يتم التحميل...

الحـَجّ -2

الحج

وبعد أن ذكرنا مشاهد اللُّطف الإلهي في أعمال الكعبة وما حولها، نبدأ الحديث في الضيافة الربانيّة الأولى في أعمال الحجّ والعُمرة في داخل المسجد الحرام، وهي التي تتحقّق بالطواف حول البيت العتيق حيث:

عدد الزوار: 26

الحـَجّ -2 كيف يـَرجِعُ الحاجُّ كما ولدتـْه أُمـُّه؟
 
الطواف

وبعد أن ذكرنا مشاهد اللُّطف الإلهي في أعمال الكعبة وما حولها، نبدأ الحديث في الضيافة الربانيّة الأولى في أعمال الحجّ والعُمرة في داخل المسجد الحرام، وهي التي تتحقّق بالطواف حول البيت العتيق حيث:
ـ يُباهي الله بالطائفين1.
ـ ويُنزل عليهم كلّ يوم ستين رحمة2.
ـ ويُعطيهم بكلّ خطوة حسنة.
ـ ويَمحي عنهم بكلّ خطوة سيّئة.
ـ ويرفع لهم بكلّ خطوة درجة3.

ومن مظاهر الضيافة الربانيّة حول الكعبة ما ذكره الإمام الباقر عليه السلام: "فإذا طُفْتَ أسبوعاً كان لك بذلك عند الله عزَّ وجلَّ عهدٌ وذكرٌ يستحي منك ربُّك أن يعذّبك بعده".
فإذا تكرّر الطواف من العبد منحه الله العطيَّة الكبرى الواردة في الحديث: "من طاف بالبيت خمس مرات خرج من ذنوبه كيوم ولدته أُمُّه".
 
أدب الطواف

وللضيافة آداب على الضيف، وفي ضيافة الطواف لا بدَّ للطائف أن يتأدَّب بباطنه وظاهره، أمّا باطنه فينوي وهو يسير وموضع قلبه إلى جهة الكعبة أنّ قلبه سيبقى مع الله لا يُدخل فيه أحداً غيره، فيمشي بوقار بين البطء والسرعة4، ولا يتكلّم إلاَّ بخير5، وخير الكلام هو القرآن الكريم، فيتلو في طوافه آياته، ومن خير الكلام ما ذُكر في روايات أهل العصمة عليهم السلام، نذكرها تباعاً:

1 ـ ذكر الله:
فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "من طاف بالبيت سبعاً، ولا يتكلّم إلاَّ بسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاَّ الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوّةَ إلاَّ بالله، مُحيت عنه عشر سيّئات، وكُتبت له عشر حسنات، ورُفع له بها عشرُ درجات..."6.

2 ـ الصلاة على محمّد وآله

فقد سأل أحدهم الإمام الصادق عليه السلام قائلاً: دخلت الطواف الفريضة، فلم يُفتح لي شيء من الدعاء إلاَّ الصلاة على محمّد وآل محمّد، وسعيت فكان كذلك، فقال عليه السلام: "ما أُعطِيَ أحد ممّن سأل أفضل ممّا أُعطيت"7.

3 ـ الدعاء
وقد وردت أدعية كثيرة تُقال في الطواف.
منها: ما رُوي في جواب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لخديجة الكبرى عليها السلام حينما سألته: ما أقول وأنا أطوف بالبيت؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "اللهمّ اغفر لي ذنوبي وخطاياي وعمدي، وإسرافي في أمري، إنّك إن لا تغفر لي تُهلكني"8.

ومنها: ما ذكره الإمام الصادق عليه السلام بقوله: طف بالبيت سبعة أشواط، وتقول في الطواف: "اللهمَّ إنّي أسألك باسمك الذي يُمشى به على طُلَلِ الماء9، كما يُمشى به على جَدَد الأرض10، وأسألك باسمك الذي يهتزّ له عرشك، وأسألك باسمك الذي تهتزُّ له أقدام ملائكتك، وأسألك باسمك الذي دعاك به موسى من جانب الطور فاستجبت له، وألقيتَ عليه محبَّةً منك، وأسألك باسمك الذي غفرتَ به لمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، وأتمَمْت عليه نعمتك أن تفعل بي كذا.. ما أحببت من الدعاء".

وكلّما انتهيت إلى باب الكعبة صلِّ على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وتقول بين الركن اليماني والحجر الأسود: "ربَّنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقِنا عذاب النار".
وقل في الطواف: "اللهمّ إنّي إليك فقير، وإنّي خائف مستجير، فلا تغيِّر جسمي، ولا تبدِّل اسمي"11.

صلاة الطواف

وينتهي من طوافه ليصلّي خلف مقام إبراهيم عليه السلام صلاة الطواف التي ورد أنّ ثوابها أجْرُ ألفي ركعة مقبولة.
ويدعو بعدها بما ذكره الإمام الصادق عليه السلام: "اللهمّ ارحمني بطواعيتي إيّاك، وطواعيتي رسولك صلى الله عليه وآله وسلم، اللَّهمَّ جنِّبني أن أتعدَّى حدودك، واجعلني ممّن يُحبُّك، ويحبّ رسولك وملائكتك وعبادك الصالحين"12.

سرّ مقام إبراهيم عليه السلام

وكانت صلاة الطواف خلف مقام إبراهيم عليه السلام لكرامة في هذا المقام حيث وقف خليل الله إبراهيم عليه ونادى بأعلى صوته بما أمره الله عزَّ وجلَّ، فلما تكلَّم بالكلام لم يحتمله الحجر، فغرقت رجلاه فيه، فقلع إبراهيم عليه السلام رجليه من الحجر قلعاً13، وما تزال آثار قدمي إبراهيم عليه السلام في المقام إلى يومنا هذا.

آداب الصلاة والمقام

وفي رواية شبلي عن الإمام زين العابدين عليه السلام ما يدلّ على آداب باطنيّة للوقوف والصلاة عند مقام إبراهيم عليه السلام، فقد سأله الإمام عليه السلام: نويت حين وقفت عند مقام إبراهيم أنّك وقفت على كلّ طاعة، وتخلَّفت عن كلّ معصية؟ قال شبلي: لا.

قال عليه السلام: فحين صلَّيت ركعتين، نويت أنّك اتصلت بصلاة إبراهيم، وأرغمت أنف الشيطان لعنه الله؟ قال شبلي: لا. قال عليه السلام: "... لا وقفت عند المقام، ولا صلَّيت فيه ركعتين"14.

ماء زمزم

قبل أن يَشرع الحاجّ بالسعي، ينبغي أن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي توجَّه بعد صلاة الطواف إلى ماء زمزم، وهو الماء الموصوف على لسان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "خيرُ ماء على وجه الأرض ماءُ زمزم"15.

قصّة ماء زمزم

وتعود قصّة هذا الماء إلى ابتلاء الله تعالى لخليله إبراهيم عليه السلام حينما أمره بترك زوجته هاجر وطفله إسماعيل عليه السلام بالقرب من مكان البيت العتيق، حيث لا ماء ولا بشر هناك. فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "لمّا ارتفع النهار عطش إسماعيل وطلب الماء، فقامت هاجر في الوادي في موضع المسعى ونادت: هل في الوادي من أنيس؟ فغاب عنها إسماعيل، فصعِدت على الصفا، ولمع لها السراب في الوادي، وظنَّت أنّه ماء، فنزلت من بكن الوادي وسعت، فلمّا بلغت المسعى  غاب عنها إسماعيل، ثمّ لمع لها السراب في ناحية الصفا، فهبطت إلى الوادي تطلب الماء، فلمّا غاب عنها إسماعيل عادت حتى بلغت الصفا فنظرت، حتى فعلت ذلك سبع مرات، فلمّا كان في الشوط السابع - وهي على المروة - نظرت إلى إسماعيل، وقد ظهر الماء من تحت رجله، فعادت حتى جمعت حوله رملاً، فإنّه كان سائلاً فزمَّته بما جعلته حوله، فلذلك سميت زمزم"16.

آثار ماء زمزم

ورد أنّ ماء زمزم له آثار عديدة جعلها الله تعالى فيه كرامة لعائلة التضحية إبراهيم وزوجته وابنه عليهم السلام، فمن هذه الآثار أنّه:
ـ "دواء لما شُرب له"17.
ـ "أمانٌ من كلّ خوف وحزن"18.
ـ يؤثّر في إفاضة الله تعالى للعلم والرزق كما يظهر من بعض الأدعية الآتية.

آداب ماء زمزم

من آداب الضيافة في أعمال الحجّ والعُمرة أن يُشرب من ماء زمزم قبل الخروج إلى الصفا، ويُستحبّ عند الشرب أن يُقال: "اللهمّ اجعله لي عِلْماً  نافعاً، ورزقاً واسعاً، وشفاءً من كلِّ داءٍ وسَقَم"19.
كما ورد استحباب أن يقول إذا شرب منه: بسم الله، الحمد لله، الشكر لله20.

وإضافةً إلى الشرب يُستحبّ لمن انتهى طوافه وصلاته أن يصبّ من هذا الماء على رأسه وظهره وبطنه ويدعو بالدعاء السابق "اللهمَّ اجعله لي عِلْماً..."21.

ماء زمزم في رواية شبلي

وفي الرواية الواردة عن الإمام السجَّاد عليه السلام قال فيها لشبلي وهو يبيِّن البعد الباطني للشرب من ماء زمزم، قال عليه السلام فيها: أشرفت على بئر زمزم وشربت من مائها؟
قال شبلي: نعم، قال عليه السلام: أنويت أنّك أشرفت على الطاعة وغضَضْتَ طرفك عن المعصية؟
قال شبلي: لا ، قال عليه السلام: "فما أشرفت عليها، ولا شربت من مائها!"22.

السعي بين الصفا والمروة

ويتجِّه الحاجّ والمعتمر إلى جبل الصفا ليبدأ سعيه بين الجبلين اللَّذَيْن جعلهما الله تعالى من شعائره في قوله: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ من شعائر الله،  فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ23.

وقد ورد أنّ تاريخ الصفا والمروة واسميهما يرجعان إلى هبوط آدم وحوّاء على الأرض، حيث هبط آدم على الجبل الذي سمَّاه الله تعالى بالصفا من قوله: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ24، وهبطت حوّاء على الجبل الذي سمَّاه الله تعالى بالمروة من اسم المرأة.

فضل المسعى

ويسعى ضيف الله بين الصفا والمروة (مسافة 400 كلم تقريباً) في بقعة مباركة من الله تعالى، حيث ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "ما من بقعة أحبُّ إلى الله من المسعى..."25.

حكمة السعي

ورد سابقاً أنّ هاجر قامت بالسعي بين الصفا والمروة، إلاَّ أنّ بعض الروايات تدلّ على ارتباط السعي بالنبيّ إبراهيم عليه السلام أيضاً، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "صار السعي بين الصفا والمروة؛ لأنّ إبراهيم عرَضَ له إبليس، فأمر جبرئيل عليه السلام فشدَّ عليه فهرب منه، فجرت السنَّة. يعني بالهرولة"26.

وتدلّ بعض الروايات على أنّ الله تعالى أراد من خلال فريضة السعي أن يُذلَّ المتجبِّرين لما للمشي والهرولة من شعور بالذِّلَّة أمام الله تعالى، فقد رُوي أنّ الإمام الصادق عليه السلام سُئِل: لِمَ جُعِلَ السعي؟ فقال عليه السلام: "مذلَّة للجبّارين"27.

ثواب السعي

وفي ثواب السعي تحدَّث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: "الحاجّ.. إذا سعى بين الصفا والمروة، خرج من ذنوبه"28.
وعن الإمام زين العابدين عليه السلام: "الساعي بين الصفا والمروة، تشفع له الملائكة، فتُشفّع فيه بالإيجاب"29، أي أنّها تُقبل شفاعتُهم بإيجاب الله تعالى على نفسه في حقّه.

آداب السعي

يُستحبّ للساعي أن يقف قبل سعيه على الصفا مستقبلاً الركن الذي فيه الحجر الأسود، وهناك يحمُد الله ويُثني عليه.
ـ ثمّ يكبّر الله سبع مرّات.
ـ ثمّ يحمُده سبع مرّات.
ـ ثمّ يهلّله (لا إله إلاَّ الله) سبع مرّات، ثمّ يصلِّي على النبيّ وآله عليهم السلام.
ـ ثمّ يقول: "الله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أولانا، والحمد لله الحيّ القيّوم، والحمد لله الحيّ الدائم" ثلاث مرّات.
ـ ثمّ يقول: "أشهد أن لا إله إلاَّ الله، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، لا نعبد إلاَّ إيَّاه مخلصين له الدين، ولو كره المشركون" ثلاث مرّات.
ـ ثمّ يقول: "اللهمّ إنّي أسألك العفو والعافية، واليقين في الدنيا والآخرة" ثلاث مرّات.
ـ ثمّ يقول: "اللهمّ آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقِنا عذاب النار" ثلاث مرّات.
ـ ثمّ يكبّر الله مئة مرّة.
ـ ثمّ يهلِّل الله مئة مرّة.
ـ ثمّ يحمد الله مئة مرّة.
ـ ثمّ يسبّح الله مئة مرّة.
ـ ثمّ يقول: "لا إله إلاَّ الله وحدَه، أنجز وعدَه، ونصر عبدَه، وغلب الأحزاب وحدَه، فله الملك، وله الحمد وحدَه وحده، اللَّهمَّ بارك لي في الموت، اللَّهمَّ إنّي أعوذ بك من ظلمة القبر ووحشته، اللَّهمَّ أظلَّني في ظلِّ عرشك يوم لا ظلَّ إلاَّ ظلُّك".
ـ ثمّ يقول: "أستودع الله الرحمن الرحيم الذي لا يضيِّع ودائعَه نفسي وديني وأهلي، اللَّهمَّ استعملني على كتابك وسنَّة نبيّك، وتوفَّني على ملَّته، وأعذني من الفتنة".
ـ ثمّ يكبّر الله إحدى عشرة مرّة.
وقد عقَّب الإمام الصادق عليه السلام بعد أن ذكر هذا العمل الطويل المستحبّ قبل البدء بالسعي بقوله عليه السلام: "فإن لم تستطع هذا فبعضه"30.
وقد ورد ذكر مختصر  يقال في مَنْسَكِ السعي هو ما ذكره أحد أصحاب الإمام الكاظم عليه السلام إذ قال: كنت وراء أبي الحسن موسى عليه السلام على الصفا ـ أو على المروة ـ وهو لا يزيد على حرفين: "اللهم إنّي أسألك حسن الظنِّ بك في كلّ حال، وصدق النيَّة في التوكّل عليك"31.

سرُّ السعي الباطني

وبيَّن الإمام السجَّاد سرَّ السعي الباطنيّ لشبلي حينما سأله: فحين سعيت نويت أنَّك هربت إلى الله وعرف ذلك منك علاَّم الغيوب؟
قال شبلي: لا، قال عليه السلام: "فما... سعيت"32.

التقصير

وينتهي الساعي في سعيه في صخرة المروة ليُحِلَّ من إحرامه بتقصير شعره، وهو يأمل أن تكون الشعرات الساقطة تتلألأ بأنوارها يوم القيامة.
وبهذا يُنهي الضيف رحلة الضيافة الأولى ليبدأ رحلته الثانية حينما يُحْرِم من مكَّة ويلبِّي دعوة الله تعالى ويتوجّه في ضيافة الله تعالى إلى عرفة، فهلمَّ معنا إلى هناك.

وقوف عرفات

بعد أن أذنب العبد وعصى ربَّه يتوجَّه إلى الله تعالى قاصداً مدينته المقدَّسة ملبّياً دعوة الضيافة الربَّانيّة مريداً بذلك محْوَ الذنوب، والعودة كما ولدته أمُّه.
يقف عند الحجر الأسود ليصافحه ويستلمه مؤكّداً على ميثاق التوحيد، ويصلّي عند الحطيم معلناً توبته إلى الله في مكان توبة أبيه آدم عليه السلام، ويدعو في حِجْر إسماعيل عليه السلام تحت ميزاب الرحمة لعلَّ رحمة الله تناله، ويبسُط يديه على حائط المستجار مقرّاً بذنوبه عسى أن يمحوَها ربُّه، ويستلم الركن اليماني سائلاً عصمة التوبة آملاً تأمين الملَك الهِجِّير على دعائه، ويصلّي خلف مقام إبراهيم عليه السلام معلناً عبوديّته لله، ويسعى بين الصفا والمروة يهرب من الله إلى الله. ولكن مع كلّ هذا تبقى كلمة النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم تشدّه نحو متَّجهٍ آخر، وذلك حينما يقول صلى الله عليه وآله وسلم: "من الذنوب ذنوب لا تُغفر إلاَّ بعرفات"33.
 
لِمَ سُمِّيت عرفات؟

وفي وجه تسمية ذلك المكان بعرفات ورد حديث عن الإمام الصادق عليه السلام قال فيه: "إنّ جبرائيل خرج بإبراهيم صلوات الله عليه يوم عرفة، فلمّا زالت الشمس قال له جبرائيل: يا إبراهيم اعترف بذنبك، واعرف مناسكك، فسُمّيت عرفات لقول جبرئيل: اعترف، فاعترف"34.

وقفة مع ذنوب الأنبياء عليه السلام

تعرّضنا سابقاً لمعصية آدم عليه السلام، والآن لذنب إبراهيم عليه السلام، كما ورد في القرآن نسبة ذنوب إلى بعض أنبياء الله تعالى، مع أنّنا نعلم أنّ الأنبياء هم صفوة البشر والمنتخبون من بين الناس لصفائهم الروحي، وطهارتهم القلبيّة وانصياعهم لأوامر الله تعالى، وهم على رأس المخلَصين الذين لا طاقة لإبليس أن يغويهم، وهذا ما صرَّح به القرآن الكريم الناقل لقول إبليس: ﴿لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ35.

فإذا كانوا على قمّة المخلَصين، ولا يمكن لإبليس أن يدخل في حُرَم أنفسهم الطاهرة، فما معنى نسبة الذنوب إليهم؟
إنّه بحث عقائديّ بحاجة إلى تفصيل، ولكن أشير بشكل مختصر إلى جواب ذلك فأقول: حينما نريد أن نحكم على عمل الإنسان أنّه في أيّ درجة من الحسن أو القُبح فلا بدّ أن نراعي خصوصيّة الإنسان العامل، فقد يصدر عمل عن إنسان بدوي يعيش في الصحراء نعتبره حسناً وجيّداً، ولكنّ نفس هذا العمل لو صدر عن إنسان مدنيّ يعيش حضارة المدينة فقد نحكم بقبحه، وهكذا فلو أنّ فعلاً صدر عن إنسان عاديّ فإنّنا قد نراه مناسباً، ولكن لو صدر من عالم كبير له شأنه فإنّنا قد نراه قبيحاً أشدّ القبح. هذا الأمر بصورة أشدّ وأقوى نجده في أنبياء الله تعالى؛ فهم لمكانتهم المقرَّبة من الله تعالى يَعتبرون بعض أفعالهم ذنوباً مع أنّها بالنسبة إلينا تكون حسنة، وذلك لأنّ النبيّ يعتبر أنّ حالة الوصال والعشق مع الله في مناجاته والتوجّه إليه هي الحالة التي يجب أن يحقّقها دائماً، فإذا اقتضت الظروف أن ينشغل عن هذه المناجاة وذلك التوجّه الخاصّ بالتحدّث مع الناس لإرشادهم وهدايتهم والقيام بوظيفته فإنّه يعدّ فعله هذا ذنباً لأنّه ليس هو العمل الأوّليّ.

ولتقريب الفكرة أطرح المثال التالي: لو أنّ إنساناً أحبَّ آخر حبًّا شديداً، كما يُحكى ذلك في قصّة قيس وليلى وغيرها، تكون أولى حالة عند هذا الإنسان أن يجلس قرب حبيبه يحدِّثه ويعبِّر له عما يكنّه قلبه له، فلو أنّ الحبيب كان في هذا المجلس العشقي فمرضت أمّه وكانت تحتاج إلى الدواء، هنا لا بدّ أن يترك حبيبه ويذهب لإعطاء والدته الدواء، فلو فعل ذلك، فهذا العمل بنظر الناس حسن وجيّد، ولكنَّه حينما يرجع إلى حبيبه فإنّه يعتذر إليه أشدَّ اعتذار، لأنّه ترك حالة الوصال والعشق معه، ويعتبر وكأنّ ما فعله هو ذنبٌ في حقِّ حبيبه.

من هذا نفهم حال الأنبياء في علاقتهم بالله بل هي أشد وآكد، وهذا ما يوضّحه لنا الحديث المعروف: "حسنات الأبرار سيّئات المقرَّبين"، هكذا نفهم ذنوب الأنبياء عليهم السلام.
وهكذا كان ذنب إبراهيم عليه السلام الذي قال له جبرائيل في عرفة: "اعترف بذنبك".

ولنعد إلى عرفات.

مكانة عرفة وأهلها

إن الوقوف بعرفة، الركن الأساس في أعمال الحجّ، فقد ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهو يبيِّن ذلك: "الحجّ عرفات، الحج ّعرفات، الحجّ عرفات"36.
ففي الحديث النبويّ: "إنّ الله عزَّ وجلَّ يباهي ملائكته عشيّة عرفة بأهل عرفة، فيقول: انظروا إلى عبادي أتوني شُعْثاً غُبْراً"37.

عشيّة عرفة

ويُستحبّ للحاجّ أن يكون عشيّة عرفة بالموقف ذاكراً الله تعالى ليكون من أهل الكرامة والمباهاة.
فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "ما من مسلم يقف عشيّة عرفة بالموقف فيستقبل القبلة بوجهه، ثمّ يقول: لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير مئة مرّة، ثمّ يقرأ قُلْ هو الله أحد مئة مرّة، ثمّ يقول: (اللهمّ صلّ على محمّد كما صلَّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنَّك حميد مجيد وعلينا معهم، مائة مرّة) إلاَّ قال الله تعالى: يا ملائكتي، ما جزاء عبدي هذا؟ سبَّحني وهلَّلني، وكبَّرني، وعظَّمني، وعرفني، وأثنى عليَّ، وصلَّى على نبيّي. اشهدوا ملائكتي أنّي قد غفرت له، وشفَّعته في نفسه، ولو سألني عبدي هذا لشفَّعته في أهل الموقف كلّهم"38.

يوم عرفة والدعاء

إنّ يوم عرفة هو يوم الدعاء، حتى ورد أنَّ من خاف أنْ يضعفه الصوم عن الدعاء في هذا اليوم فليترك الصوم ويدعو الله تعالى، وقد ورد عن الإمام أبي جعفر عليه السلام: "إذا كان يوم عرفة لم يردّ سائل".

ومن أروع الأدعية الواردة عن أهل العصمة عليهم السلام هو دعاء الإمام الحسين عليه السلام في عرفة ذو المضامين العالية التي تشهد أنّها وردت من الأطهار الكرام عليهم السلام.

شروط عرفة

وشرط الداعي في يوم عرفة لينال الكرامة الإلهيّة والمِنحة الربانيّة أن يثق بالله الثقة التامّة ويتيقّن من الإجابة الإلهيّة، وإلاَّ فإنّ الأمر سينقلب عليه.
إذ ورد أنّ أحدهم سأل النبيّ قائلاً: أيُّ أهل عرفات أعظم جُرماً؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "الذي ينصرف من عرفات وهو يظنّ أنّه لم يُغفر له"39.

وقد حدَّث النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم عن شروط المغفرة في عرفة بقوله:
"من وافى بعرفة فسلِم من ثلاث:
ـ من أُذنه لا تسمع إلاَّ إلى الحقّ.
ـ وعينيه لا تنظران إلاَّ إلى حلال.
ـ ولسانه لا ينطق إلاَّ بحقّ.
غُفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر"
.

قصّة داعٍ في عرفة

ومن لطيف ما رُوي في عرفات هو ما حكاه أحدهم عن أحد أصحاب الإمام الكاظم عليه السلام ويدعى عبد الله، فقال: "رأيت عبد الله بالموقف، فلم أرَ موقفاً كان أحسن من موقفه، ما زال مادًّا يديه إلى السماء، ودموعه تسيل على خدّيه حتى تبلغ الأرض، فلمّا انصرف قلت له: يا أبا محمّد، ما رأيت موقفاً قطّ أحسن من موقفك، قال عبد الله: والله ما دعوت إلاَّ لإخواني؛ وذلك أنّ أبا الحسن موسى بن جعفر عليه السلام أخبرني أنّه من دعا لأخيه بظهر الغيب نودي من العرش: ولك مئة ألف ضعف مثله، فكرهت أن أدع مئة ألف ضعف مضمونة لواحد لا أدري يُستجاب أم لا".

قصّة جازع في عرفة

ومقابل هذا الداعي الواعي في عرفات رجل سئل عنه الإمام الكاظم عليه السلام، فقد ورد أنّ أحدهم سأله عن رجل وقف بالموقف فأتاه نعيُ أبيه أو نعيُ بعض وُلْده قبل أن يذكر الله بشيء أو يدعو، فاشتغل بالجزع والبكاء عن الدعاء ثمّ أفاض، فقال عليه السلام: "لا أرى عليه شيئاً وقد أساء، فليستغفر الله، أما لو صبر واحتسب لأفاض من الموقف بحسنات أهل الموقف جميعاً من غير أن ينقص من حسناتهم شيء".

سرّ عرفة

ويتابع الإمام السجَّاد أسئلته لشبلي وهو يبيِّن له سرَّ مناسك الحجّ فيقول له: هل عرفت بموقفك بعرفة معرفة الله سبحانه أَمْرَ المعارف والعلوم، وعرفتَ قبض الله على صحيفتك، واطَّلاعَه على سريريتك وقلبك؟

قال شبلي: لا. قال عليه السلام: "فما وقفت بعرفة"40.

الوقوف في المشعر الحرام

وبعد غروب الشمس ينزل الحاجّ إلى المشعر الحرام الذي سُمِّي بالمزدلفة، لأنّ جبرائيل قال لخليل الله إبراهيم عليه السلام بعد غياب الشمس ازدلف، ويبقى الحاجّ هناك إلى طلوع الشمس.

ثواب الوقوف بمزدلفة

ويكفي في بيان الثواب العظيم قول النبيّ الكريم صلى الله عليه وآله وسلم: "لو يعلم أهل الجمع بمن حلّوا أو بمن نزلوا لاستبشروا بالفضل من ربِّهم بعد المغفرة"41.
وقد أخبر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الناس عن جزيل ثواب هذا الوقوف حينما طلب من بلال أن يسكت الناس، ثمّ قال: "إنّ الله تطوَّل عليكم في جمعه هذا، فوهب مُسيئكم لمحسنكم، وأعطى محسنَكم ما سأل، ادفعوا باسم الله"42.

آداب الوقوف

- يُستحبّ تأخير صلاة المغرب لتصلَّى مع العشاء في المزدلفة بأذان واحد وإقامتين.
- كما ورد الحثّ على إحياء تلك الليلة في قول الإمام الصادق عليه السلام: "وإن استطعت أن تحيي تلك الليلة فافعل، فإنّه بلغنا أنّ أبواب السماء لا تغلق تلك الليلة لأصوات المؤمنين، لهم دويّ كدويّ النحل، يقول الله جلَّ ثناؤه: أنا ربُّكم، وأنتم عبادي، أدَّيتم حقِّي، وحقٌّ عليَّ أن أستجيب لكم، فيحطّ الله تلك الليلة عمَّن أراد أن يحطّ عنه ذنوبه، ويغفر لمن أراد أن يغفر له"43.

- وعند الفجر يُستحبّ بعدَ الصلاة أن يحمُدَ الحاجّ ربّه، ويثني عليه، ويذكر من آلائه وبلائه ما يقدر عليه، ثمّ يصلّي على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ويقول: "اللهمّ ربَّ المشعر الحرام، فُكَّ رقبتي من النار، وأوسع عليَّ من رزقك الحلال، وادرأ عنّي شرَّ فسقة الجنِّ والإنس، اللَّهمَّ أنت خير مطلوب إليه، وخير مدعوٍ، وخير مسؤول، ولكلّ وافدٍ جائزة، فاجعل جائزتي في موطني هذا أن تُقيلَني عثرتي، وتقبل معذرتي، وأن تجاوز عن خطيئتي، ثمّ اجعل التقوى في الدنيا زادي"44.

- كما يُستحبّ أن يأخذ حصى الجِمار من المزدلفة ليتهيّأ للرجم بها في مِنى.

الآداب الباطنيّة في أعمال مزدلفة

وأكمل الإمام السجاد حديثه مع شبلي فسأله: مشيت بمزدلفة ولقطت فيها الحصى، ومررت بالمشعر الحرام؟ قال شبلي: نعم.
قال عليه السلام: فعندما مشيت بمزدلفة ولقطت منها الحصى نويت أنّك رفعت عنك كلّ معصية وجهل، وثبَّتَّ كلّ علم وعمل؟ قال شبلي: لا.
قال عليه السلام: فعندما مررت بالمشعر الحرام نويت أنّك أشعرت قلبك شعار أهل التقوى، والخوف لله عزَّ وجلَّ؟ قال شبلي: لا.
فقال عليه السلام: "لا مشيت بالمزدلفة، ولا رفعت منها الحصى، ولا مررت بالمشعر الحرام"45.

سرّ الوقوف في المشعر الحرام

إنّ سرّ هذا المنسك الإلهيّ في المزدلفة يرتبط بقصّة خليل الله إبراهيم عليه السلام التي شهدتها تلك الأماكن المباركة، فلنستحضر قصّة إبراهيم عليه السلام لنفهم سرَّ المنسك.
ففي المشعر الحرام كان يرافق إبراهيم عليه السلام زوجته هاجر وابنه إسماعيل عليه السلام وهو فتى في الثالثة عشرة من عمره على ما قيل، وكان من أصبح الناس وجهاً وأحسنهم خَلْقاً وخُلُقاً، وفي جبينه نور من خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم، يتلألأ كالضوء، وكان قلب إبراهيم عليه السلام قد تعلَّق بإسماعيل أشدّ تعلّق لا سيَّما أنّه قد رزق به بعد شيخوخته وفَناء عمره عقيماً46.

هناك في المشعر الحرام أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام في المنام أن يذبح ولده الحبيب إسماعيل عليه السلام، ولما انتهى إبراهيم عليه السلام بإسماعيل وأمّه إلى مِنى أمر هاجر بالذهاب إلى مكّة والطواف حول البيت العتيق وبقي مع ولده إسماعيل.

ضحية العائلة

وعند الجمرة الوسطى استشار إبراهيم عليه السلام ولده "قال يا بني إنّي أرى في المنام أنّي أذبحك فانظر ماذا ترى". وبكلّ إيمانٍ وثبات كان جواب إسماعيل عليه السلام: "قال يا أبة افعل ما تُؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين".

وبدأ إبراهيم وإسماعيل عليه السلام بتنفيذ الأمر الإلهي "فلمّا أسلما وتلّه للجبين"، قيل: وضع جبينه على الأرض؛ لئلاَّ يرى وجهه فتلحقه رقة الآباء47.

وأقبل شيخ وقال يا إبراهيم عليه السلام ما تريد من الغلام؟ قال: أريد أن أذبحه، فقال: سبحان الله تذبح غلاماً لم يعصِ الله طرفة عين؟! فقال إبراهيم عليه السلام: إنّ الله أمرني بذلك، فقال: ربّك ينهاك عن ذلك. وإنّما أمرك بهذا الشيطان، فقال له إبراهيم عليه السلام: ويلك، إن الذي بلغني هذا المبلغ هو الذي أمرني به، ثمّ قال (له الشيخ): يا إبراهيم إنّك إمامٌ يُقتدى بك، وإنّك إن ذبحته ذبح الناس أولادهم، فلم يكلّمه48، ورماه إبراهيم عليه السلام بسبع حُصيّات بأمر جبرائيل عليه السلام، ففرَّ اللعين من أمامه واختفى49. ولمَّا يئس إبليس من إغواء إبراهيم عليه السلام ظهر للغلام ـ على ما قيل ـ وأراد أن يوسوس له لعلَّه يعصي أمر ربِّه وأمر أبيه، ولا يسلّم نفسه للذبح، وأخذ يلحّ عليه بالهرب والعصيان، وإسماعيل عليه السلام لا يزداد بذلك إلاَّ تسليماً وخضوعاً للذبح، إلى أن رماه أيضاً بسبع حَصَيات في موضع الجمرة الأخيرة، وهرب اللّعين منه يائساً.

ولحق إبليس بهاجر بحذاء موضع البيت ليوسوس لها وقال لها: يا أمة الله من هذا الشيخ الذي رأيته في موضع كذا وصفته كذا وكذا؟
قالت: ذاك بعلي.
قال اللعين: فرأيت معه وصيفاً ـ أي خادماً ـ صفته كذا وكذا.
قالت: ذاك ابني.
قال: فإنّي رأيته وقد أضجعه وأخذ المدية ليذبحه.
فنهرته هاجر وقالت: كذبت أيها الرجل، إنّ إبراهيم أرحم الناس، فكيف بابنه يذبحه؟!
قال اللعين: فوربِّ السماء والأرض وربّ هذا البيت لقد رأيته أضجعه وأخذ المدية ليذبحه.
قالت: ولِمَ؟ قال: زعم أنّ ربّه أمره بذلك.
قالت: فحقٌّ له أن يطيع ربَّه50، فكانت التضحية تضحية عائلة، أب وابن وأمّ.

الفداء

وأخذ إبراهيم المدية وهو يستمع إلى وصايا ابنه إسماعيل:
ـ ارفق بأمّي من بعدي.
ـ خمِّر وجهي (ـ أي استره بخمار ـ كي لا تمنعه شفقة الأبوّة عند الذبح).
ـ اشدد وثاقي وشُدَّ رباطي حتى لا أضطرب عند الذبح.
ـ اكفف عنِّي ثيابك كي لا تتلطَّخ بشيء من دمي فتراه أمّي.
ـ اشحذ شفرتك وأسرع مَرَّ السكين على نحري ليكون أهون عليَّ.
ـ وأخيراً بلِّغ أمّي السلام51.

وأقبل إبراهيم يقبِّل خدّ ولده ويقول له: نِعم العون أنت يا بُنيَّ على أمر الله!
ثمّ فرش له عند الجمرة الوسطى... ثم جرَّ عليه المدية، وحينها أمر الله مَلَكَه جبرائيل فقلب المدية على قفاها، ونودي من ميسرة مسجد الخيف: أن يا إبراهيم قد صدَّقْتَ الرؤيا52، وأتى جبرائيل بكبْش وضعه مكان الغلام وذلك قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ.

أعمال مِنى

ويتوجَّه الحاجّ بعد طلوع شمس العاشر من ذي الحِجّة إلى مِنى مكان التضحية الإبراهيميّة الكبرى، والتي ورد في سرِّ تسميتها أنّ جبرائيل عليه السلام قال هناك لإبراهيم عليه السلام: تمنَّ على ربِّك ما شئت، فتمنّى إبراهيم عليه السلام في نفسه أن يجعل الله مكان ابنه إسماعيل كَبْشاً يأمره بذبحه فداءً له، فأُعطى مناه53.

وفي منى يتوجّه الحاجّ إلى الأعمال التالية:
1 ـ رمي الجمار:
فيرمي الحاجّ الجمار تأسّياً بخليل الله إبراهيم عليه السلام الذي ورد عن الإمام عليّ عليه السلام: إنّ الجمار إنّما رُميت لأنّ جبرائيل حين أرى إبراهيم المشاعر برز له إبليس، فأمر جبرائيل أن يرميه، فرماه بسبع حَصَيَات، فدخل عند الجمرة الأولى تحت الأرض، فأمسك، ثمّ برز له عند الثانية فرماه بسبع حَصَيات أُخَر، فدخل تحت الأرض في موضع الثانية، ثمّ برز له في موضع الثالثة، فرماه بسبع حَصَيات، فدخل من موضعها54.

مستحبّات الرّمي

- يُستحبُّ الرميُ والرامي على طُهر.
- كما يُستحبّ التكبير مع كلّ حصاة، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "كبِّر مع كلّ حصاة"55.
- ويستحب أن يقول الرامي والحصى في يده: "اللهمّ هؤلاء حَصَياتي فأحصِهِنَّ لي، وارفعهنَّ في عملي".
ثمّ يرمي ويقول مع كلّ حصاة: "الله أكبر، اللَّهمَّ ادحَرْ عنِّي الشيطان، اللَّهمَّ تصديقاً بكتابك وعلى سنَّة نبيّك صلى الله عليه وآله وسلم، اللَّهمَّ اجعله حجّاً مبروراً، وعملاً مقبولاً، وسعياً مشكوراً، وذنباً مغفوراً"56.

الآداب الباطنية للرّمي

وفي رواية شبلي يقول له الإمام السجّاد عليه السلام: فعندما رميت الجمار نويت أنّك رميت عدوّك إبليس وغضبته بتمام حجّك النفيس، قال شبلي: لا، فقال له الإمام عليه السلام: "لا رميت الجمار"57.

ثواب الرمي

وجعل الله الرميَ محلًّا للكرامة والمِنحة، فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "رمي الجمار ذخر يوم القيامة"58.
وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا رميت الجمار كان لك نوراً يوم القيامة"59.
وتوِّجت أحاديث ثواب الرمي بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "الحاجّ إذا رمى الجمار خرج من ذنوبه"60.

2 ـ الأُضحية

ويتأسَّى الحاجّ بنبيّ الله إبراهيم عليه السلام فيذبح الهَدْيَ معلناً بذلك عن استعداده للتضحية بأغلى ما عنده، وبذلك يؤدّي حقّاً للفقراء والمساكين.

الأدب المعنوي للأضحية

للأضحية سرٌ معنوي تحدّث عنه الإمام السجّاد عليه السلام لشبلي حينما سأله: فعندما ذبحت للأضحية هديك نويت أنّك ذبحت حنجرة الطمع بما تمسّكت به من حقيقة الورع، وأنّك اتبعت سنَّة إبراهيم بذبح ولده وثمرة فؤاده وريحان قلبه وحاجة سُنَّةً لمن بعدَه وقُربةً إلى الله تعالى لمن خلفه؟ قال شبلي: لا، فقال عليه السلام: "لا ذبحت نُسكك"61.

3 ـ الحلق أو التقصير

وحتى يتمّ رجوع الإنسان إلى الطهارة التي خلقه الله عليها يشرع الحاجّ بحلق الشعر الذي نبت على المعصية، لينبت شعر جديد ينمو على الطاعة.
وبذلك يحصل الحاجّ على ثواب عظيم، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ العبد المؤمن... إذا حلق رأسه لم يسقط شعره إلاَّ جعل الله له بها نوراً يوم القيامة"62.
ويُستحبّ للحاجّ أن يدفن شعره في منى، فإذا فعل ذلك نال الثواب الذي تحدَّث عنه الإمام الصادق عليه السلام بقوله: "إنّ المؤمن إذا حلق رأسه بمنى، ثمّ دفنه جاء يوم القيامة وكل شعرة لها لسان مطلق تلبِّي باسم صاحبها"63.

ويعبِّر الدعاء المستحبّ عند الحلق عن هذا الثواب فهو: "اللهمّ أعطني بكلّ شعرة نوراً يوم القيامة"64.
وقد جوَّز بعض الفقهاء التقصير بدل الحلق65 لكنّهم أكّدوا على استحباب الحلق، ويشهد لذلك ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "اللهمّ ارحم المحلّقين، قالوا: والمقصِّرين يا رسول الله؟ قال: اللَّهمَّ ارحم المحلّقين، قالوا: والمقصِّرين يا رسول الله؟ قال: والمقصِّرين"66.

السرّ المعنوي للحلق

وسأل الإمام زين العابدين شبلي قائلاً: فعندما حلقت رأسك نويت أنّك تطهَّرت من الأدناس، ومن تبعة بني آدم، وخرجت من الذنوب كما ولدتك أمُّك؟ قال شبلي: لا، فقال عليه السلام: "فما... حلقت رأسك"67.

4 ـ المبيت

ويبيت الحاجّ في منى ليلتين، يستعدّ كلّ ليلة منهما لمجابهة الشيطان في اليوم المقبل، إنّه أشبه بمعسكرٍ حربيّ، يتجهَّز فيه المحارب في الليل لحرب النهار.
وإنّ المبيت يشكّل اجتماعاً كبيراً للمسلمين من دون مناسك خاصّة، ممّا يعطي الفرصة لتداول المسلمين قضاياهم، ولبثّ الوعي فيهم وطرح القضايا المحقّة بينهم.
وهذا ما نجده مورداً لاهتمام أهل البيت عليهم السلام فنلاحظ أنّ الإمام الباقر عليه السلام أوصى أن يُقرأ العزاء عيله في منى، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "قال لي أبي: يا جعفر، أَوْقِفْ لي من مالي كذا وكذا لنوادب يَنْدِبنَني عشر سنين بمنى أيّام منى".

يعلّق الإمام القائد آية الله العظمى السيّد الخامنئي دام ظله على هذه الرواية قائلاً:
 
"وهذه الرواية لم يقف عندها من بحث في حياة الإمام الباقر عليه السلام وغفلوا عمّا فيها من دلالات كبيرة، لقد خلَّف الإمام 800 درهم، وأوصى أن يخصّص جزء منها لمن يندبه في منى، ونَدْب الإمام في منى له معنى كبير، إنّه عمليّة إحياء ذلك المصدر الذي كان يشعّ دائماً بالتوعية والإثارة وخلق روح الحماس والمقاومة.

واختيار منى بالذات يعني مواصلة العمل في وسط تمركز الوافدين من كلّ أرجاء العالم الإسلامي، خلال فترة الاستقرار الوحيدة في موسم الحجّ، فكلّ مناسك الحجّ يمرّ بها الحاجّ وهو في حركة دائبة مستمرّة إلاَّ في منى حيث يبيت الليلتين أو الثلاث، فيتوفَّر لديه الوقت الكافي لكي يسمع ويطّلِع..."68.

مسجد الخيف

وفي منى مسجد الخيف الذي يقع مرتفعاً عن الوادي ولأجل ذلك سُمي خيفاً، ويُستحب استحباباً مؤكّداً الصلاة في هذا المسجد، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "صلِّ في مسجد الخيف وهو مسجد منى، وكان مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على عهده عند المنارة التي في وسط المسجد، وفوقها إلى القبلة نحواً من ثلاثين ذراعاً، وعن يمينها وعن يسارها وخلفها نحواً من ذلك، فتحرَّ ذلك، فإن استطعت أن يكون مُصلّاك فيه فافعل فإنّه قد صلّى فيه ألف نبيّ"69.

بقيّة الأعمال

ويُكمل الحاجّ أعمال حَجِّه فيطوف طواف الزيارة ويصلّي صلاته ويسعى بين الصفا والمروة ثمّ يطوف طواف النساء.

آخر الأعمال

حتى إذا كان منتصف يوم الثاني عشر من ذي الحِجّة يخرج الإنسان من منى، فإن كان قد أدَّى آداب الحجّ وشروطه فإنّه يخرج كيوم ولدته أمّه.

الوداع

ويودّع الحاجّ مكان الضيافة الإلهيّة متأسياً بالإمام أبي الحسن عليه السلام الذي خرَّ ساجداً ثمّ قال فاستقبل الكعبة وقال: "اللهمّ إنّي أنقلب على ألاَّ إله إلاَّ أنت"70.
فالانقلاب على التوحيد الصافي كما كانت الولادة على ذلك التوحيد، وهو لا يتحقّق إلاَّ بالولاية لمحمّد وآله الكرام، لذا كان "تمام الحجّ لقاء الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف".

الحفاظ على المكتسبات

وأخيراً أذكِّر من نال كرامة الضيافة الإلهيّة أن يحافظ على تلك المِنَح الربانيّة وأن لا يحرقها بذنوب يقترفها بعد ذلك، وليتذكّر ما قاله رسولنا الأكرم في ثواب قول (سبحان الله) "من قال سبحان الله غرس الله له شجرة في الجنّة" فقال بعض السامعين: إنّ شجرنا في الجنّة لكثير، فنظر إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليقول: لكن إيّاكم أن ترسلوا إليها نيراناً فتحرقوها.

أسأل الله تعالى أن يتقبَّل أعمال السائرين على خطّه يريدون الرجوع إلى طهارة القلب ونقاوته إنّه سميع مجيب الدعاء، والحمد لله ربِّ العالمين.

* كتاب كيف ترجع كما ولدتك أمك؟، سماحة الشيخ أكرم بركات.


1- الريشهري، الحج والعمرة في الكتاب والسنَّة، منشورات دار الحديث، ط. الأولى، إيران، ص189 (الرواية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم).
 2- المصدر السابق (الرواية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم).
 3- المصدر السابق (الرواية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم).
 4-المصدر السابق، ص191 (الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام).
 5-المصدر السابق (الرواية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم).
 6-المصدر السابق، ص190 ـ 191.
 7- الريشهري، الحج والعمرة، ص202.
 8- المصدر السابق، ص199.
 9- طلل الماء: أي ظهره.
 10- جَدد الأرض: أي وجه الأرض.
 11- الريشهري، الحج والعمرة، ص200 ـ 201.
 12- الريشهري، الحج والعمرة، ص204.
 13- المجلسي، بحار الأنوار، ج99، ص232.
 14- الكاشاني، التحفة السنية، ص184.
 15- الريشهري، الحج والعمرة، ص117.
 16- الريشهري، الحج والعمرة، ص115.
 17- المصدر السابق، ص117.
 18- المجلسي، بحار الأنوار، ج99، ص245.
 19- المصدر السابق، ص245.
 20- الريشهري، الحج والعمرة، ص118.
 21- المصدر السابق.
 22- الكاشاني، التحفة السنية، ص184.
 23- سورة البقرة، الآية: 158.
 24- سورة آل عمران، الآية: 33.
 25- الكليني، الكافي، ج4، ص434، حديث 3.
 26- الريشهري، الحج والعمرة، ص205.
 27- الكليني، الكافي، ج4، ص434، حديث 3.
 28- الريشهري، الحج والعمرة، ص208.
 29- المصدر السابق.
 30- المصدر السابق، ص205 ـ 206.
 31- المصدر السابق، ص208.
 32- الكاشاني، التحفة السنية، ص184.
 33- الريشهري، الحج والعمرة، ص220.
 34- المصدر السابق، ص213.
 35- سورة الحجر، الآية: 40.
 36- الريشهري، الحج والعمرة، ص214.
 37- المصدر السابق، ص213.
 38- المصدر السابق، ص220.
 39- الريشهري، الحج والعمرة، ص220.
 40- الكاشاني، التحفة السنية، ص184.
 41- الريشهري، الحج والعمرة، ص223.
 42- المصدر السابق.
 43- المصدر السابق، ص225.
 44- المصدر السابق، ص225.
 45- الكاشاني، التحفة السنيَّة، ص184.
 46- انظر: اللوساني، تواريخ الأنبياء، منشورات دار الاتحاد، بيروت، ص82.
 47- الجزائري، قصص الأنبياء، منشورات دار الأعلمي، بيروت، ص148.
 48- المصدر السابق، ص151، وهي رواية عن الإمام الصادق عليه السلام.
 49- اللوساني: تواريخ الأنبياء، ص83.
 50- المصدر السابق، ص83.
 51- المصدر السابق، ص84.
 52- الجزائري، قصص الأنبياء، ص151.
 53- الريشهري، الحج والعمرة، ص227.
 54- المصدر السابق، ص230.
 55- المصدر السابق، ص232.
 56- المصدر السابق، ص233.
 57- الكاشاني، التحفة السنية، ص184.
 58- الريشهري، الحج والعمرة، ص234.
 59- نفس المصدر.
 60- نفس المصدر.
 61- الكاشاني، التحفة السنية، ص184.
 62- الريشهري، الحج والعمرة، ص238.
 63- المصدر السابق، ص238.
 64- المصدر السابق.
 65- الكلام في حجة الإسلام الواجبة وإلاَّ ففي غيرها من المسلَّم استحباب الحلق لا وجوبه.
 66- المصدر السابق، ص237.
 67- الكاشاني، التحفة السنيَّة، ص184.
 68- مؤتمر الإمام جعفر الصادق عليه السلام والمذاهب الإسلامية، منشورات المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية في لبنان، ط. أولى، 1996، ص37.
 69- الريشهري، الحج والعمرة، ص229.
 70- حج الأنبياء والأئمة عليهم السلام، ص455.

2016-09-11