يتم التحميل...

آفات اللسان- الكذب، الغيبة، البهتان

مآب المذنبين

فالرقابة المباشرة وبالواسطة لا تغفل عنه في حال من الأحوال، حتَّى فيما يصدر عنه من أقوال وما يخرج من فمه من كلمات، كلّ قول محسوب له أو عليه، وكلّ كلمة مرصودة في سجلّ أعماله، يسجّله المَلَكَان في الدنيا، ويوم القيامة ينكشف الحساب والجزاء.

عدد الزوار: 54

أهميّة حفظ اللسان:

قال تعالى: ﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ في هذه الآية تذكيرٌ للمؤمنين برقابة الله تعالى، التي لا تتركه لحظةً من اللحظات، حتَّى لو تركته الملائكة، فالرقابة المباشرة وبالواسطة لا تغفل عنه في حال من الأحوال، حتَّى فيما يصدر عنه من أقوال وما يخرج من فمه من كلمات، كلّ قول محسوب له أو عليه، وكلّ كلمة مرصودة في سجلّ أعماله، يسجّله المَلَكَان في الدنيا، ويوم القيامة ينكشف الحساب والجزاء.

وفي روايةٍ عن الإمام الصادق عليه السلام: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ، قال الراوي: عندما قرأ الإمام الآية فتنفّس الصعداء، ثم بكى حتَّى خضّبت دموعه لحيته، وقال: "يا إسحاق، إنّ الله تبارك وتعالى إنّما نادى الملائكة أن يغيبوا عن المؤمنين إذ التقيا إجلالاً لهما، فإذا كانت الملائكة لا تكتب لفظهما، ولا تعرف كلامهما، فقد عرفه الحافظ عليه، عالِم السرّ وأخفى. يا إسحاق، فخفِ الله كأنّك تراه، فإن كنت لا تراه فإنّه يراك، فإن كنت ترى أنّه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم أنّه يراك، ثمّ استترت عن المخلوقين بالمعاصي، وبرزت له بها، فقد جعلته في حدّ أهون الناظرين إليك"2.

اللسان من أعظم النعم الإلهية على العبد، فإنّه - مع صغر حجمه ودقّة صنعه - عظيم الفائدة؛ إذ لا يستبين في الأغلب الكفر والإيمان إلا بشهادة اللسان.

اللسان لسانان: لسان خير ولسان شر.

1. لسان الخير: هو الذي ينطق بالخير، ويلهج بذكر الله تعالى، ويذكر نِعَم الله عليه، ولا ينطق إلا بالحكمة والموعظة الحسنة.

2. لسان الشرّ: وهو لسان الشيطان، الذي لا ينطق إلا بما يمليه عليه شيطانه، من سبّ، وقدحٍ، وغيبةٍ، وبهتانٍ، ونميمةٍ، ونشر الفتن والأحقاد والضغائن.

ولا بدّ من الالتفات إلى أن أعصى الأعضاء على الإنسان اللسان؛ فإنّه لا تعب في إطلاقه، ولا مؤونة في تحريكه، وقد يتساهل الخلق في الاحتراز عن آفاته، والحذر من مصائده وحبائله، وأنّه أعظم آلة للشيطان في استغواء الإنسان، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه واله فقال: يا رسول الله، أوصني، قال: "احفظ لسانك، قال: يا رسول الله، أوصني، قال صلى الله عليه واله: احفظ لسانك، قال: يا رسول الله، أوصني، قال صلى الله عليه واله: احفظ لسان، ويحك، وهل يكبّ الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم"3، وعن الإمام الصادق عليه السلام: "من خاف الناس لسانه فهو في النار"4.

وفي المقابل تكمن النجاة في أمرٍ واحد، وهو حفظ اللسان، كما ورد في الحديث عن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله: "نجاة المؤمن حفظ لسانه"5.

وفيما يلي سوف نشرع في بيان بعض آفات اللسان.

الكذب:

الكذب: هو الإخبار عن الشيء بخلاف الواقع، وليس الإخبار مقصوراً على القول، بل قد يكون بالفعل، كالإشارة باليد، أو هزّ الرأس، وقد يكون بالسكوت.

والكذب من علامات المنافق، ومن أسباب نزع الثقة من الكاذب، والنظر إليه بعين الخيانة، وهو دليل ضعة النفس، والكذّاب يقلّب الحقائق، وأخطر أنواعه ما يرتبط بالدين وشريعة سيّد المرسلين. وفي روايات أهل البيت عليهم السلام وُصِف الكذب بأنّه نوع من الخيانة، التي من الممكن أن تقود للوقوع في موبقات أخرى، كالسرقة والغشّ مثلاً، روي عن النبي صلى الله عليه واله أنّه قال: "كبرت خيانة أن تحدّث أخاك حديثاً هو لك مصدّق، وأنت به كاذب"6.

ولشدّة خطورة هذه الآفة على الفرد والمجتمع فإنّ أوّل مسألة وصّى بها رسول الله صلى الله عليه واله أمير المؤمنين عليه السلام هي الصدق واجتناب الكذب، فقال صلى الله عليه واله: "يا علي، أوصيك في نفسك بخصال فاحفظها عني، ثمّ قال: اللهم أعنه، أما الأولى فالصدق، فلا يخرجنّ من فيك كذبة أبداً، والثانية الورع.."7.

دوافع الكذب ومظاهره:

للكذب دوافع كثيرة وعديدة، منها الخوف من النقد، والخوف من العقاب أو العتاب، قلّة التديّن والالتزام بالشريعة، اعتياد الكذب، سوء التربية، والمحيط الاجتماعي، وغير ذلك... وهناك مظاهر عديدة للكذب منتشرة بين الناس، منها:

1. الكذب على الله وعلى رسوله: وهو من أقبح أنواع الكذب، ومثاله المفتي بغير علم، والمفسّر للقرآن برأيه، والتقوّل على الله وعلى رسوله الكذب.

قال تعالى: ﴿فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ8، ﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُور9. وتتعدّد دواعي الكذب على الله وعلى رسوله، ومهما تنوّعت فهي بالنتيجة كذب، فنجد من يكذّب للترغيب والترهيب، ومن يكذّب لإبكاء الناس، أو لترويج أفكار باطلة، أو غير ذلك. كلّه ينطبق عليه قول النبي صلى الله عليه واله: "من كذّب عليّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار"10.

2. الكذب في المعاملات التجارية (البيع والشراء): وهو يحصل بين الناس كثيراً، كالذي يحلف ويقسم بالأيمان الكاذبة على جودة سلعته، أو يصفها بأوصاف مبالغ فيها، وغير حقيقيّة، وهو ما يسمى بـ "الغشّ" فالغشّ نوع من الكذب على المشتري في السلعة، والروايات التي نهت عن ذلك كثيرة جداً، ويكفي منها قول الإمام الصادق عليه السلام: "من غشّنا ليس منّا"11.

3. الكذب للفتنة بين الناس: بعض الناس يعيش عقد نفسيّة، فتراه لا يهدأ له بال، ولا يقرّ له حال، حتَّى يحدث فتنة، ويفسد ذات البين؛ فينسج الأكاذيب والأباطيل لإفساد الودّ بين الأخوة، ولتوتير الحياة الزوجية، فكم نرى من أواصر قد تقطّعت، وأرحام قد تخاصمت، وأزواج قد طُلّقت، وغير ذلك، بسبب كذبة.

4. الكذب المقرون بالحسد: تقدّم في بحث أصول الكفر، أنّ الحسد قد يولّد معاصي وكبائر متعدِّدة، من أبرزها الكذب، فالحاسد إذا رأى من هو متفوّق عليه بمالٍ أو منصب أو علم، قد نراه يكذب؛ ليقلّل من شأن الطرف الآخر، ويرميه بكلّ صفة نقص.

5. الكذب للتخلّص من المواقف المحرجة: وهو من مظاهر الكذب الشائع، والمنتشر كثيراً، وهذا النوع له دواعٍ، وهي في الغالب تكون خوفاً من العقاب أو العتاب، كحال من يكذب على والديه، أو مدرّسه، أو مسؤوله، وهكذا.

6. الكذب لتسويغ الأخطاء وتبريرها: هذا النوع منتشرٌ جداً بين الناس أيضاً، فمن يريد أن يسوّغ بخله، أو قسوته، أو تقصيره، أو عمله الخاطئ، يلجأ عادةً إلى الكذب.

وهناك مظاهر كثيرة أخرى منتشرة بين الناس أيضاً، كالكذب لاستدرار عطف الناس، والتملّق لأرباب الثراء وأصحاب المناصب، والكذب في دعوى المحبّة والصداقة، والكذب على الأولاد رغبةً في التخلّص منهم، أو تخويفاً لهم بالإضافة إلى نقل الأخبار الكاذبة، والكذب السياسي، والدجل الإعلامي، كما نرى في الحرب الإعلامية على المقاومة الإسلامية ـ في هذه الأيام ـ وعلى رموزها القيادية، وغير ذلك.

آثار الكذب:

تقدّم أنّ للذنوب آثاراً في الدنيا قبل الآخرة، فكما أنّ الذي لا يتصدّق لا يزيد الله في رزقه، والذي لا يصل رحمه لا يزيد الله في عمره، والعاقّ لوالديه يسلّط الله عليه أولاداً يعقّوه، كذلك هو الأمر بالنسبة للكذب، ومن أهم آثاره أنّه:

1. يورث الفقر: رُوِي عن أمير المؤمنين عليه السلام: "اعتياد الكذب يورث الفقر"12.

2. الكذب مفتاح الشرّ: عن الإمام الباقر عليه السلام: "إنّ الله عزّ وجلّ جعل للشرّ أقفالاً، وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب، والكذب شرّ الشراب"13.

3. ذهاب الإيمان: إنّ الكذب يؤدّي إلى خراب الإيمان، فلا يذوق الكاذب طعم الإيمان، رُوِي أنّه سُئِل النبي صلى الله عليه واله: يكون المؤمن جباناً؟ قال: "نعم، قيل: ويكون بخيلاً؟ قال: نعم، ويكون كذّاباً؟ قال: لا"14.

4. ذهاب بهاء المؤمن: عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "قال النبي عيسى بن مريم عليه السلام: "من كثر كذبه ذهب بهاؤه"15.

5. يؤدّي إلى النفاق: رُوِي عن النبي صلى الله عليه واله: "الكذب بابٌ من أبواب النفاق"16.

6. اللعنة والهلاك: قال تعالى: ﴿قُتِلَ الْخَرَّاصُون17، والخرّاصون أي الكاذبون، وقُتل أي لُعِن وهلِك.

7. اسوداد الوجه يوم القيامة: قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ18.

علاج الكذب:

علاج الكذب مسألة بغاية الأهمية، وينبغي أن يبدأ الفرد بنفسه حتَّى يؤدّي بالتدريج إلى علاج هذه الآفة في المجتمع؛ لأنّ المجتمع لو ترك الكذب واتجه في معاملاته وسلوكياته إلى الصدق، لزال الظلم واستقام أمر المجتمع.

من الأمور التي ينبغي العمل عليها للتخلّص من هذه الآفة:

1. التعرّف على جذور الكذب؛ لكي يعالج الكذب من جذوره، فإن كانت المشكلة ضعف الإيمان، فيجب عليه تقوية دعائم الإيمان، وإذا كان الدافع هو الحسد والتكبّر، فعليه معالجة المشكلة من خلال معالجة الكِبر والحسد، وهكذا...

2. التأمّل والتفكّر في الآيات والروايات التي ذمّت الكذب، فاعتبرته مفتاح كلّ شرّ، وبيّنت آثاره السلبية على الفرد والمجتمع، لما لهذا التفكّر من عامل مهمّ ومساعد لترك هذا العمل المذموم.

3. قوّة الشخصية؛ لأنّ أحد دوافع الكذب هو ضعف الشخصية والشعور بالدونية، فالكاذب يريد جبران نقصه من خلال الكذب، ولهذا لا يتورّع عنه.

4. العلاج العملي للكذب، ويمكن من خلال الترويض الدائم للنفس ومجاهدتها، والعمل على خلاف رغبتها، حتَّى تقلع عن هذا الفعل القبيح. فالنفس ميّالة بطبيعتها إلى ما تحب، وينبغي أن لا يدع الإنسان نفسه لما تهواه وتريده، بل عليه أن يوقفها عند حدّها، وأن يحاسبها فيما لو أقدمت على الكذب، إلى أن يتخلّص من هذه الرذيلة شيئاً فشيئاً.

الغيبة والبهتان:

قال تعالى: ﴿وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحيمٌ19.

تعتبر الغيبة من أشدّ الأمراض الاجتماعية الفتّاكة التي تقضي على المجتمع وتحولّه إلى أحزابٍ وفئاتٍ متناحرةٍ، يأكل بعضها بعضاً، حتَّى عبّرت عنها بعض الروايات بأنّها الآكلة في دين الرجل كالآكلة في جسد الإنسان. ولقد صوّر القرآن الكريم في هذه الآية الكريمة جريمة الغيبة بصورة بشعة ومقزّزة للنفس، لم يصوّر غيرها من المحرّمات بهذه الصورة، وهي ليست تشبيهاً ولا صورة خيالية، بل هي الصورة الملكوتية للغيبة، والتي لو كشف الغطاء عن أعين الناس لرأوا ولعاينوا الحقيقة كما هي بقوله تعالى: ﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخيهِ مَيْت.

تعريف الغيبة وحكمها:

الغيبة - كما عرفها الشهيد الثاني - هي: "ذكر الإنسان حال غيبته بما يكره نسبته إليه، ممّا يعدّ نقصاناً في العُرف، بقصد الانتقاص والذم"20.

رُوِي أنّ رسول الله صلى الله عليه واله سأله سائل ذات يوم: ما الغيبة؟ فقال صلى الله عليه واله: "ذكرك أخاك بما يكره، قلت: يا رسول الله، فإن كان فيه الذي يُذكر به؟ قال: اعلم أنّك إذا ذكرته بما هو فيه فقد اغتبته، وإذا ذكرته بما ليس فيه فقد بهته"21.

وبيّن الإمام الخميني حكم الغيبة، فقال: "المستفاد من أخبار الغيبة أنّ كشف ستر المؤمنين حرام، بمعنى أنّه يحرم إظهار عيوب المؤمنين المستورة، من دون فرقٍ بين أن تكون هذه العيوب خَلقية أو خُلقية أو سلوكية، سواء أكان الشخص المتصف بالعيب راضياً بكشف عيبه أم لا، وسواء أكان هناك قصد انتقاص أم لا..."22.

ويبيّن الإمام قدس سره السبب في حرمة كشف ستر المؤمنين بقوله: "إنّ الله سبحانه وتعالى غيور، ويكون هتك ستر المؤمنين وكشف عوراتهم، هتكاً لناموس إلهي وكرامته. ولو أنّ إنساناً تجاوز في الاستهتار بالحدود، وهتك حرمات الله، كشف الله الغيور عيوبه التي سترها عن الآخرين بلطفه وستّاريّته، وهتك أسراره وفضح أمره في هذه العالم أمام الناس، وفي عالم الآخرة أمام الملائكة والأنبياء والأولياء"23.

أقسام الغيبة:

بما أنّ الغيبة هي ذكر أخيك بما يكره، أو الإعلام به، أو التنبيه عليه، فهذا يعني أن للغيبة مصاديق متعدّدة، وقد أشار الإمام الصادق عليه السلام إلى ذلك بالقول: "وجوه الغيبة تقع بذكر عيبٍ في الخُلق، والفعل، والمعاملة، والمذاهب، والجهل، وأشباهه"24. وسوف نشير إلى هذه الأوجه المختلفة:

1. في البدن: كقولك فلانٌ قصير، أو طويل، أو قبيح المنظر، أو أعور، وغيرها، ممّا يتصوّر أن يوصف به ممّا يكرهه.

2. في النسب: كقولك أبوه فاسق، أو نسبه خسيس، ونحو ذلك، مما يكرهه كيف كان.

3. في الخُلق: كقولك فلان سيء الخلق، متكبّر، جبان، مرائي...

4. في أفعاله المتعلّقة بالدين: كقولك فلان سارق، كذّاب، لا يهتم بالطهارة والصلاة، ظالم، ليس بارّاً بوالديه، يتعرّض لأعراض الناس...

5. في أفعاله المتعلّقة بالدنيا: كقولك فلان كثير الكلام، كثير الأكل، لا يرى لأحد عليه حقّاً، متهاون بالناس، قليل الأدب...
فيجب على المؤمن أن يتجنّب كلّ تلك الأمور وغيرها؛ لشدة خطورة الغيبة وآثارها المدمّرة في الدنيا والآخرة.

الآثار الدنيوية والأخروية للغيبة:

للغيبة آثار تظهر في عالم الدنيا، وفي البرزخ، ويوم القيامة:

1. عذاب النار: قال أنس: أمر رسول الله صلى الله عليه واله الناس بصوم يوم، وقال: "لا يفطرنّ أحد حتَّى آذن له، فصام الناس حتَّى إذا أمسوا، جعل الرجل يجيء، ويقول: يا رسول الله، ظللت صائماً، فأذن لي لأفطر، فأذِن له، حتَّى جاء رجل، فقال: يا رسول الله، فتاتان من أهلك ظلتا صائمتين، وإنّهما تستحيان أن تأتيانك، فأذن لهما أن تفطرا، فأعرض عنه، ثمّ عاوده، فأعرض عنه، ثم عاوده، فقال: إنّهما لم تصوما، وكيف صام من ظلّ هذا اليوم يأكل لحوم الناس؟! اذهب مُرهما، إن كانتا صائمتين أن تستقيئا، فرجع إليهما فأخبرهما، فاستقاءتا، فقاءت كلّ واحدة منهما علقة دم، فرجع إلى النبي صلى الله عليه واله فأخبره، فقال: والذي نفس محمد بيده، لو بقيتا في بطونهما لأكلتهما النار"25، وهذا لا يعني أن الصوم باطل شرعاً، بل المقصود هو عدم كمال الصوم على مستوى الثواب الأخروي، وهنالك فرق بين صحة الصوم وقبوله عند الله تعالى.

2. المغتاب يأكل من لحمه يوم القيامة: فعن نوف البكالي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "اجتنب الغيبة؛ فإنها إدام كلاب النار، ثمّ قال: يا نوف، كذب من زعم أنّه وُلد من حلال، وهو يأكل لحوم الناس بالغيبة"26، ولا منافاة بين أن يأكل لحم الميتة، أو أن يأكل لحم جسده.

3. الفضيحة يوم القيامة: عن رسول الله صلى الله عليه واله: "... ومن مشى في غيبة أخيه وكشف عورته، كانت أول خطوة خطاها وضعها في جهنم، وكشف الله عورته على رؤوس الخلائق"27.

4. العذاب في البرزخ: عن رسول الله صلى الله عليه واله: "مررت ليلة أُسْرِي بي على قومٍ يخمشون وجوههم بأظافيرهم، فقلت: يا جبرئيل، من هؤلاء؟! قال: هؤلاء الذين يغتابون الناس، ويقعون في أعراضهم"28.

5. الفضيحة في الدنيا: إنّ بعض مراتب الغيبة يدفع بصاحبها إلى الفضيحة في عالم الدنيا، عن إسحاق بن عمّار، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: "يا معشر من أسلم بلسانه، ولم يُخْلِص الإيمان إلى قلبه، لا تذمّوا المسلمين، ولا تتّبعوا عوراتهم؛ فإنّ من تتبّع عوراتهم تتبع الله عورته، ومن تتبّع الله عورته يفضحه ولو في بيته"29.

6. الدخول في ولاية الشيطان: الغيبة تؤدّي إلى خروج المغتاب من ولاية الله تعالى، والدخول في ولاية الشيطان، فلا يكون من أهل النجاة والإيمان، عن الإمام الصادق عليه السلام: "ومن اغتابه بما فيه، فهو خارج من ولاية الله، داخل في ولاية الشيطان"30.

7. لا يُغفر الله للمغتاب حتَّى يرضى صاحب الغيبة: إنّ معصية الغيبة أشدّ من كافة المعاصي، وإنّ آثارها أخطر من آثار الذنوب الأخرى؛ لأن الغيبة مضافاً إلى أنّها تمسّ حقوق الله تعالى، فهي تمسّ حقوق الناس أيضاً، ولا يغفر الله تعالى للمغتاب حتَّى يرضى صاحب الغيبة، عن النبي صلى الله عليه واله: "يا أبا ذر، إياك والغيبة، فإنّ الغيبة أشدّ من الزِّنا" قلت: ولِم ذاك يا رسول الله؟! قال: "لأنّ الرجل يزني فيتوب إلى الله، فيتوب الله عليه، والغيبة لا تُغفر حتَّى يغفرها صاحبها"31. ولو أن الإنسان - والعياذ بالله - مات وعليه حقوق الناس، كان أمره صعباً جداً؛ إذ إنّ علاقة الإنسان في حقوق الله تكون من الكريم الرّحيم، الذي لا يتطرَّق إلى ساحته القدسيّة شيء من البغض، والضغينة، والعداوة، والتشفّي، ولكنّه في حقوق العباد قد يرتبط بإنسان فيه تلك الصفات الفاسدة، ولا يتجاوز عنه بسرعة، أو لا يرضى عنه نهائياً32.

علاج الغيبة33:

إنّ علاج هذا المرض الأخلاقي الخطير يحتاجُ إلى مجاهدةٍ كبيرةٍ، ومتابعةٍ دقيقةٍ، ولا بدَّ من رعاية الأمور الآتية للوقاية من الوقوع في هذا المرض أو علاجه:
- أن يفكّر في الآثار المفيدة التي تترتب على معالجة هذه الموبقة، ويقارنها مع الآثار السيّئة التي تترتَّبُ على الغيبة.
- أن يفكّر ويتأمَّل في الرِّوايات التي تحدّثت عن الآثار الغيبيَّة لهذه المعصية.
- أن يفكّر في الآثار الدنيويّة للغيبة، كسقوط الإنسان من أعين النّاس.
- من النَّاحية العمليَّة فلا بدّ من كفِّ النَّفس عن هذه المعصية لبعض الوقت مهما كان صعباً، ولجم اللسان، والمراقبة الكاملة للنَّفس، ومعاهدة النَّفس بعدم اقتراف هذه الخطيئة، ومراقبتها، والحفاظ عليها ومحاسبتها.
- معالجة العوامل والأسباب والجذور التي تؤدّي بالشَّخص أن يرتكب الغيبة، كالحسد، والحقد، والأنانيَّة، وحبّ الانتقام، والتكبّر، والغرور، وأمثال ذلك.
- أن يفكّر ويستحضر دائماً هذه الحقيقة، وهي أنّ الغيبة حقّ الناس؛ لأنها تتسبَّب في هدم سمعتهم، والذَّهاب بماء وجوههم.

البهتان:

تعريف البهتان، ومنبعه:

البهتان هو اتّهام المؤمن، والتجنّي عليه بما لم يفعله أو ليس فيه أصلاً، وهو أشدّ إثماً وأعظم جرماً من الغيبة، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينً34.

وروي عن الإمام الصادق عليه السلام: "الغيبة أن تقول في أخيك ما هو فيه، ممّا قد ستره الله عليه، فأمّا إذا قلت ما ليس فيه، فذلك قول الله: "فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا"35.

والبهتان نابع من الافتراء والكذب، ما يجعل المفترى عليه مبهوتاً متحيّراً لدى سماعه ما نُسِب إليه. ويستعمل لفظ البهتان في الكذب؛ لأن البهتان غالباً ما ينطوي على الكذب.

والبهتان من أقبح الأعمال؛ لأن اتّهام إنسان بريء يعتبر من أقبح الأعمال التي أدانها الإسلام بشدّة، وإنّ الآية المذكورة - بالإضافة إلى الروايات الكثيرة - توضح رأي الإسلام الصريح في هذا العمل.

ينقل الإمام جعفر الصادق عليه السلام عن أحد الحكماء أنّه قال: "البهتان على البريء أثقل من الجبال الراسيات"36، وعنه عليه السلام: "إذا اتّهم المؤمن أخاه انماث الإيمان في قلبه، كما ينماث الملح في الماء"37، أي أنّ الإيمان يذوب ويزول من قلب المؤمن، بسبب اتّهامه لأخيه المؤمن، كما يذوب الملح في الماء، ويزول عن النظر.

فالتهمة والبهتان " في الحقيقة- هما أقبح أنواع الكذب، لأنهما بالإضافة إلى احتوائهما لمفاسد الكذب، فإنّهما يحملان أضرار الغيبة، وهما كذلك من أسوأ أنواع الظلم والجور، ولهذا السبب يقول النبي صلى الله عليه واله: "من بهت مؤمناً أو مؤمنة، أو قال فيه ما ليس فيه، أقامه الله تعالى يوم القيامة على تلّ من نار حتَّى يخرج ممّا قاله فيه"38، وحقيقة الأمر، إنّ إشاعة مثل هذا العمل الجبان " في أيّ محيطٍ إنساني كان- يؤدّي في النهاية إلى انهيار نظام العدالة الاجتماعيّة، واختلاط الحقّ بالباطل، وتورّط البريء، وتبرئة المذنب، وزوال الثقة من بين النّاس"39.

* كتاب مآب المذنبين، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1 - ق، 17-18.
2 - ثواب الأعمال، ص147.
3 - أصول الكافي، ج2، ص115.
4 - أصول الكافي، ج2، ص327.
5 - أصول الكافي، ج2، ص113.
6- ميزان الحكمة، ج3، ص2672.
7 - وسائل الشيعة، ج15، ص181.
8- آل عمران، 94.
9- فاطر، 4.
10- من لا يحضره الفقيه، ج4، ص364.
11- الكافي، ج5، ص160.
12 - بحار الأنوار، ج 69، ص261.
13 - أصول الكافي، ج2، ص329.
14 - جامع أحاديث الشيعة، ج13، ص565.
15 - بحار الأنوار، ج 14، ص331.
16 - ميزان الحكمة، ج3، ص2673.
17- الذاريات، 10.
18 - الزمر، 60.
19 - الحجرات، 12.
20 - راجع: كشف الريبة في أحكام الغيبة،ص284.
21 - وسائل الشيعة، ج12، ص281.
22 - الأربعون حديثاً، ص285.
23 - الأربعون حديثاً، ص286.
24 - راجع: كشف الريبة عن أحكام الغيبة، ص289.
25 - شرح نهج البلاغة، ج9، ص61.
26 - بحار الأنوار، ج 72، ص248.
27 - وسائل الشيعة، ج12، ص286.
28 - بحار الأنوار، ج72، ص222.
29 - أصول الكافي، ج2، ص354.
30 - وسائل الشيعة، ج18، ص292.
31 - وسائل الشيعة، ج 12، ص281.
32 - راجع: الأربعون حديثاً، ح 19، ص 284ـ 287.
33 - راجع: الأربعون حديثاً، ص 290(بتصرف)، الأخلاق في القرآن، ج 3، ص 91ـ93(بتصرف).
34 - النساء، 112.
35- بحار الأنوار، ج72، ص258.
36 - بحار الأنوار، ج72، ص194.
37 - أصول الكافي، ج2، ص170.
38 - عيون أخبار الرضا ، ج1، ص37.
39 - الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج3، ص446.
40 -الأربعون حديثا،الحديث الرابع، فصل في بيان معالجة الكبر.

2016-04-04