يتم التحميل...

الحياة السياسية للإمام السجاد عليه السلام-3

الحياة السياسية

في تتمة بحثنا حول القضايا المرتبطة بسيرة الإمام السجاد عليه السلام وأساليبه وخططه لإيجاد الأرضية المساعدة للحركة التي يمكن أن تنتهي إلى إقامة الحكومة العلوية الإسلامية، ذكرنا ما ملخصه أن هذه التحركات كانت تتجه إلى التبيين والتوضيح

عدد الزوار: 48

المواجهات الشديدة مع علماء البلاط:

في تتمة بحثنا حول القضايا المرتبطة بسيرة الإمام السجاد عليه السلام وأساليبه وخططه لإيجاد الأرضية المساعدة للحركة التي يمكن أن تنتهي إلى إقامة الحكومة العلوية الإسلامية، ذكرنا ما ملخصه أن هذه التحركات كانت تتجه إلى التبيين والتوضيح عند البعض وإلى التشكيلات والتنظيم بالنسبة للبعض الاخر. وإلى الهداية والإرشاد بالنسبة لاخرين.

وهكذا يتخيل الإمام السجاد عليه السلام من خلال هذه الصورة التي قدمناها إنساناً صبوراً سعى خلال 35 سنة متواصلة إلى جعل تلك الأرضية السيئة جداً في عالم الإسلام، تتجه نحو الظروف التي يمكن له عليه السلام أو لخلفائه أن يحققوا من خلالها المجتمع الإسلامي، والحكومة الإسلامية.

ولو فرضنا أن تلك السنوات الخمس والثلاثين من عمره الشريف لم تكن موجودة لقطعنا بعدم وصول الأمر إلى الإمام الصادق عليه السلام بتلك الحال التي تمكن معها من التصرف والتعاطي الصريح والواضح مع الحكم الأموي، والعباسي فيما بعد.

وعليه، فلأجل إقامة وتحقيق المجتمع الإسلامي، لا بد من الأرضية الفكرية والذهنية وهذا ما يعتبر أهم من أي شي‏ء اخر.
هذه الأرضية التي تطلب تحقيقها في ذلك العصر من عالم الإسلام متحملاً أعباءه الجسيمة وتكاليفه الباهظة.

إلى جانب هذا، نجد في حياة الإمام السجاد عليه السلام بعض المساعي الأخرى التي تدل في الواقع على مدى تقدم الإمام في المجال المذكور.
والقسم الأعظم من هذه المساعي سياسي. وأحيانا شديد القساوة، وأحد نماذجه مواجهته، وكيفية تعامله مع العلماء التابعين، والمحدثين الكبار العاملين لصالح النظام الحاكم.

ولعل أكثر الأبحاث المتعلقة بحياة الأئمة إثارةً هو قضية تعامل الأئمة عليه السلام مع حملة الفكر والثقافة في المجتمع الإسلامي أي العلماء والشعراء.
فالأئمة كانوا يتحملون مسؤولية هداية الناس في أفكارهم وأذهانهم، وأولئك كانوا يوجهون الناس إلى الوضع الذي يريده خلفاء بني أمية وبني العباس. والتسليم لأعمالهم.

احتياج الظلمة إلى وضع الأحاديث:

كما نعلم، فإن الحكام الظالمين: كانوا يرون في جذب قلوب الناس إليهم أهم عامل في بقاء ملكهم وسلطانهم، إذ لم يكن الفاصل الزمني بين الناس وبين صدر الإسلام كبيراً، وبالتالي كان إيمان الناس بالإسلام لا يزال قوياً. فإذا أدرك الناس أن البيعة التي قدموها للحكام ليست صحيحة. وأن هذا الظالم لا يجوز أن يكون خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لو أدركوا ذلك فبالتأكيد لن يرضوا أن يسلّموه قيادتهم بتاتاً. وحتى قلنا أن هذا الأمر لا يشمل الجميع. فعلى الأقل نقول: القدر المسلم به أن الكثيرين كانوا يتحملون الوضع المنافي للإسلام في الجهاز الحاكم نتيجة الإيمان القلبي، إذ أنهم كانوا يظنون أن هذا وضع إسلامي.

ولإبقاء هذه الضبابية في أذهان الناس كان حكام الجور يستغلون المحدثين وعلماء الدين قدر الإمكان ويحركونهم طبقاً لمصالحهم فيطلبون منهم وضع الأحاديث واختلاقها ونسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة الكبار بما يوافق ميولهم وأهواءهم.

نماذج من اختلاق الاحاديث:

في هذا المجال يوجد موارد تقشعر منها الأبدان، ونحن ننقل بعضاً منها كمثال:
في زمن معاوية التقى شخص بكعب الأحبار. ولأن كعباً كانت له صلات حميمة مع معاوية سأل ذلك الشخص من أين أنت؟
قال: من أهل الشام.
قال له: لعلك من ذلك الجيش الذي يدخل منه 70 ألف جندي إلى الجنة بدون حساب.
قال: من هم هؤلاء.
قال: إنهم أهل دمشق.
قال: كلا لست من أهل دمشق.
قال كعب: إذن لعلك من ذلك الجيش الذي ينظر الله إليه كل يوم مرتين(!!).
من هم هؤلاء.
أهل فلسطين.

وربما لو قال ذلك الشخص إنني لست من أهل فلسطين، لأخبره كعب الأحبار أحاديث عن كل من أهالي بعلبك وطرابلس وبقية مدن الشام بحيث يبيّن له أن أهل الشام هم الأفضل، وأنهم أهل الجنة.
وكعب الأحبار كان يختلق هذه الأحاديث ويصفها إما تملقاً لأمراء الشام حتى يكون نصيبه أكثر ومنزلته في قلوبهم أعلى، وأما بسبب العداء المتجذر في نفسه للإسلام وبغية تدمير الأساس العظيم لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ويوجد في كتب التذكرات والرجال والحديث الكثير من هذه القصص. منها قصة ذلك الأمير الذي أرسل ابنه إلى المدرسة (الكتّاب) وهناك ضربه المدرس. عندما رجع الابن باكياً إلى أبيه وأخبره غضب الأب وقال: سأذهب وأضع حديثاً على هذه المدرسة حتى لا يكرروا فعلتهم هذه.

ومن هذه القصة نعلم كم كان سهلاً اختلاق الأحاديث عندهم، حتى لو كان بدافع العصبية أو الشفقة على دموع الطفل.
وعلى أيّ حال فقد كان لهذا الوضع أثر واضح في إيجاد ذهنية وثقافة منحرفة وبعيدة عن الإسلام. كل ذلك بسبب أولئك المحدثين والعلماء العاملين في خدمة السلاطين والأقوياء.

وفي هذا الوضع تعتبر مواجهة هؤلاء عملاً في غاية الأهمية.

بعض الأحاديث المختلقة من محمد الزهري:

يوجد هنا نموذج يبين كيفية مواجهة الإمام السجاد عليه السلام لهذا الوضع:
كان محمد بن شهاب الزهري في البداية أحد تلامذة الإمام السجاد عليه السلام المقربين أي أنه من جملة الذين تعلموا علومهم ونقلوا الأحاديث عن الإمام، ولكن بالتدريج بسبب التجرؤ الذي كان فيه اقترب من نظام الحكم حتى صار أحد أعوانه وتحوّل إلى واحدٍ من الذين واجهوا الإمام.

ولأجل أن نطلع أكثر على وضع الزهري، ننقل عدة أحاديث بشأنه:
أحد هذه الأحاديث، ما جاء عنه: "كنا نكره كتابة العلم حتى أكرهنا عليه هؤلاء الأمراء فرأينا أن لا يمنعه أحد من المسلمين".

ويفهم من هذا الحديث أنه حتى ذلك الزمان لم يكن متعارفاً بين هذه الطائفة من المحدثين بأن كل ما يعلمونه من الأحاديث ينبغي أن يكتبوه، وكذلك يتضح أن محمداً بن شهاب الزهري كان في خدمة الأمراء وأنه كان يحمل على كتابة الأحاديث التي تناسبهم.

أحدهم يدعى معمر كان يقول: كنا نظن أننا قد نقلنا من الزهري أحاديث كثيرة إلى أن قتل الوليد. فعندما رأينا كتباً كثيرة تحمل على ظهور الدواب وتُخرج من خزائن الوليد ويقال: هذا علم الزهري أي أن الزهري وضع من الأحاديث التي تناسب الوليد وأهواءه ما عجزت عن حمله الرجال، ماذا تتصورون أن تكون تلك الأحاديث؟ مما لا شك فيه أنها لا تدين الوليد وإنما تؤيد أعماله وتصحّحها.

ويوجد حديث اخر يتعلق بفترة ارتباط الزهري بالنظام الحاكم، فقد روى اليعقوبي في تاريخه.
إن الزهري نسب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى وأن الصخرة التي وضع رسول الله قدمه عليها تقوم مقام الكعبة.

ويعود هذا الحديث إلى ذلك الزمان الذي كان عبد الله بن الزبير حاكماً على مكة. والناس الذين يريدون الحج بطبيعة الحال لا بد وأن يدخلوا مكة. وهي تحت نفوذ ابن الزبير وكانت تلك الأيام فرصة مناسبة له للتبليغ ضد أعدائه وخاصة عبد الملك بن مروان ومن جانب اخر بما أن عبد الملك كان يدرك خطورة هذا الأمر، ولكي يمنع الناس من الذهاب إلى مكة رأى أن أفضل الطرق هو وضع أحاديث تبيّن أن شرافة القدس بمنزلة شرافة مكة: ونحن نعلم في العرف والثقافة الإسلامية أنه لا توجد منطقة في العالم توازي الكعبة شرفاً ومكانةً ولا يوجد حجر في الدنيا يضاهي الحجر الأسود. فكانت تلك الأحاديث المجعولة وسيلة لعبد الملك لكي يدفع الناس للذهاب إلى المسجد الأقصى الذي كان تحت نفوذه بدلاً من مكة المكرمة.

فإلى أي مدى كان لهذه الأحاديث تأثير في نفوس الناس وأفعالهم؟ وهل حدث في زمن ما أن الناس حجوا إلى بيت المقدس بدلاً من مكة أم لا؟ ولو حدث ذلك لكان ينبغي أن نعد المجرم الأصلي أو أحد المجرمين محمداً بن شهاب الزهري الذي حرف الأمر في أذهان الناس لأجل مارب عبد الملك السياسية.

وعندما يصبح الزهري تابعاً لجهاز الخلافة، فلن يمنعه شي‏ء من وضع الأحاديث ضد الإمام السجاد عليه السلام والتنظيمات العلوية منها ما وجدته في كتاب "أجوبة مسائل جار الله" تأليف المرحوم السيد عبد الحسين شرف الدين حيث يدعي الزهري في رواية أن أمير المؤمنين كان جبرياً، وينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في معنى الإنسان في الاية: وكان الإنسان أكثر شي‏ء جدلاً أنه أمير المؤمنين عليه السلام (والعياذ بالله).

في رواية أخرى ينقل أن حمزة سيد الشهداء كان شارب خمر. وإنما جعل هاتين الروايتين لدعم الجبهة السياسية لعبد الملك وبني أمية مقابل أئمة الهدى عليه السلام، وبالتالي لنسف صورتهم بعنوان أنهم المسلمون الأوائل، ويعرفهم على أنهم مثل غيرهم من العوام والمقصرين في تطبيق أحكام الدين.

وهذه الرواية تشير إلى وضعية محمد بن شهاب الزهري في مرحلة التبعية والإرتباط ببلاط الحكم. ومن يطالع في أوضاعه الإجتماعية والفكرية تتبين له شخصيته بشكل واضح. وأنا أترك هذا الأمر إلى كتب الرجال.

حسناً، مثل هذا الشخص الذي يتمتّع بنفوذ ومنزلة عالية في جهاز الحكم وبين الناس، لا شك أنه يعد خطراً حقيقياً على الثورة الإسلامية، وينبغي أن يتّخذ موقف بشأنه.
الموقف الشديد للإمام السجاد عليه السلام من علماء البلاط بالنسبة للزهري وأمثاله فقد وقف الإمام السجاد عليه السلام موقفاً حازماً وقاسياً جداً حيث يلحظ من خلال الرسالة التي وجهها إليه.

وقد يتساءل البعض إلى أي مدى يمكن أن تعكس "الرسالة" هذا الموقف الشديد، ولكن بالإلتفات إلى شدة اللهجة في مضمون هذه الرسالة الموجهة إلى نفس الزهري وكذلك بالنسبة للجهاز الحاكم وأنها لا تنحصر بمحمد بن شهاب بل كانت تقع في أيدي الاخرين وتنتقل عبر الألسن وتبقى عبر التاريخ (كما أننا اليوم وبعد أكثر من 1300 سنة نتناولها بالبحث). بالإلتفات إلى هذه الأمور، يمكن أن ندرك حجم الضربة التي وجهت للقداسة الشيطانية والإصطناعية لمثل أولئك العلماء. لقد كانت الرسالة خطاباً لمحمد بن شهاب ولكنها نالت من أشخاص اخرين على شاكلته. ومن المعلوم أن هذه الرسالة عندما تقع بأيدي المسلمين وبالأخص شيعة ذلك العصر وتنتقل عبر الأيدي فأي سقوط لهيبة هؤلاء ومكانتهم في الأعين!!

وهنا ننقل مقاطع من هذه الرسالة:

في البداية يقول عليه السلام: "كفانا الله وإياك من الفتن ورحمك من النار".
في الجزء الثاني من هذه الجملة نجده يخصه بالخطاب، لماذا؟ لأن كل إنسان يتعرض للفتن حتى الإمام السجاد عليه السلام بدون أن يسقط فيها ومحمد بن شهاب يتعرض للفتنة ولكنه سقط، أما بالنسبة لنار جهنم فإنها لا تقترب من الإمام زين العابدين عليه السلام ولهذا خصّ الكلام هنا بالزهري. وابتداء الرسالة بمثل هذه اللهجة دليل على تعامل الإمام معه بطريقة تحقير ومعاداة.

ثم يقول عليه السلام: "فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك بها أن يرحمك".
ودققوا هنا في هذه الجملة، لمن الخطاب فيها؟

إنها موجهة لشخص يغبطه الجميع على حاله. فهو أحد العلماء الكبار المقربين للنظام الحاكم، بينما نجد الإمام عليه السلام يبينه ضعيفاً ووضيعاً. بعد ذلك يشير الإمام عليه السلام إلى النعم التي حباه الله بها والحجج التي أتمها عليه ثم يقول: "إنه مع وجود تلك النعم من الله، هل تستطيع أن تقول كيف قد أديت شكرها".

ويذكر جملة من ايات القران ويقول: "إن الله تعالى لن يرضى أبداً عن قصورك وتقصيرك لأنه سبحانه قد أمر العلماء بتبيين الحقائق للناس: "لتبيننه للناس ولا تكتمونه"".
وبعد هذه المقدمة يحمل عليه بطريقة قاسية جداً بقوله عليه السلام: "واعلم أن أدنى ما كتمت، وأخف ما احتملت، أن انست وحشة الظالم، وسهلت له طريق الغي بدنوّك منه حين دنوت وإجابتك له حين دُعيت".

ويظهر هذا الكلام الذي يطرحه الإمام عليه السلام بشكل واضح ارتباطه بجهاز السلطة: "إنك أخذت لك ممن أعطاك. ودنوت ممن لم يرد أحد حقاً ولم ترد باطلاً حين أدناك".

(وهو الخليفة الظالم) فبأي عذرٍ تبرر عدم إرجاعك للحقوق الضائعة وإزالة المظالم الكثيرة. "وأحببت من حاد الله".

والجملة المؤثرة جداً في هذه الفترة الفقرة عندما يقول عليه السلام: "أوليس بدعائه إياك. حين دعاك. جعلوك قطباً أداروا بك رحى مظالمهم وجسراً يعبرون عليه إلى بلاياهم وسلماً إلى ضلالتهم داعياً إلى غيهم سالكاً سبيلهم، يدخلون بك الشك على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم". ثم يقول: "فلم يبلغ أخص وزرائهم ولا أقوى أعوانهم إلا دون ما بلغت من إصلاح فسادهم".

وفي هذه الرسالة الشديدة اللهجة والبليغة يفضح الإمام السجاد تلك الحركة السياسية التي استغلت الفكر والعلم. فأولئك الذين قبلوا مهادنة النظام أصبحوا مطالبين بإجابة عن السؤال الذي بقي في المجتمع الإسلامي وسوف يبقى عبر التاريخ.

إنني أعتبر هذا إحدى مراحل حياة الإمام السجاد عليه السلام المهمة خاصة بل قام بحركة سياسية وبالطبع يوجد قسم اخر في هذا المجال يتعلق بالشعر والشعراء سوف نتعرض له فيما بعد.

تكتيك بداية المرحلة الثالثة لحركة الأئمة عليه السلام:

بالقدر الذي اطلعت فيه على حياة الإمام السجاد عليه السلام والذي ما زلت أذكره أنه لا يوجد مواجهة أو تعريض صريح وقاطع ضد الحكام من قبيل ما نشاهده في حياة بعض الأئمة عليه السلام الاخرين كالإمام الصادق عليه السلام في عصر بني أمية، أو الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام.

وسببه واضح، لأن مثل هذا التحرك الشديد الذي كان في بداية حركة الأئمة عليه السلام كان في المرحلة الثالثة من المراحل الأربع للإمامة، والتي تبدأ في حياة الإمام السجاد. سوف يعرّض قافلة أهل البيت عليه السلام التي تحمل أعباء مسؤولية الرسالة للخطر الذي لا يؤدي إلى تحقيق المقصد. ففي ذلك الوقت لم يكن بستان أهل البيت الذي تعهَّد الإمام السجاد عليه السلام بتربيته وسقايته قد استحكمت غصونه وأشجاره.

وكما أشرت في بداية هذا البحث، فقد كان عدد المحبين والموالين لأهل البيت عليه السلام قليلاً جداً، وفي ذلك العصر لم يكن من الممكن لأولئك الذين سيتحملون مسؤولية التنظيمات الشيعية أن يواجهوا خطر العدو الجائر.

وإذا أردنا أن نمثل، ينبغي أن نشبه عصر الإمام السجاد عليه السلام هذا بمرحلة بدء الدعوة الإسلامية في مكة وهي المرحلة السرية. ولعله يمكن تشبيه عصر الإمام الباقر عليه السلام بالمرحلة الثانية في مكة حين أصبحت الدعوة علنية. ولهذا فإن المواجهة في تلك المرحلة لن تكون سليمة.

ومما لا شك فيه أننا إذا لاحظنا المواجهات الحادة في بعض كلمات الإمام الصادق والإمام الثامن عليهما السلام فيما لو صدرت عن الإمام السجاد عليه السلام، فإن عبد الملك بن مروان الذي كان في أوج قدرته كان يستطيع وبكل سهولة أن يطوي بساط تعاليم أهل البيت عليه السلام، وهذا ليس عملاً عقلائياً، لكن على كل حال، يمكن أن نشاهد في ثنايا كلمات الإمام زين العابدين عليه السلام والتي ترجع على وجه الإحتمال إلى أواخر حياته الشريفة، إشارات أو مظاهر لتعرضه ومواجهته لنظام الحكم.

أمثلة مواجهة الإمام عليه السلام:

كانت تلك المواجهات تظهر بعدة أشكال. وأحد أشكالها هو ما لاحظناه في تعامل الإمام السجاد عليه السلام مع محمد بن شهاب الزهري. والشكل الاخر يظهر من خلال بيان موقف ومكانة الخلفاء الأمويين على ضوء التعاليم والإرشادات الدينية العادية.

ويوجد حديث عن الإمام الصادق عليه السلام يقول: "إن بني أمية أطلقوا للناس الإيمان ولم يطلقوا الشرك حتى إذا حملوهم عليه لم يعرفوه".
فبنو أمية كانوا يسمحون للعلماء وأهل الدين، ومن جملتهم الأئمة عليه السلام، بالتحدث حول الصلاة والحج والزكاة والصيام والعبادات، وكذلك حول التوحيد والنبوة والأحكام الإلهية. لكنهم لم يسمحوا بالبحث في مفهوم الشرك ومصاديقه وأمثلته في المجتمع. تلك التعاليم المرتبطة بالشرك لو دّرِّست للناس، لفهموا مباشرة من هم المشركون، وأن ما يحملهم عليه بنو أمية ليس إلا الشرك، ولعلموا فوراً أن عبد الملك والخلفاء الباقين من بني أمية هم طواغيت يبارزون الله، وأن إطاعتهم تعد شركاً بالله.

ولهذا لم يكونوا ليسمحوا للناس بتعلّم هذه المفاهيم.
نحن عندما نبحث في الدين الإسلامي حول التوحيد، فإن قسماً مهماً من هذا البحث يرتبط بمعرفة الشرك. ما هو الصنم ومن هو المشرك؟
وللمرحوم العلامة المجلسي عليه السلام في بحار الأنوار الجزء 48 نص رائع يقول فيه: "إن ايات الشرك ظاهرها في الأصنام الظاهرة وباطنها في خلفاء الجور الذين أشركوا مع أئمة الحق ونصبوا مكانهم".

فأئمة الحق هم خلفاء الله وهم ينطقون عن الله، ولأن خلفاء الجور قد نصبوا أنفسهم مكانهم وادعوا الإمامة، فقد أصبحوا أصناماً وطواغيت فكل من يطيعهم يعدّ مشركاً بالله.
وللعلامة بعد هذا شرح قيم. فهو يبين أن الايات القرانية ليست مختصة بعصر الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، بل هي سارية وجارية في كل العصور والأزمان: "فهو يجري في أقوام تركوا طاعة أئمة الحق واتبعوا أئمة الجور لعدولهم عن الأدلة العقلية والنقلية واتباعهم الأهواء، وعدولهم عن النصوص الجلية".

ومن هنا نرى أن الأئمة عليه السلام إذا أرادوا أن يبينوا حقيقة الشرك فإنهم بذلك يقومون بما يشبه المواجهة مع نظام الحكم. وهذا ما يظهر في كلمات الإمام السجاد عليه السلام.

ونموذج اخر من تلك الأمثلة في المواجهة ما نشاهده في المكاتبات والرسائل بين الإمام السجاد عليه السلام وعبد الملك (الخليفة الأموي المتجبّر) أشير إلى اثنين منهما هما:
1- في إحدى المرات يكتب عبد الملك رسالة إلى الإمام السجاد عليه السلام يلومه فيها على زواجه من إحدى جواريه. وكان للإمام جارية اعتقها ثم تزوجها. فشمت به عبد الملك. وكان عمل الإمام عملاً إنسانياً وإسلامياً صرفاً. ولكن دافع عبد الملك من تلك الرسالة كان التعرض للإمام. وإفهامه بأنه مطلع على مسائله الخاصة موجهاً له بذلك تهديداً ضمنياً. فأجابه الإمام عليه السلام برسالة بدأها بتوجيه أمر الزواج وأن العظام يفعلون مثل هذا الأمر، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قام به: "فلا لؤم على امرئ مسلم إنما اللؤم لؤم الجاهلية".

وهو يريد أن يذكره بسوابق أجداده في الجاهلية (من كفرهم وعنادهم).. عندما وصلت الرسالة إلى عبد الملك، كان ابنه سليمان حاضراً وعندما قرأها سمعه، وسمع ذمّ الإمام وأحسّ به مثل أبيه، فالتفت إليه قائلاً: يا أمير المؤمنين! أترى كيف يتفاخر عليك علي بن الحسين عليه السلام؟. يريد بذلك أن يحرض والده على رد فعل شديد. ولكن عبد الملك كان أعقل من ولده فقال له: لا تقل شيئاً يا ولدي! فهذا لسان بني هاشم الذي يغلق الصخر. (أي إن استدلالهم قوي وقاس).

2- النموذج الثاني: المراسلة الأخرى التي تمت بين الإمام وعبد الملك ومجرياتها.
علم عبد الملك أن سيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم موجود عند الإمام عليه السلام، وكان هذا أمراً ملفتاً وباعثاً على التفاخر. وكذلك فإن وجوده يعد خطراً على الخليفة، لأنه يجلب أنظار الناس إليه فكتب إليه يطلب منه تسليم السيف، ووعده بإنجاز ما يريد.

ورد عليه الإمام عليه السلام فأعاد عبد الملك مرة ثانية تهديده بوقف حصة الإمام من بيت المال إن لم يرسل السيف.
فأجابه الإمام: "أما بعد فإن الله تعالى وعد عباده المتقين بنجاتهم من المحن ومن "يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب". وقال: "إن الله لا يحب كل خوان كفور" (فانظر أينا ينطبق عليه الكلام).

وهذه لهجة قاسية جداً أمام الخليفة، لأن تلك الرسالة إذا وقعت بيد أي إنسان فسوف يعلم أولاً: أن الإمام لا يعد نفسه خواناً.

ثانياً: لا يتصور أحد هذا الأمر بحق هذا الإنسان الجليل الذي تربى في بيت النبوة. وهذا يعني: أنك أنت أيها الخليفة خوان وكفور. وإلى هذا الحد كان الإمام شديداً مقابل التهديد.
كانت هذه النماذج من مواجهة الإمام للحكم، وإذا أردنا أن نضيف نموذجاً اخر ينبغي أن ننظر إلى الأشعار التي نقلت عن الإمام السجاد أو عن أصحابه ومحبيه، فهي تمثل نوعاً اخر من المواجهة.
مواجهة أصحاب الإمام السجاد عليه السلام ومحبيه من قبيل الفرزدق ويحيى بن أم الطويل للنظام الحاكم كان يعد نوعاً من مواجهة الإمام للحكم.

مواجهة الفرزدق ويحيى:

للإمام عليه السلام أشعار لم أستطع العثور عليها ولكن لا شك أنها موجودة وهي في غاية القوة والتحدي والثورة. ويمكن اعتبار شعر الفرزدق نموذجاً أخراً. فقد نقل المؤرخون والمحدثون هذه الحادثة (وما ملخصها):

عندما قدم هشام بن عبد الملك قبل فترة خلافته إلى الحج وأثناء الطواف أراد أن يتقدم لاستلام الحجر الأسود ولكن العدد الهائل والإزدحام الكبير منعه من الوصول، رغم محاولاته المتكررة مع أنه كان ابن الخليفة ومحاطاً بالمرافقين والحواشي ولكن الناس كانوا يمرون من حوله بدون اكتراث فيئس من استلام الحجر وقعد جانباً منتظراً انصراف الناس، وكان أصحابه جالسين حوله، وفي الأثناء يأتي رجل يعلوه الوقار والهيبة سيماه سيماء الزاهدين وجه الملكوتيين يسطع من بين الحجاج كالشمس فتنحّى الناس له جانباً ليمر من بينهم ويصل إلى الحجر الأسود فيقبّله ثم يرجع للطواف مجدّداً.

فصعب ذلك على هشام كثيراً، وهو يرى نفسه ابن الخليفة ولا أحد يعطيه أية قيمة بل يبعدونه بالركل والمطاحنة، ثم من جانب اخر يظهر رجل يصل إلى الحجر الأسود بكل هدوء.

فسأل غاضباً من هذا؟ وكان حواشيه يعرفون أنه علي بن الحسين عليه السلام ولكن لئلا يغضب منهم لم يقولوا شيئاً لأنهم يعلمون بوجود العداء المتجذر بين بني أميةّ وبني هاشم فلم يريدوا أن يقولوا أن هذا كبير العائلة المعادية لكم والناس يظهرون له كل هذا الحب والإحترام لأنهم اعتبروا ذلك نوعاً من الإهانة لهشام.

كان الشاعر الفرزدق من المحبّين لأهل البيت عليه السلام حاضراً هناك وقد رأى تجاهلهم وإنكارهم لعلي بن الحسين عليه السلام فتقدم قائلاً: أيها الأمير، هل تسمح لي بأن أعرّفك عليه.

فقال هشام قل، فانطلق لسان الفرزدق بقصيدة من أشهر القصائد الشعرية التي قيلت بحق أهل البيت عليه السلام. وبدأها بهذا البيت:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته         والبيت يعرفه والحل والحرم‏
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله           بجده أنبياء الله قد ختموا


وكانت أبيات هذه القصيدة كوقع السيوف على قلب هشام فغضب منه وطرده، من جانب اخر أرسل إليه الإمام عليه السلام مالاً فلم يقبله وقال: "ما قلته لله لم أرد منه مالاً".

وهكذا نشاهد مثل هذه المواجهات عند أصحاب الإمام ونموذج اخر ما قام به يحيى ابن أم الطويل.
كان يحيى ابن أم الطويل من الشباب ذوي البأس الشديد والشجاعة الفائقة وأحد المخلصين لأهل البيت عليه السلام، وكان يذهب دائماً إلى الكوفة ويجمع الناس ويصرخ فيهم: "أيها الناس، إنني كافر بكم ولا أقبل بكم حتى تؤمنوا بالله". وهو يقصد أولئك الذين كانوا يتبعون بني أميّة.

تعرض بني أمية للإمام السجاد عليه السلام:

كان هذا مختصراً لحياة الإمام السجاد عليه السلام، فرغم أن مرحلة إمامة الإمام السجاد عليه السلام التي امتدت إلى أكثر من 34 سنة كانت بعيدة عن المواجهة المباشرة للنظام الحاكم ولكن نشر بساط الإمامة الواسع وتعليم وتربية العديد من الأفراد المؤمنين والمخلصين وتوضيح دعوة أهل البيت عليه السلام كان من أعظم إنجازاته. وهذا ما جعل بني أمية يمقتون الإمام ويتعرضون له. وكانوا من قبل قد جروه بالأصفاد والأغلال، ولم يحدث هذا في كربلاء، فقط وإنما تكرر في زمن اخر أيضاً. وقد تعرضّوا له في موارد عديدة. واذاه أعوانهم حتى وصل بهم الأمر سنة 95 للهجرة في زمن الوليد بن عبد الملك إلى تسميمه فارتفع إلى جوار ربه شهيداً.


* بحوث في الحياة السياسية لأهل البيت عليهم السلام, سلسلة المعارف الإسلامية , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

2013-04-01