العلم
كيف نبني مجتمعاً أرقى؟
رفع الله تعالى منزلة العلم، فكانت أول آية "اقْرَأْ"2، ووصف الله تعالى نفسه بالأكرم، لأنه علَّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم، وتتالت الآيات تعطي قدسيةً للحرف "ن"،
عدد الزوار: 452
قــــال الله تعــــالى: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ 1.
رفع الله تعالى منزلة العلم، فكانت أول آية "اقْرَأْ"2، ووصف الله تعالى نفسه بالأكرم، لأنه علَّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم، وتتالت الآيات تعطي قدسيةً للحرف "ن"، ويقسم الله فيها بالقلم وما يسطرون، وفي الآية السابقة جعل الله تعالى الرفعة والمكانة العظيمة لمن تحقق فيه عنوانان: الإيمان والعلم.
من هنا رفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بداية دعوته شعار إلزامية التعلُّم، وأن العلم ليس من باب الأدب المستحب، بل هو من الفرائض، فقد اشتهر عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة"3. وفي سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جعل فداء الأسرى تعليم الأميين القراءة والكتابة، وجعل مهر المرأة تعليمها آيات القرآن الكريم، وقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام مكانة العلم وآثاره، فتحدَّثوا عن آثار دنيوية وأخروية.
الآثار الأخروية
نكتفي منها بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من أحب أن ينظر إلى عتقاء الله من النار، فلينظر إلى المتعلّمين فوالذي نفسي بيده ما من متعلّم يختلف4 إلى باب العالم إلا كتب الله له بكل قدم عبادة سنة، وبنى الله بكل قدم مدينة في الجنة، ويمشي على الأرض، وهي تستغفر له، ويمسي ويصبح مغفورًا له، وشهدت الملائكة أنّهم عتقاء الله من النار"5.
الآثار الدنيوية
يمكن مقاربتها من خلال الحديث الوارد عن الإمام علي عليه السلام: "يا كميل، العلم خير من المال، العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق"6.
وفي حديث آخر بيّن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الضمانة لمن يفكّر في السلبية الدنيويّة للعلم، باعتبار أنّ طلب العلم يأخذ من وقت الإنسان، وبالتالي قد يؤثّر على رزقه، فعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "من غدا في طلب العلم أظلّت عليه الملائكة، وبورك له في معيشته، ولم ينقص من رزقه"7.
إرشادات في التفاعل مع العلم
أرشد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام إلى الخطوات التي تُثبِّت العلم وتفعّله، فقد ورد أنه صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن حقّ العلم، فأجاب صلى الله عليه وآله وسلم: "الإنصات له"، قيل له: ثم مه؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: "الاستماع له"، قيل له: ثم مه؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: "الحفظ له"، قيل له: ثم مه؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: "ثم العمل به"، قيل له: ثم مه؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: "ثم نشره"8.
وإضافة إلى:
1- الإنصات،
2-والاستماع،
3- والحفظ،
4- والعمل،
5-والنشر،
أكّد صلى الله عليه وآله وسلم على:
6- الكتابة
عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "قيّدوا العلم". قيل: وما تقييده؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم:"كتابته"9.
وفي مقام تشجيع كتابة العلم ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إن المؤمن إذا مات، وترك ورقة واحدة عليها علم، كانت الورقة سترًا فيما بينه وبين النار، وأعطاه الله تعالى بكل حرف مدينة أوسع من الدنيا وما فيها"10.
7- المذاكرة
عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "طلب العلم فريضة على كلّ مسلم، فاطلبوا العلم من مظانه، واقتبسوه من أهله، فإنّ تعليمه لله حسنة، وطلبه عبادة، والمذاكرة به تسبيح"11.
وعن الإمام الباقر عليه السلام: "رحم الله عبدًا أحيى العلم"، فقيل: وما احياؤه؟ قال عليه السلام: "أن يذاكر به أهل الدين والورع"12.
8- السؤال
عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنما يهلك الناس، لأنّهم لا يسألون"13.
وعنه عليه السلام: "العلم خزائن، والمفاتيح السؤال، فاسألوا يرحمكم الله، فإنّه يؤجر في العلم أربعة: السائل، والمتكلم، والمستمع، والمحبّ لهم"14.
9- مجالسة العلماء
عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "...من جلس عند العالم ساعة، ناداه الملك: جلست إلى عبدي، وعزتي وجلالي، لأسكننَّك الجنّة معه، ولا أبالي"15.
العلم المطلوب
أيّ علمٍ هو صاحب هذه المكانة؟ وأي علمٍ هذا الذي اهتم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام بالإرشاد إلى الخطوات التفصيلية لأجل تثبيته وتفعيله؟
قال الإمام الخميني قدس سره: "إذا ظننّا أن العلم، مهما كان، سببٌ للسعادة، فنحن على خطأ".
انطلق الإمام قدس سره في قوله هذا من الواقع الذي أضاءت عليه نصوص الإسلام العزيز التي تحدّث عن الشروط الأساسية للعلم صاحب المنزلة، وهي:
1- أن يكون العلم نافعًا
في وصية الخضر عليه السلام للنبي موسى عليه السلام: "واعلم أن قلبك وعاء، فانظر ماذا تحشو وعاءك"16.
ومن لطيف ما ورد في هذا الأمر قصة ذاك الرجل الذي رآه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد، وقد أحاط به جماعة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "ما هذا؟" فقيل: علاّمة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "وما العلامة؟" فقالوا له:أعلم الناس بأنساب العرب، ووقائعها، وأيّام الجاهلية والأشعار العربية، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "ذاك علم لا يضرّ من جهله، ولا ينفع من عمله". ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: "إنما العلم ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سُنَّة قائمة، وما خلاهنّ فهو فضل"17.
إنّ هذا الحديث يضيء على العلوم المطلوبة من كلّ فرد، يضاف إليها العلوم المطلوبة على نحو الكفاية، بحيث يجب على بعض أفراد المجتمع أن يخوضوا غمارها، وإلا يأثم الجميع، وهذه العلوم هي التي يحتاج إليها المجتمع حاجة ضرورية، ويرتقي من خلالها الناس، وهي تدخل في دائرة العلوم الواجبة التي يتقرّب الطالب بدراستها إلى الله تعالى، كعلم الطبّ والهندسة وما شابه. وهنا يأتي دور توجّه الطلاب وتوجيههم نحو تلك العلوم، كي تحقّق الغرض، وتبتعد عن حصول تخمة في بعض الاختصاصات، وفقرٍ في بعضها الآخر.
2- أن يكون العلم لأجل العمل
في وصية الخضر عليه السلام للنبيّ موسى عليه السلام: "يا موسى، تعلّم ما تعلم لتعمل به، ولا تعلّمه لِتحدّث به، فيكون عليه بوره، ويكون على غيره نوره"18.
قال الإمام الخميني قدس سره: "العلم والالتزام بمنزلة الجناحين اللذين يمكِّنان الإنسان مجتمعين من الوصول إلى مدارج الكمال".
وكلّما كانت الغاية أسمى، كلّما كانت منزلة العلم أعلى وأرقى.
من هنا ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "من جاءه الموت، وهو يطلب العلم، ليحيي به الإسلام، كان بينه وبين الأنبياء درجة واحدة في الجنة"19.
وإحياء الإسلام لا يكون فقط بالعلوم الدينية الاختصاصيّة، بل قد يحصل من خلال التطوير الإنتاجي للعلم الذي يجعل إسلام المجتمع غير مقيّد بقيود الظلم، ويجعل المجتمع الإسلامي في مقام جذب الآخرين إليه.
وما يحصل في إيران الإسلام هو مصداق لهذا الإحياء، وقد عبّر سماحة الإمام الخامنئي دام ظله عن هذه الحقيقة في قضية تخصيب اليورانيوم حينما قال: "بعد سنوات سوف ينضب النفط، وحينها ستكون الدول المستقلة غير التابعة منحصرة بالتي خصّبت
اليورانيوم، أمَّا غيرها فإنّه سيتبع لها، لذا فإنّنا نصرّ على تخصيب اليورانيوم حتى لا تلعننا الأجيال القادمة".
3- أن ينطلق العلم من التقوى
عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "من تعلّم علمًا من علم الآخرة يريد به عرضاً من عرض الدينا لم يجد ريح الجنة"20.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "ما ازداد عبد علمًا فازداد في الدنيا رغبة إلا ازداد من الله بعدًا"21.
قال الشاعر:
لو كان العلم من دون التقى شرفًا***لكان أشرف خلق الله إبليس
إنّ من يحقّق شروط العلم هذه سوف يصل إلى حقيقةٍ يعيشها الإنسان، ولكن يصعب عليه أن ينقلها في قوالب البراهين والأدلّة، وهي أنَّ الله تعالى هو الذي يفتح له أبواب العلم المغلقة ليرتقي بها في مدارج الكمال.
من هنا حينما حدّثنا الله تعالى عن رفعة الإنسان في الآية الكريمة: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾22، ذكر عنوانين هما الإيمان والعلم، لكنه عزّ وجل قال في العنوان الأول: "آمنوا"، لأن الإيمان هو فعل ينطلق من الإنسان، لكنه في العنوان الثاني لم يقل "علموا"، بل قال "أوتوا العلم"، لأنَّ الله تعالى هو الذي يفتح للإنسان أبواب العلوم والمعارف فيؤتيه ما لم يعلم.
* كيف نبني مجتمعاً أرقى؟ سماحة الشيخ أكرم بركات.
1- سورة المجادلة، الآية 11.
2- سورة العلق، الآية 1.
3- الحر العاملي، الفوائد الطوسيّة، تحقيق مهدي اللازوردي ومحمد درودي، (لا، ط)، قم، المطبعة العلمية، 1403 هـ، ص 531.
4- أي يتردَّد.
5- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج1، ص184.
6- المصدر السابق، ص188.
7- المصدر السابق، ص 184.
8- المصدر السابق، ج2، 28.
9- المصدر السابق، ص152.
10- الشهيد الثاني، منية المريد، تحقيق رضا المختاري، ط1، مكتب الإعلام الإسلامي، 1409هـ، ص341.
11- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج1، ص171.
12- المصدر السابق، ج1، ص206.
13- المصدر السابق، ج1، 198.
14- المصدر السابق، ج1، ص196.
15- الشهيد الثاني، زين الدين، منية المريد، ص341.
16- المصدر السابق، ص 140.
17- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج1، 32.
18- الشهيد الثاني، زين الدين، منية المريد، ص 141.
19- المصدر السابق، ج1، ص184.
20- المصدر السابق، ج2، ص33.
21- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج2، ص38.
22- سورة المجادلة، الآية 11.