة دينية هي المحافظة على أمانة الناس، كما حصل مع عمرو المشرقي وابن عمّه.
حالة رفض الالتحاق ونصرة الإمام، مع تسويغ ذلك بعدم الاستعداد للموت، كما حصل مع عبيد الله بن الحرّ.

ومع كثرة هذه الحالات، فإنّه يمكن إرجاع الأسباب الحقيقية الكامنة وراءها إلى سببين:
الأوّل: التعلّق بالدنيا الغاية.
الثاني: عدم الوعي الكافي.

السبب الأول: التعلق بالدنيا الغاية
وهو سبب تخلُّف أكثر الناس عن الفتح. وهو الذي أفصح عليه السلام به لأصحابه في كربلاء، قائل: "الناس عبيد الدنيا، والدِّين لعقٌ على ألسنتهم، يَحوطُونه ما درَّت معايشُهم، فإذا مُحصُوا بالبلاء قلَّ الديّانون"

وهو السبب الذي ركّز عليه الإمام الحسين عليه السلام في الخطبة الأولى يوم العاشر من المحرّم، فقال عليه السلام بصوتٍ عالٍ: "أيّها النّاس اسمعوا قولي، ولا تعجلوا حتّى أعظكم بما هو حقّ لكم عليّ...

عباد الله اتقوا الله، وكونوا من الدّنيا على حذر، فإنّ الدّنيا لو بقيت على أحد، أو بقي عليها أحد لكانت الأنبياء أحقّ بالبقاء، وأولى بالرضا، وأرضى بالقضاء، غير أنّ الله خلق الدّنيا للفناء، فجديدها بالٍ، ونعيمها مضمحلّ، وسرورها مكفهرّ، والمنزل تلعة، والدار قلعة، فتزوّدوا، فإنّ خير الزاد التقوى، واتقّوا الله لعلكم تفلحون.

أيّها الناس، إنّ الله تعالى خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال، متصرِّفة بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور من غرّته، والشقيّ من فتنته، فلا تغرّنَّكم هذه الحياة الدّنيا، فإنّها تقطع رجاء من ركن إليها وتخيِّب طمع من طمع فيها....

إنّه تحذير ينطلق من السبب الحقيقي لخذلان ذلك المجتمع ومحاربته الحق، والذي صرَّح به قائد جيش ابن زياد عمر بن سعد في بيتَيْ شعر قال فيهم:
أأترك ملك الريِّ والريُّ بُغيتي أم أرجع مأثوماً بقتل حسينِ؟
وفي قتله النار التي ليس دونها حجاب وملك الريّ قُرّة عيني

فهذا الرجل يخيّر نفسه بين ملك تلك المنطقة الإيرانية التي وُعد بملكها إن قتل الإمام الحسين عليه السلام، وبين قتل سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الموجب باعتقاده لنار جهنّم، ومع ذلك يستسلم لمُلْك الريّ.

والإمام الحسين عليه السلام في خطبته يجيبه ويعظ جيشه المبتغي للدّنيا بتوصيف قرآني لها، فهي دار فناء وزوال تتصرّف بأهلها حالاً بعد حال وكما قال الله تعالى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا.

وقال تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُور.

إنَّ الإمام الحسين عليه السلام وعظهم في خطبته أن يتركوا الدنيا التي جعلوها غاية لهم، بدل أن يجعلوها وسيلة للآخرة ليبصروا الحقيقة من خلالها، كما ورد على لسان أمير المؤمنين عليه السلام عن الدّني: "من بَصُر بها بصّرته ومن أبصر إليها أعمته". فالناظر إلى الدنيا على أساس "إلى" أي تكون غايته، فإن الدّنيا عندها ستكون بتلك الصفات التي ذكرها الإمام علي عليه السلام بأقواله: "الدنيا سوق الخسران" "الدنيا مصرع العقول" "الدنيا معدن الشرّ ومحل الغرور"."الدّنيا مزرعة الشرّ".

أما الناظر إلى الدنيا على أساس "الباء"، أي يعتبرها وسيلة إلى الآخرة، فإنها ستكون بالنسبة إليه بالصفات الأخرى التي ذكرها الإمام علي عليه السلام بقوله: "الدّنيا دار صدق لمن صدَقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوّد منها، ودار موعظة لمن اتّعظ بها، مسجد أحبّاء الله، ومصلّى ملائكة الله، ومهبط وحي الله، ومتجر أولياء الله، اكتسبوا فيها الرحمة، وربحوا فيها الجنّة".

إنّ مشكلة الكثير من أولئك المتخلفين عن الفَتْح فضلاً عن القتلة أنّهم تعلّقوا بدنيا الغاية، فأحبّوها حبّاً شدّهم عن الله تعالى إليها، حتّى وصلوا إلى مرحلة خذلان الحقّ في أدّق مراحل التاريخ.

فحبُّهم للدّنيا لم يكن ذلك الحبَّ الذي من خلاله يحبُّ الانسان جمع المال، لينفق على عياله، ويعيش بكرامة بين الناس، ويصل به رحمه، ويقضي به حوائج الناس.

لم يكن ذلك الحبّ الذي من خلاله يحبّ الإنسان الأولاد، فيربِّيهم على طاعة الله.

لم يكن ذلك الحبّ الذي ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال عنه "الناس أبناء الدّنيا، ولا يُلام رجل على حُبّ أمّه".

بل كان حبُّهم للدنيا هو الحبَّ الذي من خلاله تركوا أبا عبد الله الحسين عليه السلام ومَنْ معه يذهبون إلى مذبح الشهادة، بدون أن يحرِّكوا ساكناً في نصرته.

كان حبُّهم للدّنيا سبباً لتركهم الظّالم يستبيح قتل الناس بالباطل، وتشريدهم وإباحة أموالهم، بل نسائهم في بعض المحطَّات، بدون أن يحرِّكوا ساكناً لمناهضته.

كان حبُّهم للدّنيا سبباً لسكوتهم وتقاعسهم، وهم يرون دين الله يحرَّف في أذهان الأجيال الصاعدة، وقيمه تتبدَّل في كتاتيب أبنائهم، وقدوته تشوّه في عقول الناس.

كان حبُّهم للدّنيا مصداقاً لحبِّها الوارد في الحديث القدسي عن الله عزّ وجلّ: "لو صلّى العبد صلاة أهل السماء والأرض، ويصوم صوم أهل السماء الأرض، ويطوي من الطعام مثل الملائكة، ولبس لباس العاري، ثمّ أرى في قلبه من حبّ الدُّنيا ذرّة، أو سعتها، أو رئاستها، أو حليّها، أو زينتها، لا يجاورني في داري، ولأنزعنّ من قلبه محبتي".

كان حبّهم للدنيا مصداقاً لحبِّها الوارد في وحي الله تعالى لكليمه موسى عليه السلام حينما مرّ برجل وهو يبكي، ثمّ رجع وهو يبكي، فقال: "إلهي عبدك يبكي من مخافتك"، فقال الله تعالى له: "يا موسى، لو بكى حتّى نزل دماغه مع دموع عينيه، لم أغفر له، وهو يحبُّ الدّنيا".

إنّ كثيراً من المتخلفين عن الفَتْح كان سبب تخلّفهم الأساسي هو هذا الحُبّ والتعلّق بدنيا الغاية التي أعمت قلوبهم فأصبحوا بلا بصيرة.

السبب الثاني: عدم الوعي الكافي
لكنّ التعلق بدنيا الغاية لا يصحّ أن نعمِّمه على جميع المتخلفين عن الفَتْح -كما قلنا سابقاً- وفيهم من عُرفوا بإيمانهم والتزامهم وإذعانهم للتكليف الشرعي.

فما هو سبب تخلّف هؤلاء ؟

أستعين في الجواب بكلام للإمام علي الخامنئي دام ظلّه الشريف يتحدّث فيه عن هؤلاء قائل: "كان هناك أشخاص مؤمنون ملتزمون بين الذين لم ينهضوا مع الإمام الحسين عليه السلام... فليس من الصحيح أن يُعَدّوا جميعاً من أهل الدّنيا، لقد كان بين رؤساء ورموز المسلمين في ذلك الوقت أشخاص مؤمنون وأشخاص يذعنون بالعمل وفقاً للتكليف الشرعي، لكنّهم لم يدركوا التكليف الرئيسي، ولم يشخِّصوا أوضاع ذلك الزمان، ولم يعرفوا العدوّ الرئيسي، وكانوا يخلطون بين الوظيفة الرئيسية، والوظائف التي هي من الدرجة الثانية والثالثة".

لكن مما لا شك فيه أنهم مخطئون، وأنَّ هؤلاء لم يدركوا تكليفهم الصحيح، وأنّهم حرموا أنفسهم من الفَتْح العظيم، إلاّ أنّ ذلك لا يعني أنّهم أهل دنيا، بل كانت مشكلتهم في محلّ آخر يرتبط بتحديد التكليف الشرعي للأمّة في ضوء أوضاع ذلك الزمان. فبعض هؤلاء كان يرى أنّ الأولوية هي في حماية شخص الإمام الحسين عليه السلام والمحافظة عليه، لذا نصحوه أن يذهب إلى أمكنة فيها أمان لنفسه، في مقابل رؤية الإمام المعصوم عليه السلام بأنّ الأولوية هي حفظ الدّين، وإن كلّف ذلك شهادة الإمام المعصوم عليه السلام.

من الصعب أن تُفهَم مشكلة هؤلاء المؤمنين بحدٍّ أقلّ من كونهم سمحوا لأنفسهم بتشخيص وتحديد التكليف الشرعي الولائي مع وجود المعصوم المحدِّد لذلك، بين ظهرانيهم، فلعلّ ذلك كان لعدم فهمهم ما حدَّده الإمام عليه السلام من تكليف.

هذا على مستوى الخلفية النظرية لتكليف الأمة الشرعي.

لكن يُلاحَظ من بعض الحالات المتقدمة أنّ بعض المتخلفين حرم نفسه من الفَتْح لعدم ترتيب أولوياته العملية، من دون علاقة ذلك بقضية التكليف العامّ للأمة، والوظيفة الرئيسية لها. فالطرماح لم يكن عنده مشكلة في ذلك، كما يبدو من سيرته التي نقلنا بعضها، لكنّ مشكلته كانت في تسامحه في ترتيب أولوياته بلحاظ حساسية الوقت، فهو قدّم ذهابه لإعطاء أهله النفقة، بنيَّة الرجوع للنصرة على البقاء مع الإمام عليه السلام، فذهب ورجع ولكنه كان متأخراً، فحرم نفسه من الفتح.

مصير المتخلّفين عن الفتح

أؤكد في البداية أنّ الكلام هنا لا يشمل القتلة، بل الأصناف السبعة السابقة، فما هو مصير هؤلاء ؟

بناء على ما تقدم لا يصحّ أن يُجاب عن الأصناف السابقة بجواب واحد، فقضية المصير من القضايا الحساسة التي تخضع لمعايير دقيقة.

وقد يجيب البعض بأنّ مصير من حضر وسمع الداعية بدون نصرة، فمصيره جهنم، وهذا ما أكده الإمام الحسين عليه السلام لأكثر من متخلّف كما مرّ، ومن ذلك ما قاله لابن الحرّ"إن استطعت ألاّ تسمع صراخنا، ولا تشهد وقعتنا فافعل! لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: من سمع داعية أهل بيتي، ولم ينصرهم على حقِّهم إلا أكبّه الله على وجهه في النار".

ولكن أودّ أن أجذِّر الجواب ليشمل التاريخ والحاضر بما يشكِّل ثقافة لها تداعياتها في الموقف من الآخرين، مستفيداً في الإجابة من العقل القطعي، ونصّ أهل العصمة.

الجزاء الإلهي في منطق العقل

إنّ العقل القطعي قاضٍ بعدالة الله تعالى، واستحالة أن يصدر منه عزَّ وجلَّ ما يقطع العقل بأنه ظلم، ولهذه العقيدة انعكاسات في الحساب الإلهي يوم القيامة.

فالعقل القطعي يأبى أن يكون الحساب يوم المعاد مقتصراً على معيارية الهويَّة الحقَّة، ومطابقة الأعمال للواقع بدون أية اعتبارات أخرى، وذلك بأن يكون الفرز يوم القيامة على أساس أن غير المسلمين مطلقاً يدخلون النار، ثم يُفرَز المسلمون إلى المذاهب المتعددة، فكل من لم يكن على المذهب الحقّ يدخل جهنم، ثم يُفرز أصحاب المذهب الحقّ بحسب أعمالهم، فمن طابقت أعمالهم الواقع يدخلون الجنة، والبقية إلى جهنم.

إنّ عدالة الله تعالى بحسب العقل القطعي تتنافى مع هكذا نوع من الحساب، وترشد إلى نوع آخر من الحساب الإلهي يُلاحظ المقدِّمات التي أدَّت إلى الهوية العقائدية وما حدث من مسلكيّات، فهذه المقدِّمات قد يكون فيها تقصير، وقد تنطلق من قصور.
أمّا المقصِّر الذي كان يستطيع الوصول إلى الحق، وإلى إبراء ذمَّته بطريقة موضوعية، لكنه قصَّر ولم يصل بإرادته فهذا لا إشكال في استحقاقه للعذاب.

لكن لا يُتعقل استحقاق العذاب للقاصر غير القادر على ذلك، والذي لم تتوفَّر له بيئة تسمح له بالوصول إليه.

واقتصار كلامنا على الاستحقاق منطلق من إيماننا بأنّ الله تعالى يجب منه أن يحقِّق وعده، فإذا وعد بالثواب يصبح الثواب واجباً منه تعالى، بينما لو توعَّد بالعقاب، فإن توعَّده لا يستلزم وقوع العقاب جزماً، لأنه تعالى قد يرحم، فتتقدم رحمته على غضبه.
والنتيجة: أنّ المقصِّر يستحقّ العذاب لكنه قد يُرحم، وأنّ القاصر لا يستحق العذاب في دائرة قصوره.

الجزاء الإلهي في منطق النص

إنّ ما ذكرناه في منطق العقل نقرأه في نصِّ الكتاب العزيز، والنصوص الواردة عن أهل العصمة عليه السلام. فالقرآن الكريم تحدَّث عن عفو الله تعالى عن القاصرين الذين عبَّر عنهم بالمستضعفين فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا

ومن لطيف ما ورد في هذا الشأن حديث الإمام الصادق عليه السلام عن أصناف الناس بالنسبة إلى الجزاء الإلهي، ففي الكافي عن حمزة بن الطيار عن الإمام الصادق عليه السلام: "الناس على ستِّ فرق، يؤولون كلهم إلى ثلاث فرق: الإيمان، والكفر والضلال، وهم أهل الوعدين الذين وعدهم الله الجنة والنار، المؤمنون، والكافرون، والمستضعفون، والمرجون لأمر الله، إمّا يعذِّبهم، وإمّا يتوب عليهم، والمعترفون بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وأهل الأعراف".

وقد أكّدت بعض الروايات حلول الرحمة الإلهية على بعض المستحقين للعذاب، بسبب تحلِّيهم ببعض القيم الإنسانية التي هي نوع من التجلِّي للصفات الإلهية كما نلاحظ في الروايتين التاليتين:

1- ففي الكافي عن الإمام الباقر عليه السلام: "إنّ مؤمناً كان في مملكة جبَّار، فولع به، فهرب منه إلى دار الشرك، فنزل برجل من أهل الشرك، فأظلَّه وأرفقه، وأضافه، فلمّا حضره الموت أوحى الله عزَّ وجلَّ إليه: وعزّتي وجلالي، لو كان لكَ في جنتي مسكن لأسكنتك فيها، ولكنها محرَّمة على من مات بي مشركاً، ولكن يا نار، هيديه، ولا تؤذيه، ويؤتى برزقه طرفي النهار".

2- وروى الشيخ الصدوق عن الإمام الكاظم عليه السلام: "كان في بني إسرائيل رجل مؤمن، وكان له جار كافر، وكان يرفق بالمؤمن ويوليه المعروف في الدنيا، فلما أن مات الكافر بنى الله له بيتاً في النار من طين، فكان يقيه حرّها، ويأتيه الرزق من غيرها، وقيل له: هذا بما كنت تدخل على جارك المؤمن فلان بن فلان من الرفق، وتوليه من المعروف في الدنيا".

الجزاء الإلهي في كلمات العلماء

لقد أكَّد علماء مدرسة أهل البيت عليهم السلام هذه العقيدة في كتبهم الجليلة ككتاب القوانين الشهير في الحوزات العلمية في المنهج الدراسي السابق، وفي كونه مرجعية علمية ذات أهمية كبيرة حالياً، وقد قال مؤلفه آية الله العظمى ابو القاسم القمّي، عند حديثه عن قواعد الحكماء الطبيعية المنافية لضروريات الدين: "إنّ ما يختارونه من مخالفة أصول الدين: إما من باب ما يؤول إلى إنكار أحد من الأصول بالذات كالنبوة مثلاً، أو إلى إنكار ما يستلزم إنكاره مثل إنكار ما أخبره النبي عالماً بأنه من النبي.

والأول: مع التقصير مستلزم للكفر في الدنيا والعذاب في الآخرة، وبدون التقصير مستلزم للأول دون الثاني.

وأما الثاني: فمع عدم التقصير لا كفر ولا عذاب، ومع التقصير لا يستلزم الكفر، لكنه يوجب المؤاخذة، والعذاب، فلا بدّ لمن يحكم بكفر منكر الضروري من التأمل".

وفي نفس الإطار يتحدّث الإمام الخميني قدس سره في كتابه المكاسب المحرَّمة عن عمل الجاهل المعذور، فيقول: "لا وزر له، بل يكون مثاباً لانقياده، بل ربما يكون فعله طاعة.. وأما فعل الحرام الواقعي فلا قبح له، ولا وزر على الفاعل المعذور في ارتكابه".

الولاية والجزاء الإلهي

ومن باب تطبيق ما ذكرنا نتعرَّض لعقيدة الولاية الحقة، فنحن نعتقد أنّ الله تعالى جعل الولاية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الأطهار عليهم السلام ركناً أساسياً في استحقاق قبول أعمال المسلم، والعقل لا يمانع شرطاً كهذا في الاستحقاق، فلو قال الحكيم: "إني جعلت حقاً عليَّ أن أثيب من يسير في هذه الطريق، ويطعم فقراءها"، فإنَّ من سار فيها، وأطعم فقراءها، يستحق منه الثواب، أمَّا من سار على طريق أخرى، وأطعم فقراء تلك الطريق الأخرى، فهو لا يستحق من الحكيم ثوابه، نعم قد يتفضَّل عليه بالإثابة، لكنها ليست واجبة بحكم العقل. وعلى هذه القاعدة وردت روايات وصلت إلى حدِّ التواتر بأنّ شرط قبول الأعمال هو ولاية أهل البيت عليهم السلام ومن تلك الروايات:

1ـ ما ورد عن الإمام أبي جعفر عليه السلام: "ذروة الأمر وسنامُهُ ومفتاحه وباب الأشياء ورضا الرحمن الطاعة للإمام بعد معرفته، إن الله عزَّ وجلَّ يقول: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا . أما لو أنّ رجلاً قام ليله، وصام نهاره، وتصدَّق بجميع ماله، وحجَّ جميع دهره، ولم يعرف ولاية وليّ الله فيواليه، وتكون جميع أعماله بدلالته إليه، ما كان له على الله حقٌّ في ثوابه، ولا كان من أهل الإيمان".

2ـ عن الإمام الصادق عليه السلام: "من لم يأتِ الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة بما أنتم عليه لم يتقبَّل منه حسنة، ولم يتجاوز له سيئة".

3ـ عن أبي عبد الله عليه السلام: "والله، لو أنَّ إبليس سجد لله عزَّ ذكره بعد المعصية والتكبُّر عُمْرَ الدنيا ما نفعه ذلك، ولا قبله الله ما لم يسجد لآدم كما أمره الله عزَّ وجلَّ أن يسجد له، وكذلك هذه الأمة العاصية المفتونة بعد نبيّها صلى الله عليه وآله وسلم، وبعد تركهم الإمام الذي نصبه نبيُّهم صلى الله عليه وآله وسلم لهم، فلن يقبل الله تبارك وتعالى لهم عملاً، ولن يرفع لهم حسنة حتى يأتوا الله من حيث أمرهم، ويتولَّوا الإمام الذي أُمروا بولايته، ويدخلوا من الباب الذي فتحه الله عزَّ وجلَّ ورسوله لهم".

وقد علَّق الإمام الخميني في كتابه "الأربعون حديثاً" على هذه الأحاديث قائل: "إنَّ ما مرَّ في ذيل الحديث الشريف من أنّ ولاية أهل البيت عليهم السلام ومعرفتهم شرط في قبول الأعمال يُعتبر من الأمور المسلَّمة، بل تكون من ضروريات مذهب التشيُّع"

أهل البيت عليهم السلام وثقافة الفرز

وحتى لا يُفهَم هذا الكلام على غير معناه المقصود، لا بد من التمييز بين الاستحقاق والتفضُّل اللذين مرَّ ذكرهما، فالولاية هي شرط استحقاقي في قبول الأعمال، ولكنّ هذا لا يعني أنّ كل من لا يقول بالولاية سيدخله الله تعالى إلى جهنم. فقد يكون هذا الإنسان-نتيجة قيم يحملها، وعدم موانع فيه- من المرحومين في جزاء الله تعالى، ومن الذين يدخلهم الله تعالى جنّته بفضله ورحمته ومنّه، حتى لو لم يكن مستحقاً لذلك، فليس من الصحيح أن يقوم الإنسان بفرز الناس إلى داخلين حتماً إلى جهنم، وداخلين حتماً إلى النار.

وقد رفض أهل البيت عليهم السلام هذا المنطق المضيِّق لرحمة الله تعالى، كما يظهر جلياً في الرواية التي أوردها صاحب الكافي عن زرارة قال: "دخلت أنا وحمران (أو بكير) على أبي جعفر عليه السلام قلت له: إنما نمدُّ المطمار، قال عليه السلام: وما المطمار؟ قلت: التّر (أي خيط البناء)، فمن وافقنا من علويٍّ أو غيره تولينا، ومن خالفنا من علوي أو غيره برئنا منه، فقال لي: يا زرارة، قول الله أصدق من قولك"، فأين الذين قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيل ؟! أين المرجون لأمر الله؟! أين الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً؟ أين أصحاب الأعراف؟ أين المولَّفة قلوبهم؟"

إنه حديث واضح برفض مدرسة أهل البيت عليهم السلام فكرة فرز الناس في مصيرهم الأخروي بشكل حتمي من دون مراعاة جانب خصوصيات في الإنسان، وبيئته التي قد تستمطر الرحمة الإلهية والتفضُّل الرباني.

آثار مدرسة أهل البيت عليهم السلام

إنّ هذا الاعتقاد، حينما يترسَّخ في الثقافة الشعبية، سيكون له آثار نفسية، ونتائج تربوية محمودة على صعيدي الفرد والمجتمع.

فهو يوسِّع نظرة الإنسان وأفقه بين رحيمية الله ورحمانيته.

وهو يؤصِّل الوحدة بين المسلمين بحيث لا ينطلق المسلم في نظرته إلى الآخر على أساس أنّ مصير الآخر، والحتميّ هو نار جهنم.

وهو يوائم بين المسلكين الثقافي والسياسي في العلاقة بالآخر.

وهو ركيزة مهمة للحوار مع الآخر بروح منفتحة.

مصير المتخلّفين في ضوء ما تقدّم

بناءً على ما مرَّ، فإننا لا نستطيع أن نحكم بحكم عام على جميع الأصناف السبعة المتقدمة من المتخلفين عن الفتح.

نعم لا نتعقّل قصوراً في أولئك الذين شهدوا الواقعة ولم يتدخّلوا بالنصرة، فبالتالي هُم يستحقّون أن يكبّهم الله على وجوههم في نار جهنّم.

كما من الواضح أنّ قسماً كبيراً من المتخلّفين لم تكن لديهم مشكلة معرفية، كعبيد الله بن الحر الجحفي، الذي صرّح بأنّ من شايع الحسين عليه السلام هو السعيد في الآخرة، بل كانت مشكلة هؤلاء التعلّق بالدنيا الغاية، لذا خذلوا إمامهم، فاستحقُّوا عذاب الله تعالى بعد أن رفضوا طلباً صريحاً من إمامهم بنصرته.

أمّا الصنف الذي لم ينطلق في تخلّفه من تعلّق بالدنيا، بل من مشكلة ترتبط بالوعي وتحديد الأولويات، فإنّ مصيره يتبع ما تقدّم من معيار في الحساب يرتبط بالقصور أو التقصير.

ولكن على كل حال، فإنّ جميع الأصناف المتقدمة قد أخطأوا وحرموا أنفسهم من الفَتْح الكبير الذي رسم له الإمام الحسين عليه السلام طريقه بوضوح، ألا وهو الشهادة.

لقد حرم جميع هؤلاء أنفسهم من مقام الشهادة العظيم الذي نضيء عليه في الباب الثالث "الشهادة".


* برقية الحسين، سماحة الشيخ أكرم بركات.

2016-10-10